خلافات جديدة بين طالبان و«الحزب الإسلامي» تضعفهما معًا

حربها الداخلية تضعفها أمام الجيش الأفغاني المدعوم دوليًا

عناصر من طالبان الأفغانية على حدود ولاية خوست («الشرق الأوسط»)
عناصر من طالبان الأفغانية على حدود ولاية خوست («الشرق الأوسط»)
TT

خلافات جديدة بين طالبان و«الحزب الإسلامي» تضعفهما معًا

عناصر من طالبان الأفغانية على حدود ولاية خوست («الشرق الأوسط»)
عناصر من طالبان الأفغانية على حدود ولاية خوست («الشرق الأوسط»)

تجد حركة طالبان، التي كانت صاحبة القوة التي يحسب حسابها في أفغانستان، نفسها هذه الأيام في موقف لا تحسد عليه. فهي تعاني من انشقاقات داخلية حادة، تجعلها ضعيفة في الميدان والعمل العسكري. وفي السياسة برزت أطراف وجماعات منشقة عنها، أو متمثلة في «الحزب الإسلامي» الراغب في خوض غمار العمل السياسي مع الحكومة الحالية وإنهاء الصراع. ثم إن الجيش الأفغاني، بحسب المراقبين العسكريين، أثبت أنه قادر على البقاء والصمود، وهذا ما حدث خلال السنة الماضية، حين ضغطت طالبان وألقت بثقل جميع قواها من أجل السيطرة على المحافظات والبلدات، لكنها فشلت.
بعد وفاة زعيم طالبان المؤسس المثير للجدل، الملا محمد عمر، الذي كان يلقب بـ«أمير المؤمنين» من قبل أنصاره، في نهاية يوليو (تموز) الماضي، دخلت حركة طالبان الأفغانية المتشددة مرحلة جديدة من حياتها السياسية والأمنية. إذ تصاعدت الخلافات الداخلية في صفوف قيادات الحركة، لا سيما بعد نشر أخبار تفيد بأن مساعد الملا عمر، وهو الملا أختر منصور، الذي عين خليفة له مباشرة بعد تأكد الوفاة، متورط في عملية اغتيال الزعيم الروحي للجماعة في باكستان، وأنه لم يمت موتة طبيعية.
هذه الأخبار - أو الشائعات - تناولتها مواقع أفغانية وباكستانية مقربة من طالبان على ألسنة قادة ميدانيين في الحركة، ومن مصادر مقربة من الملا عمر. وهذا ما أدى إلى انشقاقات كبيرة في صفوف طالبان، وإعلان قيادات مركزية كبيرة رفضها زعامة الملا أختر منصور، ومن ثم إعلانها قيادة جديدة وإمارة مستقلة أطلق عليها «شورى الإمارة الإسلامية» بزعامة الملا محمد رسول، وسرعان ما انضم إليه قادة بارزون في الجماعة، وسيطروا على بلدات وقرى في جنوب وغرب البلاد. ووقعت اشتباكات ضارية بين الفصيل المنشق وأنصار أختر منصور، راح ضحيتها المئات من الطرفين، تحديدا في ولاية هراة بشمال غرب أفغانستان.
وتصديقاً للقول الشهير «الثورة تأكل أبناءها»، توسعت المعارك والخلافات الداخلية في صفوف طالبان، وانتقلت بشكل سريع إلى محافظات أفغانية أخرى. وبدأت المعارك الطاحنة بين الفصائل المنشقة عن «طالبان الأم»، ونتيجة لذلك ضعفت شوكة طالبان أمام عمليات الجيش الأفغاني الذي ينشط بشن عمليات تمشيط في عدة مناطق بجنوب وشرق وشمال البلاد.
المحلل السياسي الأفغاني، نظر محمد مطمئن يقول: «إن الحديث عن عملية المصالحة مع فصيل دون غيره، أو محاولة التقرب من جماعة محسوبة على طالبان من قبل الحكومة وحلفائها دون غيرها، إشارة إلى عدم جدية قضية الحوار المنشودة. وإن الحكومة وداعميها يسعون إلى إيجاد مزيد من الشرخ والانشقاق في صفوف طالبان». وتابع: «إن التجارب السابقة كانت تشير إلى أن طالبان وحدة قوية، ولا يمكن حدوث شرخ كبير في صفوفها بحيث تتمكن الحكومة من اختراق الجدار المنيع لجماعة (طالبان الأم) التي بقيت متماسكة خلال السنوات التي تلقت فيها ضربات كبيرة من قبل قوات التحالف، لكن الوضع قد يتغير الآن».
