من كروز إلى ترامب.. التوظيف السياسي لتفجيرات بروكسل الأخيرة

أميركا «الأنتروبية» والفرار إلى الراديكالية الدينية

إجراءات أمنية مشددة أمام إحدى المحاكم التي تنظر قضايا التفجيرات الأخيرة في بروكسل (أ. ف. ب)
إجراءات أمنية مشددة أمام إحدى المحاكم التي تنظر قضايا التفجيرات الأخيرة في بروكسل (أ. ف. ب)
TT

من كروز إلى ترامب.. التوظيف السياسي لتفجيرات بروكسل الأخيرة

إجراءات أمنية مشددة أمام إحدى المحاكم التي تنظر قضايا التفجيرات الأخيرة في بروكسل (أ. ف. ب)
إجراءات أمنية مشددة أمام إحدى المحاكم التي تنظر قضايا التفجيرات الأخيرة في بروكسل (أ. ف. ب)

مع تقدم حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية يتزايد التوظيف السياسي للدين، والعزف على أوتار الأصولية الدينية اليمينية المسيحية، بنوع خاص في الولايات المتحدة. ويبدو من سوء الطالع أن أحداثا بعينها أضحت تزخّم هذا التوظيف عملا بمقولة «أبي البراغماتية السياسية» التي توظف الأديان والإنسان لخدمتها، نيكولا مكيافيللي «الدين ضروري للحكومة، لا لخدمة الفضيلة». ولعل أبرز هذه الأحداث، العمليات الإرهابية الأخيرة التي كان مدينة بروكسل، عاصمة بلجيكا والاتحاد الأوروبي، ومقر حلف شمال الأطلسي «ناتو».
جاءت أحداث الإرهاب الأخيرة في العاصمة البلجيكية بروكسل بمثابة جائزة على طبق من ذهب للمتنافسين في سباق الرئاسة الأميركية. ويلحظ المرء هنا أن التوظيف المشار إليه يكاد ينحصر في الحزب الجمهوري الذي بات يدغدغ مشاعر التيارات المسيحية الإنجيلية، عطفا على بعض غلاة اليمين من التيارات الكاثوليكية المتشددة. وهؤلاء يشكلون، ولا شك، مفتاحا جوهريا في طريق الوصول إلى البيت الأبيض، وتجمعهم في واقع الحال رؤية دينية واحدة، ومصالح اقتصادية مرتبطة ارتباطا جذريا بالمجمع الصناعي العسكري الأميركي، المحرك الأول والرئيس للحروب حول العالم، وإن ارتدت زيا دينيا منخولا.
يتوجب علينا، ربما قبل الخوض في عملية تحليل المضمون لواقع الحال الديني الأصولي اليميني الأميركي، الذي قاد الولايات المتحدة في سنوات إدارة رونالد ريغان وتحكّم بمواجهته مع الاتحاد السوفياتي، والذي استعلن كذلك في أيام جورج بوش الابن وأدى إلى المواجهة مع طالبان في أفغانستان، ثم غزو العراق، يستوجب، ولو في اختصار غير مخل التأصيل للظاهرة.
يمكننا القول: إن تعبير «الأصولية» نُحت في عام 1920 في الولايات المتحدة على يد القس المعمداني والصحافي كورتيس لي لوز، الذي تعهد بأن المؤمنين «سيخوضون معركة حامية الوطيس من أجل الأصول». ولعل المتابع المحقق والمدقق للحياة الفكرية في الولايات المتحدة طوال العقدين الماضيين يرصد سلسلة مؤثرة من المقالات لمائة كاتب من مختلف المشارب والتوجهات الدينية، ركّزت على العناصر المفتاحية في الدين المسيحي، بعنوان «الأصول» شهادة على الحقيقة، وقد مثل هؤلاء الكتاب حركة قوية بين البروتستانت المحافظين والإنجيليين رفضت انتشار التفسيرات التاريخية - النقدية للكتاب المقدس، وعدت طرائق التفسير الجديدة خيانة للحقيقة المطلقة للإنجيل.
