«معجزة جايبور» تعيد نعمة المشي لـ1.4 مليون شخص على العكازات

ساق اصطناعية فريدة من نوعها انطلقت من الهند إلى دول العالم

ساق «جايبور» نجحت في تمكين قرابة 1.4 مليون شخص من مختلف أرجاء العالم من الحركة بسهولة بعد فقدانهم أحد أطرافهم ({الشرق الأوسط})  -  نالت ساق جايبور شهرة كبيرة بعدما تعرضت ممثلة وراقصة بوليوود المعروفة، سودها تشاندران، لحادث أفقدها ساقها العشرينات من عمرها
ساق «جايبور» نجحت في تمكين قرابة 1.4 مليون شخص من مختلف أرجاء العالم من الحركة بسهولة بعد فقدانهم أحد أطرافهم ({الشرق الأوسط}) - نالت ساق جايبور شهرة كبيرة بعدما تعرضت ممثلة وراقصة بوليوود المعروفة، سودها تشاندران، لحادث أفقدها ساقها العشرينات من عمرها
TT

«معجزة جايبور» تعيد نعمة المشي لـ1.4 مليون شخص على العكازات

ساق «جايبور» نجحت في تمكين قرابة 1.4 مليون شخص من مختلف أرجاء العالم من الحركة بسهولة بعد فقدانهم أحد أطرافهم ({الشرق الأوسط})  -  نالت ساق جايبور شهرة كبيرة بعدما تعرضت ممثلة وراقصة بوليوود المعروفة، سودها تشاندران، لحادث أفقدها ساقها العشرينات من عمرها
ساق «جايبور» نجحت في تمكين قرابة 1.4 مليون شخص من مختلف أرجاء العالم من الحركة بسهولة بعد فقدانهم أحد أطرافهم ({الشرق الأوسط}) - نالت ساق جايبور شهرة كبيرة بعدما تعرضت ممثلة وراقصة بوليوود المعروفة، سودها تشاندران، لحادث أفقدها ساقها العشرينات من عمرها

انهمرت الدموع من عيني رفيقة - الشابة القندهارية التي لم تتعد الـ20 عامًا - وهي تخطو خطواتها الأولى بعد عشر سنوات من تعرضها لإصابة بالغة جراء إطلاق شرطة جماعة «طالبان» وابلاً من الرصاص على إحدى ساقيها ما اضطرها إلى بترها.
أما الجريمة التي اقترفتها فهي مسارعتها للخروج من منزلها من دون ارتداء غطاء الشعر للحيلولة دون عبور شقيقها البالغ 3 سنوات الطريق بمفرده. وجراء هذه الحادثة، عانت رفيقة على امتداد قرابة العقد حيث كانت تسير بالكاد على عكازات.
مؤخرًا، حصلت رفيقة على ساق «جايبور» الشهيرة، وهي عبارة عن ساق اصطناعية مصنوعة من المطاط، والتي نجحت في تمكين قرابة 1.4 مليون شخص مختلف أرجاء العالم من الحركة بسهولة بعد فقدانهم أحد أطرافهم.
وقد جرى تصنيف هذه الساق الاصطناعية البالغ سعرها 45 دولارًا، من بين أفضل 50 ابتكارًا تبعًا لاستفتاء نظمته مجلة «التايم». وتتفرد هذه الساق الاصطناعية بقدراتها المذهلة مقارنة بطرف صناعي مشابه أميركي الصنع تبلغ تكلفته 12 ألف دولار. وتكمن روعة «ساق جايبور» في خفتها وسهولة حركتها، لدرجة تمكن من يرتديها من الجري وتسلق الأشجار وركوب الدراجة.
ويستقي هذا الطرف الصناعي اسمه من مدينة جايبور الهندية التي تعج بكنوز تاريخية.
كل صباح، تزدحم ردهة الاستقبال داخل المجمع الخاص بالمؤسسة المبتكرة لهذا الطرف الصناعي داخل جايبور، بالكثيرين ممن يعانون من إعاقة بدنية. ويغلب على المكان رائحة الليمون الذي يستخدم في صنع هذه الأطراف الصناعية، بينما تمتزج أصوات الأدوات داخل ورشة العمل بأصوات الأشخاص الذين يملأون المكان.
داخل ردهة الاستقبال، قال أحد المنتظرين، تشينغ بي لي (35 عامًا) من كامبوديا: «وصلت اليوم فقط. وقد فقدت ساقي بسبب انفجار لغم أرضي».
داخل المبنى، اكتظت الطرقات بأصحاب الإعاقات الذين عملوا على حث العاملين على صناعة الأطراف الصناعية على الإسراع في عملهم، والذين يرتدي الكثيرون منهم ساق جايبور أيضًا. عند تركيب ساق جايبور، تجري تغطية نهاية الطرف المبتور بجورب، ثم يلصق الطرف الصناعي باستخدام مادة لاصقة. وبعد تركيب الساق، يجري توفير أشرطة مناسبة لإحكام ربط الطرف الصناعي بالجسم. وفي أغلب الحالات، يتكيف الأفراد مع الأطراف الصناعية الجديدة ويعتادون عليها في غضون ساعات.

