من التاريخ: المكارثية

جوزيف مكارثي
جوزيف مكارثي
TT

من التاريخ: المكارثية

جوزيف مكارثي
جوزيف مكارثي

دفعني الفضول لمشاهدة الفيلم الأميركي «ترامبو» Trumbo الذي يأخذ عنوانه من اسم كاتب السيناريو الأميركي جيمس دالتون ترامبو الذي اشتهرت سيناريوهاته للكثير من الأفلام التي تمثل أيقونات في السينما العالمية مثل «سبارتاكوس» و«إجازة رومانية» إلخ... والتي أدعي أنني شاهدتها مرارًا في حياتي. إلا أنني كأغلب المشاهدين لم ألتفت إلى الكاتب بقدر ما التفت إلى الممثل وبدرجات أقل المخرج، أما السيناريست فلا مكان له في معظم الأحيان في أذهان المشاهدين من أمثالي.. الذين هم الغالبية.
ما هالني في الفيلم حالة الاضطهاد التي تعرّض لها يساريو الولايات المتحدة وليبراليوها في الفترة التي تزامنت مع «الحرب الباردة» برغم عدم تحمّسي الطبيعي للفكر اليساري، وبالذات الشيوعي. إذ جسّد الفيلم حالة التخوف الهستيري الذي شاب المجتمع الأميركي تجاه ذلك الفكر، وبلغ هذا التخوف مرحلة الملاحقة القضائية المستمرة والحصار الشخصي، وسط تجاهل كامل لـ«التعديل الأول» للدستور الأميركي الذي يضمن حرية الفكر طالما أنه لا يتعرض للمبادئ العامة له.
يومذاك حاصر القائمون على السينما الأميركية كل من اعتنق فكرًا يساريًا بغض النظر عن قدراته على أداء مهنته، وشخصية «ترامبو» كانت تجسّد أفضل كاتبي السيناريو في هوليوود، لكنه مع ذلك سُجن ومُنع من الكتابة لسنوات طويلة فاضطر للكتابة تحت أسماء مستعارة، إلى أن انتهت حقبة الاضطهاد تلك التي شوهت لفترة المجتمع السياسي الأميركي.
تلك الحقبة عرفت بـ«الحقبة المكارثية» نسبة للسيناتور اليميني جوزيف مكارثي. ومن ثَم، دخلت «المكارثية» قاموس السياسة لتعني الاضطهاد والملاحقة من قبل الدولة لمن يعتنق فكرًا مناوئًا لها، وذلك على الرغم من وجود مُسميات مشابهة مختلفة أدرجها التاريخ في طياته، لعل أشهرها ما عُرف باسم «محاكم التفتيش» Inquisition التي قادتها الكنيسة الكاثوليكية ضد كل من كانت تشك فيهم بما في ذلك العلماء، وعلى رأسهم العالم العظيم غاليليو غاليليي لأنه آمن وأعلن أن الأرض ليست مركز الكون. ولقد اضطرت الكنيسة لأن تعتذر له بعد مرور قرون من الزمن.
جوزيف ماكارثي قاد حملات التشهير والتطهير في الولايات المتحدة خلال مطلع خمسينات القرن الماضي ضد كل ليبرالي أو يساري ملصقًا به أو بها تهمة الشيوعية، مدفوعًا بطموحاته الشخصية للارتقاء السياسي في أروقة السياسة الأميركية، وأيضًا للارتقاء الاجتماعي، خاصة أنه كان من أصول آيرلندية متواضعة في ولاية يسكونسن، وبدأ كفاحه الاجتماعي على مقاعد الدراسة. بعدها التحق بالجيش خلال الحرب العالمية الثانية ولكن لم تكن لديه الخبرة القتالية التي سعى لمحاولة اكتسابها من خلال وسائل الإعلام فيما بعد. وبعد عودته للحياة العامة عمل قاضيًا في الولاية إلى أن رشح نفسه لمجلس الشيوخ الأميركي. ولقد نجح في ترشحه الثاني كمرشح جمهوري فأصبح في حينه أصغر سيناتور أميركي عن عمر يناهز الثامنة والثلاثين.