وفي الوقت ذاته، كان هؤلاء الأصوليون الأوائل يردّون بشكل صارم وسلبي على النزعات الليبرالية والشيوعية، وغيرها من النزعات الملحدة التي تزايدت وانتشرت في المجتمع الأميركي.
أما تعبير «أصولية» فقد وعد بتوفير أرضية آمنة للمؤمنين بالكتاب المقدس، والمتشبثين بإيمانهم وبقوة مبادئهم الأخلاقية، والملتزمين بالوقوف بصلابة في وجه نزعات الانحطاط والانحلال في العصر الحديث. والثابت، أن تيار الأصولية اليمينية يتجلى بنوع خاص في أوساط الجمهوريين الأميركيين الذين يميلون إلى تشكيل سبيكة النسيج الاجتماعي الأميركي للمؤمنين، بخلاف الديمقراطيين الذين تعد العلمانية حجر الزاوية بالنسبة إليهم. ومن هذا المنطلق، يمكن فهم مواقف كل من دونالد ترامب وتيد كروز المرشحين الأبرز الساعيَين للحصول على بطاقة الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية القادمة.
إذا توقفنا أمام ترامب، الذي يعد ظاهرة مثيرة للجدل على الساحة السياسية الأميركية والذي يشكل حجر عثرة، لا نقطة ارتكاز للأميركيين عادة وللجمهوريين خاصة، نجد أنه يغازل التيارات اليمينية المسيحية، التي تؤمن بفكر المطلق الأصولي. ذاك الذي يقصي الآخر مرة وإلى الأبد. وبصراحة العبارة، غالبا ما تدور الدوائر حول الآخر «المسلم» تحديدا، وبالعزف على أوتار الإسلام السياسي، كأحد المصادر الرئيسة للإرهاب في تفسير اليمين الأميركي الديني وتبريره، وحتى لو لم يكن ترامب نفسه مؤمنا أو طقوسيا، إنما هي «الميكافيللية» بعينها.
والواقع، أنه منذ بداية حملته الانتخابية وضع ترامب يده على الجرح الذي لا يزال مفتوحا عند الأميركيين، والمتمثل في العلاقة مع المسلمين في الداخل والخارج. ولقد خيل لكثيرين، أن عقد ونصف العقد من الزمن منذ أحداث سبتمبر (أيلول) 2001. فترة كفيلة بمداواة جرح واشنطن ونيويورك. لكن ما جرى في باريس وبروكسل، أعطى ترامب فرصة ذهبية للسيطرة على مقدرات ملايين الأميركيين، أو في أضعف الأحوال محاولة الهيمنة عليها وتوجيهها إلى صناديق الاقتراع لانتخابه رئيسا للبلاد.
لقد طالب ترامب بإغلاق أميركا في وجه «المسلمين الجدد»، إن جاز التعبير، أي القادمين إليها لاجئين أو مهاجرين. وقال، إنه سيفكر بجدية في إغلاق عدد من المساجد، ووضع عدد آخر تحت المراقبة. وأبعد من ذلك، تعهد بأنه حال الوصول إلى البيت الأبيض سيصدر هويات شخصية خاصة بالمسلمين، وربما يمضي في طريق إنشاء قاعدة بيانات لتسجيل جميع المسلمين المقيمين في أميركا وتتبعهم.
وفي أعقاب حادثة بروكسل، شكك ترامب في وطنية المسلمين الأوروبيين والأميركيين معا، واصفا إياهم بمعنى قريب من «الخيانة»، إذ إنهم «لا يبلغون عن الأنشطة المثيرة للريبة، وإن قادت إلى وفاة الناس في عمليات إرهابية».
يعلم ترامب جيدا، وكذا العقول المفكرة في حملته، أن هذه الاتهامات سيتلقفها ربع الراشدين من الشعب الأميركي تقريبا الذين ينحون إلى اليمين المسيحي، والعهدة هنا على الراوي، البروفسور وليم مارتن، أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة رايس الأميركية.