مولد ساق جايبور
في ستينات القرن الماضي، تعرض نيفيندرا راج ميهتا (78عامًا)، لحادث مروع كاد أن يتعرض بسببه لبتر أحد أطرافه. وعاش منذ ذلك الحين عاجزًا عن الحركة. وعلى امتداد خمسة شهور قضاها طريح الفراش بأحد المستشفيات، ظل يفكر في كيف يعاني الكثير من المساكين جراء تعرضهم لبتر أطرافهم.
ودفعه ذلك إلى إطلاق منظمة غير حكومية لذوي الإعاقة بعد ذلك الحادث بنحو ست سنوات، بدعم حكومي. في ذلك الوقت، كانت ساق جايبور قد ظهرت بالفعل، حيث جرى ابتكارها في الستينات كثمرة لمجهود جماعي بقيادة الجراح بي كيه سيتهي، والنحات رام تشاندر شارما، الذي استعان به سيتهي لتدريس فن النحت لعدد من المرضى في إطار برنامج لإعادة تأهيلهم. حاليًا، يبدي النحات شارما حرصه على زيارة المنظمة التي أسسها ميهتا رغم تقدمه في العمر، أما دكتور سيهتي فقد توفي منذ بضع سنوات.

الساق المثلى
في الواقع، تعتبر قصة ساق جايبور مثيرة للغاية، وقد بدأت فصولها عندما قدم فريق من منظمة الصحة العالمية إلى جايبور عام 1966. وكان جزء من عملهم إدخال فكرة الاستعانة بالأطراف الصناعية إلى الهند. وبالفعل، عرضوا نموذجًا للأطراف الصناعية أمام عدد من المهنيين بالمجال الطبي. إلا أن تلك الأطراف اتسمت بثقل وزنها ولم يكن مكان للأصابع أو جوارب للركبة.
وسرعان ما شرع شارما في محاولة إصلاح هذه العيوب. وبالفعل، نجح في إنتاج أول طرف صناعي من ابتكاره، من الخشب والألومونيوم والمطاط عام 1968. ومن هنا، كان مولد جايبور.
مع تأسيس ميهتا لمنظمته غير الحكومية، كانت من أول الإجراءات التي اتخذها ضرورة تسجيل بيانات المريض بمجرد وصوله. وتوفر المنظمة للمريض طعاما وسريرا. وأوضح ميهتا أنه: «تجري استضافة المريض ومرافق معه حتى يجري تركيب طرف صناعي له بعد إعداده خصيصًا له. ويخرج المريض من هنا مكرمًا، بعد تسليمه ثمن تذكرة العودة بالقطار أو الحافلة. ولا يجري تحصيل أي رسوم من المريض، حيث نقدم الخدمة بأكملها مجانًا».
بمجرد تسجيل المريض بياناته، يجري تحديد مقاييس طرفه الذي يحتاج لتعويض، ويجري صنع قالب خاص تبعًا لهذه المقاييس. وأضاف ميهتا: «مؤخرًا، قدم رجل ياباني فقد ساقه في حادث من طوكيو إلى مركزنا في دلهي، صباح أحد الأيام. بحلول الخامسة مساءً، كانت ساقه الصناعية جاهزة، وبالفعل خرج بها ذات يوم واستقل طائرة متجهة إلى نيودلهي في السادسة وأربعين دقيقة. بعد ذلك، سافر صباح اليوم التالي عائدًا إلى طوكيو جوًا. وفي غضون أقل من 24 ساعة كان قد عاد لوطنه». وأكد ميهتا في حديث خاص لـ«الشرق الأوسط»: «هدفنا يكمن في معاونة هؤلاء الأشخاص على استعادة قدرتهم على الحركة، وكذلك كرامتهم واحترامهم لذاتهم وأن يصبحوا أعضاء فاعلين بالمجتمع قادرين على الاعتماد على أنفسهم».
جدير بالذكر أن ساق جايبور نالت شهرة كبيرة بعدما تعرضت ممثلة وراقصة بوليوود المعروفة، سودها تشاندران، لحادث أفقدها ساقها وهي في العشرينات من عمرها. ومع ذلك، فإن بتر ساقها لم يطفئ شغفها تجاه الرقص والموسيقى، وبمعاونة ساق جايبور تمكنت من الاستمرار في الرقص.