لقد كانت الظروف السياسية المحيطة بالولايات المتحدة في ذلك الوقت تنبئ ببداية الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي. وأخذت واشنطن تعد لهذه الحرب الجديدة تدريجيًا في محاولة لمواجهة الفكر اليساري على المستوى الدولي لـ«إبعاد خطر الشيوعية» عن حلفائها أو الدول المحايدة. وكان قد ساهم في انتشار الفكر اليساري في ذلك الوقت داخل الولايات المتحدة ذكريات حالة «الكساد الكبير» الذي ضرب البلاد لمدة طويلة قبل الحرب العالمية الثانية وأدى إلى مشاكل اجتماعية كبيرة للغاية وفقدان الملايين وظائفهم في المصانع والشركات. تلك المعاناة أسهمت في تجميل الاشتراكية والشيوعية في نظر هؤلاء وأسرهم وانتشرت بعض البؤر التي اعتنقت هذا الفكر بما في ذلك الحزب الشيوعي الأميركي. وكان من الطبيعي مع اندلاع الحرب الباردة، وبالأخص، بعد تطوير الاتحاد السوفياتي القنبلة الذرية انتشار الخوف من حرب نووية آتية. وهذا ما ساهم في تطوير مصطلح «الرعب الأحمر» Red Scare الذي انتاب الولايات المتحدة على كل الأصعدة. وكان هذا الخوف هو الفرصة التي استغلها السيناتور الشاب للتدرج السياسي من خلال قيادة حملاته القضائية والبرلمانية لملاحقة كل من كان له علاقة باليسار أو حتى المتعاطفين معه.
بدأ مكارثي حملته قرب نهاية مدته الأولى في مجلس الشيوخ، عندما بدأ يصنع لنفسه هالة «مخلص البلاد من الشيوعيين» من خلال توجيه الاتهامات إلى مؤسسات الدولة والمؤسسات الخاصة كالصحافة والجامعات وهوليوود، مستغلاً الخوف الأميركي. وهذا ما جلب له تعاطفًا شديدًا على المستوى الشعبي، لا سيما أن الرجل كان صريحًا ولبقًا ويتمتع بـ«الكاريزما». كذلك كان للإعلام دوره الكبير في صناعة هذا «النجم» المثير للجدل. وبدأت كل مؤسسات الولايات المتحدة تخشاه، حتى أنه شن هجومًا عاتيًا على وزارة الخارجية متهمًا وزير الخارجية جون فوستر دالاس، في ذلك الوقت، بـ«حماية دبلوماسيين شيوعيين» في وزارته متهمًا بعضهم صراحة بالعمالة للاتحاد السوفياتي. كذلك فجّر مفاجأة مدوّية بزعمه وجود 150 دبلوماسيا أميريًا يعتنقون الشيوعية ولهم اتصالات بالمؤسسات السوفياتية. ولقد لاقت هذه الحملة رواجًا إعلاميًا وجماهيريًا كبيرًا جعلت مكارثي نجمًا ساطعًا في واشنطن، وثمة آراء تشير إلى أن نجاحاته وطموحاته دفعته للاعتقاد بأنه يمكن أن يكون رئيسًا للبلاد في المستقبل.