ويرصد كذلك الكاتب الأميركي، داميان طومسون، في كتابه «نهاية الوقت - العقيدة والخوف في ظل الألفية»، أن نسبة نمو المسيحية الإنجيلية في أميركا تزيد على أي اتجاه ديني آخر في العالم. وتؤكد صحة هذا الكلام الدراسة التي نشرت يوم 13 مايو (أيار) عام 2015. الصادر عن مركز بيو للأبحاث في واشنطن، إذ أشارت إلى أن الإنجيليين الأميركيين الذين تتجاوز نسبتهم ربع الأميركيين في ازدياد عددي، كما أن المسحة الدينية لأميركا بشكل عام تبدو واضحة، إذ يعرّف 70 في المائة من الأميركيين أنفسهم بوصفهم مسيحيين.
أما العالم الأميركي البروفسور جون غرين، من جامعة أكرون، فيقدر عدد الذين يتمسكون بالأصولية الإنجيلية الساعية للمواجهة الحتمية بين «الذين معنا والذين ضدنا»، وحالة التقابل المانوي التاريخي، بين «مدينة الله» و«مدينة البشر»، أو بالمفهوم الإسلامي «دار الحرب» و«دار الإسلام»، بنحو 62 مليون أميركي.
وما يلفت النظر في الحديث الخطابي الانتخابي لترامب، أن مفرداته تكاد أن تتطابق مع العبارات ذاتها التي تفوه بها من قبل بضع سنين بوش الابن، فترامب يصرح الآن بأن الله ـ وحاشا لله بالطبع - «اختارني لإنقاذ الأمة من العابثين بها». هو الخطاب نفسه، الفوقي الثيولوجي المنحول لبوش الابن في حديثه عن غزو العراق، وكيف أن السماء قد كلّفته دون البشر، بهذه المهمة. ولم يكن غريبا عليه ذلك، فقد ثبتت والدته باربارا بوش في مخياله الفكري قبل عقود أن شبها ما يربط بينه وبين النبي موسى. وكما أن موسي أخرج العبرانيين من أرض مصر، فإن بوش قادر على إخراجهم من وهدة الليبرالية وضلال العلمانية، إلى نور الدوغائية المسيحية المتشددة، الأمر الذي أثبتت التجربة والحكم فشله فشلا ذريعا.
لا يتوقّف الزخم اليميني الأميركي عند ترامب، بل يمضي كذلك لجهة مرشح آخر، من الجمهوريين كذلك، وحتى وإن لم تكن حظوظه، راهنا، تطال حظوظ ترامب، غير أنه، حكما، سيكون له دور بارز على خريطة الحياة السياسية الأميركية في المستقبل.
نتحدث هنا، ولا شك، عن السيناتور تيد كروز، المحامي المثقف والآيديولوجي صاحب المنهجية والكاتب المثقف خريج كبريات الجامعات الأميركية، والمحامي التكساسي، الذي يعد أكثر خطورة من ترامب العشوائي التفكير. لم تبدأ مغازلة كروز للتيار اليميني المسيحي مع هذه الحملة الانتخابية الرئاسية، وهذا يدلل على أنه صاحب رؤية زمنية مرتبة وواضحة منذ وقت بعيد. ورغم مواقفه الحديثة، فإن الأخطر في تواصله مع اليمين الأميركيين يرجع إلى الوراء وبقوة.
وطبعا، ما كان كروز ليفوّت فرصة حادثة بروكسل ليثير مشاعر الخائفين في الداخل الأميركي، ولهذا رأيناه يدعو السلطات الأميركية إلى منح دوريات الشرطة صلاحيات أكبر لمراقبة الأحياء التي تقطنها غالبية مسلمة، تجنبا لظهور نزعات راديكالية فيما بينهما.