الواقع أن طالبان لا تعاني من أزمة داخلية فحسب، وإنما تواجه خطرا آخر يمثله «الحزب الإسلامي» بقيادة قلب الدين حكمتيار، أحد زعماء المجاهدين السابقين، الذي ظل يقاتل الحكومة والقوات الدولية على مدى السنوات الـ15 الماضية، ويعتقد أنه يختبئ في مكان ما في مناطق حدودية بين أفغانستان وباكستان، وأنه يقود معارك مسلحة ضد الحكومة والحضور الأجنبي في البلاد.
بيان «الحزب الإسلامي» تطرق إلى حدوث مشكلات بينه وبين طالبان خلال السنوات الماضية من الحرب. وتحدث عن سلسلة من الاغتيالات والعمليات يزعم «الحزب الإسلامي» أن «طالبان نفذتها ضد أنصاره»، منها اغتيال كل من حاجي عبد الغفور، والمولوي رحمان غل، والمولوي هاشم، الذين قتلوا في شرق البلاد على أيدي طالبان.
هذه ليست المرة الأولى التي ينتقد فيها «الحزب الإسلامي»، أحد أطراف الصراع الداخلي بعد هزيمة الروس في أفغانستان، وزعيمه حكمتيار، سياسات طالبان، بل سبق له فعل ذلك مرات عدة. كذلك لم تقتصر الخلافات على البيانات السياسية، بل وقعت أيضا مواجهات مسلحة بين أنصار الحزب والحركة في مناطق مختلفة من البلاد، على مدى السنوات الماضية. غير أن الجديد في بيان الحزب الأخير، هو الدعوة إلى «انتفاضة» ضد طالبان التي وصفها البيان بـ«ألد أعداء المجاهدين»، وضد كل من يقف في وجه أجندات أجنبية، والتوعد بالثأر لمن قتل من أنصاره بيد الحركة.
الخلاف بين الحزب وطالبان ليس وليد الساعة، بل هناك تراكمات وخلافات كبيرة بين الطرفين، كما تجدر الإشارة هنا إلى أن التوتر بين الجماعتين يأتي في خضم حالة من الإرباك والتصدعات الداخلية في صفوف طالبان، مع استمرار المواجهات المسلحة، التي وصفتها القبائل بـ«الأعنف»، بين أنصار الملا أختر منصور، وأنصار الملا محمد رسول، في غرب البلاد. ولقد أدت المعارك خلال مارس (آذار) الماضي، إلى مقتل أكثر من 200 مسلح من الطرفين. وما زالت المواجهات متواصلة وامتدت إلى مديريات عدة بإقليم هراة بعد ما بدأت في مديرية شين دند، ذات الغالبية البشتونية.
ومن ناحية ثانية، تسود حالة من التوتر بين فصائل طالبان في إقليمي بكتيكا وغزنة، بسبب المعارك التي دارت على مدى الأسابيع الماضية بين الحركة ومجموعة تابعة لقيادي منشق عنها، يدعى عبيد الله هنر. وأعلن قيادي مهم آخر في طالبان بشمال البلاد، هو المولوي عبد السلام، الانشقاق عن الحركة والحرب عليها، مدعيا أن لديه مئات المقاتلين المستعدين للانقضاض على جماعة أختر منصور، التي يصفونها بأنها «صنيعة المخابرات الباكستانية». ووسط هذا الجو من الخلافات والصراعات الداخلية، قد يكون الصراع مع «الحزب الإسلامي» مهمة صعبة لن ترغب فيها طالبان، بل إنها لا تريد أن تكون جزءا من الصراعات الداخلية، كما تدعي الحركة في بياناتها المختلفة، وفي تعليقات لها على المواجهات الداخلية. وفي أي حال، فإن الخلافات الداخلية في طالبان، والأزمة الجديدة مع «الحزب الإسلامي» عاملان أديا إلى تعثر مساعي الحوار، على حد وصف المحللين. وفي رأي عبد الحي ورشان، الصحافي الأفغاني، فإن حركة طالبان «لم تعد حركة متماسكة بعد وفاة زعيمها، بل انشقت إلى فصائل وتوزع قياداتها وأصبح لدينا قيادات ميدانية متعددة ومتناحرة». وأضاف ورشان: «إن طالبان بعد هذه الخلافات والانشقاقات الحادة في صفوفها، صارت فريسة لتحقيق أهداف استخباراتية أجنبية، والكل بات يحاول استعمال طالبان وفصائلها الكثيرة والتناحر لصالح أهداف سياسية وأمنية». وأردف: «إن هناك طالبان وقعت في أحضان إيران، وطالبان أصبحوا موالين لروسيا في البلاد، وهمهم الآن هو التصدي لتوسع داعش في مناطق الحدود مع دول آسيا الوسطى، في شمال وشرق البلاد».