وواصل مكارثي حملاته من دون توقف أو تحديد أهداف بشكل سياسي متّزن، وساعده على ذلك أنه تم انتخابه رئيسًا للجنة الحكومية في مجلس الشيوخ ما منحه السلطة البرلمانية للتحقيق مع هذه المؤسسات الحكومية. أتيحت له حالة من القوة المفرطة لم يستغلها بشكل حكيم، فكانت بداية أخطائه أنه وجه حملته التالية على وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) الأميركية التي كانت يترأسها في ذلك الوقت آلان دالاس، الأخ الأصغر لوزير الخارجية. إذ بدأ مكارثي يروّج شائعات عن وجود عملاء سوفيات في الوكالة يتجسسون على البلاد وهو ما لاقى استياء القيادة السياسية الأميركية في ذلك الوقت، إذ رأت أنها ستؤثر سلبًا على المصداقية الأميركية خارجيًا وعلى الرأي العام داخليًا، وكذلك ضرب الوحدة المؤسسية الحاكمة في البلاد. وكان للسيناتور ريتشارد نيكسون - الذي أصبح رئيسًا للجمهورية فيما بعد - دور كبير في إثناء زميله عن الاستمرار في هذا الهدف الخطير، وهو ما اضطر الرجل للانسحاب من هذه المعركة، ولكن ليس قبل أن يوحد صفوف أعدائه داخل مؤسسة السلطة، الذين ضاقوا ذرعًا برعونته وطموحاته.
لكن الخطأ السياسي الأكبر الذي ارتكبه مكارثي كان إشهار سلاحه ضد المؤسسة العسكرية الأميركية. ويومذاك كان رئيس الجمهورية دوايت أيزنهاور، الجنرال المتقاعد وبطل الحرب العالمية الثانية، الذي رأى أن الرجل قد بدأ يتخطى كل الحدود. ومع تزايد الأعداء، وانكشاف بطلان الاتهامات التي كان يطلقها مكارثي جزافًا، شكلت «الحرب» الحرب بينه وبين مؤسسات الجيش بداية نهايته. وأخذت تظهر دلائل على أن الرجل لم يكن موضوعيًا في الكثير من اتهاماته، التي أطلقها دون دليل دامغ أو حتى شبهات يمكن أن تمثل أساسًا لبدء التحقيقات خاصة أن القضاء قد برا كثيرين من المتهمين. ولقد استغل أعداؤه تهديدات أحد مساعديه لأحد الجنرالات لرفضه منح معاملة استثنائية لمجند كانت تربطه به علاقة آثمة، وعقد مجلس الشيوخ جلسات استماع ضد مكارثي جعلته يفقد كل الأرضية السياسية والدعم الشعبي الذي كان محاطًا به كما أفقدته هذه الجلسات الشعبية الإعلامية. ومن ثم استقرت اللجنة ضد مكارثي وأصدرت ضده قراراتها العقابية التي انتهت بكسره سياسيا، وبانطفاء نجم مكارثي انطفأت الفتنة التي قادها في المجتمع التي دفع ثمنها كثيرون من الأبرياء. ولكن على الرغم من القضاء على «المكارثية» رجلا وحملة، فإنها ظلت كظاهرة «نقطة سوداء» في التاريخ الأميركي شكلت أسوأ تعديات على الحريات والعدالة في كثير من الأحيان.
حقيقة الأمر، أن ظاهرة مكارثي تحتاج إلى وقفة للتأمل والتفكر في الوقت ذاته. ففكرة الاضطهاد الجزافي لأسباب فكرية تمثل نموذجًا غير ممكن استمراره، خاصة أن الفكرة لا تقارع إلا بالفكرة طالما أنها لم تدخل إلى حيز السلوك. ولكن من ناحية فإن التاريخ السياسي لمكارثي يمثل نموذجًا لرجل جانبه الصواب في مرحلة ما متأثرًا بالنجاح الكبير الذي حققه والدعاية الإعلامية التي سبقته ولاحقته. وهو في تقديري وقع في خطأين أساسيين: الأول أنه فاته كسياسي ضرورة التوقف عند نقطة زمنية محددة. والثاني كان سوء تقديره خطورة تهديد كل مؤسسات الدولة القوية في آن واحد. ومع أن الخطأ الأول يظل مشكلة شخصية يمكن تداركها مع الوقت، ولكن عند حدوث الخطأ الثاني فإن السياسي يكون في سبيله لحفر قبره السياسي وهذا ما حدث لجوزيف مكارثي. إن البوصلة السياسية عندما تضل تقود صاحبها إلى الهلاك حتمًا... وهذه سنة السياسة في كل الأنظمة والدول والمجتمعات.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.