وفي تدويناته على وسائط الاتصال الاجتماعي بعد ساعات من مأساة بروكسل، كان من الواضح جدا أننا أمام نسق للتفكير «الهنتنغتوني» (نسبة للمؤرخ صامويل هنتنغتون) الصدامي، إن جاز التعبير. إذ عدّ أن العالم بالفعل مقسّم لمعسكرات ثقافية وحضارية بين «نحن» و«هم». ولهذا كتب كروز يقول: «إننا جزء من ثقافة لا يحتملونها، ولهذا تعهّدوا بتدميرها. والآن يشهد حلفاؤنا الأوروبيون ما نتج من المزيج السام للمهاجرين الذين تداخل معهم الإرهابيون».
هذا الطرح، بلا شك، يلقى هوىً واسعا داخل صفوف اليمين الأميركي الرافض لاستقبال مزيد من المهاجرين من جهة، ويقلص من مساحات الوصل والتواصل مع المسلمين الوطنيين والمواطنين الطبيعيين في الداخل الأميركي، بل يضع العصا في دواليب التعايش السلمي بين الجميع، وبذا يحقق فكرة التمايز العنصري الثقافي والحضاري والديني في نهاية الأمر.
أما عن القديم في آليات كروز، فيتمثل في محاولاته الدءوبة لاستمالة غلاة اليمين المتطرف من مسيحي الولايات المتحدة عبر «كعب أخيل» في الفكر الديني الأميركي، أي إسرائيل والرؤى التوراتية، التي تشكل جدارا سميكا لليمين الأصولي.
ذلك أنه في الحادي عشر من سبتمبر من عام 2014. كانت العاصمة الأميركية واشنطن تستضيف مؤتمرا «للدفاع عن مسيحيي الشرق الأوسط». وفي تلك الليلة، كان السيناتور كروز أحد المتحدثين الرئيسين في اللقاء، ولقد استغل الفرصة لتوجيه هجمات إلى تيار المسيحيين العرب الذين يرون في إسرائيل دولة احتلال و«فصل عنصري»، والذين يرفضون واقع الدعم الأميركي لإسرائيل.
ولم يكن في واقع الحال شأن المسيحيين العرب، قضية تهم كروز في كثير أو قليل، بل كان الأمر بمثابة تقديم مسوّغات قبول لليمين الأصولي الأميركي الذي يرتكن ارتكانا مطلقا على «العهد القديم» والذي يرى في الأرض الأميركية «أرض كنعان الجديدة»، وفي الأميركيين «الشعب المختار الجديد».
ومنذ بضعة أسابيع، أطلقت بعض الأصوات المعروفة بعمق تحليلها للشؤون الأميركية عبر عقود طوال، على الانتخابات الرئاسية للعام 2016 وصف «الانتخابات الهرمجدونية» والمعروف أن «هرمجدون» (أو آرماجدون) هي قمة الحبكة الدرامية للرواية اليمينية الإنجيلية، البروتستانتية، التي تداخلت بشكل كبير مع عالم السياسة الأميركية منذ بداية ثمانينات القرن الماضي، وصولا إلى بوش الابن، وها هي كما نرى تتصل بترامب وكروز.
«هرمجدون»، للذين لا يعلمون، هي فكرة الحرب الكونية التي لا بد لها أن تحدث بين «جيوش الشر» القادمة من الشرق، و«جيوش الخير» الآتية من الغرب، والمدينة المقدسة أورشليم القدس هي موقعها وموضعها. وتدخل الفكرة برمّتها في سياق ما يعرف بالتفكير «الأبوكاليبسي» عند غلاة اليمين المسيحي من جديد، وتأتي استعلانا «أسكاتولوجيا» يتصل بنهاية الأزمنة وقيام الساعة.
هذه الفكرة روج لها رونالد ريغان، وجراءها طرح مشروعه المعروف بـ«حرب النجوم»، وبسببها حرّك بوش الابن جيوشه إلى أفغانستان والعراق شرقا، ولهذا يرقص من حولها ترامب وكروز، واضعين التقسيم المؤلم لصامويل هنتنغتون من جديد، معسكر إسلامي – كونفوشيوسي شرقي، في المواجهة مع عالم مسيحي - يهودي غربي من ناحية أخرى.