هذا، وكان من المتوقع انطلاق عملية الحوار المباشر بين طالبان والحكومة الأفغانية في الأسبوع الأول من مارس (آذار) الماضي برعاية باكستانية، غير أن طالبان رفضت في 5 مارس الحوار المباشر مع الحكومة، وأعلنت أنها لن تعود إلى الطاولة حتى إنهاء الحضور الأجنبي في أفغانستان بشكل كامل، وذلك على الرغم من التغيير في موقف الحركة أخيرا، بعد جلسات الحوار التي عقدت في العاصمة القطرية الدوحة، وإسلام آباد. وفي أول رد لها، وصفت الحكومة الأفغانية موقف الحركة بـ«الإرجاء التكتيكي»، معربة عن أملها في عودتها إلى طاولة الحوار قريبا. وكانت تصريحات نائب وزير الخارجية الأفغاني، حكمت خليل كرزاي، مهمة للغاية بهذا الشأن، وجاء فيها: «في الاجتماعات الرباعية بين كابول وإسلام آباد وواشنطن وبكين بشأن الحوار، تم الاتفاق على مشاركة أربع جماعات مسلحة في الحوار». واليوم يعتقد مراقبون أن «مشاركة تلك الجماعات هي النقطة الأساسية التي بسببها رفضت الحركة الحوار مع الحكومة، إذ إن طالبان كانت ترى أنها هي الوحيدة التي تمثل جانب الحركات الجهادية، وأن مفاتيح المعضلة الأفغانية بيدها، ولكن مشاركة جماعات أخرى كانت أسباب استياء الحركة، لا سيما وأن الحركة تزعم أن جماعتين منها معارضتان لها، ومواليتان للحكومة».
أما الجماعات الأربع المعنية فهي:
1- حركة طالبان، التي يطلق عليها البعض تسمية «جماعة الملا أختر منصور» خليفة الملا عمر، وعلى الرغم من أن منصور من مؤيدي عملية السلام مع الحكومة، إلا أنه يعاني داخل التنظيم من معارضة قيادات مهمة للحوار، مثل عبد القيوم ذاكر، رئيس المجلس العسكري السابق. ويخشى منصور من أن يؤدي استئناف عملية السلام إلى تجديد الخلافات. كذلك ترغب الحركة في أن تكون الجهة الوحيدة التي تمثل التنظيمات الجهادية في الحوار مع الحكومة. وبسبب ترددها تدهورت العلاقات بينها وبين إسلام آباد، إذ إن ثمة تقارير تشير إلى قيام الأخيرة بحملة ضد بعض قيادات الحركة، وقد اعتقلت 14 شخصا منهم في إقليم بلوشستان مؤخرا.
2- جماعة «شورى الإمارة الإسلامية»، المنشقة عن طالبان والتي تتمتع بنفوذ واسع في جنوب وجنوب غربي البلاد، وتضم قيادات مهمة ومن مؤسسي طالبان، مثل الملا عبد المنان نيازي والملا رسول نفسه.
3- «الحزب الإسلامي» بقيادة قلب الدين حكمتيار، خصوصا مع إعلان استعداده للحوار مع الحكومة، وربما بشروط أسهل من شروط طالبان.
4- «شبكة حقاني» المتهمة أفغانيا بأنها ترعى المصالح الباكستانية، وتعد مقربة من تنظيم «القاعدة». وهذه تعد من أكثر الجماعات تنظيما بين الجماعات المسلحة المناهضة للحكومة الأفغانية، وهي أيضا من أقرب الجماعات المسلحة إلى الاستخبارات الباكستانية. وعلى الرغم من قربها من طالبان، فإنها تتبع سياسات مختلفة تماما.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.