وتاريخيا، تزداد وتيرة الأصولية مع الأزمات. ولقد ارتفع المد الأصولي الأميركي إلى عنان السماء في أعقاب الخسائر الفادحة التي حلت بالأميركيين في حرب فيتنام في ستينات القرن المنصرم. وعدّ الأميركيون يومذاك، أن يد الله تخلت عنهم، في حين ساندت دولة إسرائيل الصغيرة، التي، رغم عدد سكانها القليل جدا وإمكاناتها التي لا تقارن البتة مع قدرات أميركا العظمى، استطاعت أن تحتل من أراضي العرب والمسلمين في ست ساعات. ومن ثم استنتج هؤلاء أن «الرب يناصر الإسرائيليين ويتخلى عن الأميركيين الذين غرقوا في الحداثة، وما من حل إلا العودة إلى الأصول الدينية من جديد»، وهو ما جرت به المقادير فعلا وقولا.
اليوم تجد الولايات المتحدة ذاتها في أزمات هوية، تولّدت عن إشكاليات اقتصادية وسياسية وفكرية، وحيرة حول الهوية بين الدولة العلمانية بحكم الدستور والدولة الدينية في واقع الحال.
ولعل الإقبال على ترامب والتصويت له ليس إلا تعبيرا عن حالة أميركا «الأنتروبية»، المليئة بالقلق والملل، المضطربة والقلقة نهارا والمؤرقة ليلا، ولهذا ربما يجيء اختيار ترامب نوعا من أنواع العقاب من الطبقة الوسطى الأميركية للنخبة السياسية الزائفة. هذه الطبقة بطبيعة الحال، لا دالة لها على عمق البحث الفكري أو الديني لتبيان «الغي من الرشد»، ولهذا تشكل القاعدة العريضة لأصحاب «الإيمان المغلق»، أي غير القابل للمناقشة أو المجادلة، إيمان الأصوليين، الذين يقال لهم يمينا يمينا، أو يسارا يسارا.
وليس من المفاجئ إذن، والحالة هذه، أن نرى ترامب وكروز يتلاعبان بصفوف اليمين الأصولي الأميركي وصنوفه، والوقائع المستجدة من باريس إلى بروكسل تخدمهم، وما عليهم إلا أن يصوروا للناخب الأميركي اليميني، حال الأعداء من المسلمين خاصة، المتربّصين بهم عند كل ركن وخلف كل منعطف. أولئك الذين لهم رسالة واحدة، هي قتل الحضارة الغربية، والقضاء على المسيحيين حول العالم، وتصريحات «داعش» لا تعوز أحدا في هذا السياق.
ويضحى من الطبيعي هنا أن ترتفع الأصوات الساعية لاستحضار شكل الأمة وجوهرها، وقيم العائلة الأميركية التقليدية «المسيحية»، ومن ثم إعادتها إلى نقائها الأصيل واستقرارها الأصلي، كما يزعمون، وهي رؤية تخدم أصحاب ثقافة الحرب، الوثيقي واللصيقي العلاقة باليمين الأصولي الأميركي، أولئك المعروفون بجماعة المجمع الصناعي العسكري الأميركي، الذين تخدم صراعات المطلقات حروبهم، وتزيد من ثرواتهم.
في كتابه «الصراع على الله في أميركا» يحدثنا جيكو موللر - فاهرنهولتز، اللاهوتي الألماني والباحث المستقل، الذي عمل مستشارا لحركة وحدة الكنائس العالمية عن حقيقة أن قرابة ثلث السكان في الولايات المتحدة يعيشون أفكارا وممارسات أصولية، إذ تهيمن الكنائس الوطنية الكبرى المغالية في توجهاتها المحافظة، وزعماؤها على محطات الإذاعة والتلفزيون في شتى أرجاء البلاد، والتي تغذي الانطباع بأن أميركا في حالة حرب تدافع فيها عن نفسها بعناد في مواجهة أعداء يتمتعون بقوة ساحقة داخل الوطن وخارجه.



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».