والمثير أنها لم تشارك في حفلات دولية كثيرة فحسب، بل وتحولت لمصدر إلهام للكثيرين.
وقد أنتجت بوليوود فيلما عن قصة حياتها بعنوان «ناتش مايوري ناتش»، ما أكسب ساق جايبور شهرة واسعة النطاق.
وهذه الساق يمكن استخدامها مع ارتداء حذاء أو من دونه على امتداد ثلاث سنوات ونصف على الأقل. ويعتبر براندون كونغ من سيشيل، 3 سنوات، الطفل الوحيد وأصغر من جرى تركيب ساق جايبور له على مستوى العالم. وأوضح مهيتا أن براندون يعاني مشكلة خلقية تسببت في عدم نمو الجزء أسفل الركبة من الساق اليمنى.
وأضاف ميهتا: «يعد براندون أصغر من حصل على ساق جايبور، وربما أصغر شخص يجري تركيب طرف صناعي له بالعالم أجمع. عادة ما نقدم أطرافا صناعية لأشخاص كانوا يسيرون من قبل وفقدوا قدرتهم على الحركة، لكن هذا الطفل لم يمارس أي قدرة على الحركة من قبل منذ مولده. لذا، ساعدناه على تعلم المشي».
من ناحية أخرى، أقام ميهتا معسكرات بالعراق وسريلانكا وبنغلاديش والسودان والكثير من مناطق الصراعات الأخرى بالعالم، بلغت في الإجمالي 26 دولة. وقدم أطرافًا صناعية لمدنيين وجنود فقدوا أطرافهم خلال الحرب.
وعن واحدة من هذه التجارب، قال ميهتا: «خلال الأسبوع الأول لمعسكرنا بالعراق، عاد 300 عراقي لمنازلهم بأطراف جديدة لأن عملية إعداد ساق جايبور والتكيف معها تستغرق يومًا واحدًا». يذكر أن قرابة ألف عراقي حصلوا على ساق جايبور.
وبعد النجاح العالمي الذي حققته ساق جايبور، حان الدور الآن على يد جايبور والتي يعكف فريق عمل من المنظمة على ابتكارها بالتعاون مع فريق بحثي من جامعة ستانفورد بالولايات المتحدة.
وبالفعل، جرى تطوير نموذج أولي ليد جايبور والتي تتمتع بالقدرة على القيام بالكثير من المهام بالفعل، ومن المنتظر الكشف عنها رسميًا في غضون شهور.
من جهته، يعشق عيدرو حنسن، (35 عامًا) من السودان، ركوب الدراجة والمشاركة في سباقات الماراثون، لكن الصراع المستعر داخل بلاده أفقده ساقه.
وعن هذه التجربة، قال: «في وقت سابق، كان وزن الساق الصناعية التي استعنت بها ثقيلاً جدًا، تحديدًا 5 كيلوغرامات. وعندما كنت أقوم برحلة طويلة، كانت ركبتي تنزف وكنت أعجز عن الوقوف لمدة 15 يومًا. أما الآن، فأحظى بقدم مصنوعة من السيليكون وهي أخف زنة بكثير وأشعر أن باستطاعتي القيام بأي شيء بمعاونتها».
وعلى مدار السنوات الماضية، أقامت المنظمة معسكرات وعيادات دائمة ومؤقتة لها داخل دول مختلفة من أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا. وعن هذا، أوضح ميهتا أنه: «أقمنا أكثر من 50 معسكرًا داخل 26 دولة، منها باكستان وأفغانستان والعراق، ونستعد الآن للدخول إلى ليبيا».
واستطرد موضحًا أنه «منذ عدة سنوات، أقمنا ثلاثة معسكرات في لبنان بالتعاون مع قوة حفظ السلام الهندية المتمركزة هناك. كما ساعدنا بعض عمال البناء في دبي ممن فقدوا أطرافهم في حوادث، حيث جرى إرسالهم للمركز لتركيب أطراف صناعية لهم».
كما تعاونت مع المنظمة الكثير من الحكومات في أفغانستان وبنغلاديش وسريلانكا والعراق لإقامة مراكز دائمة لديها.
أما الأمر الأكثر روعة فيما يخص ساق جايبور فهو أنه لم يتم استصدار براءة اختراع بشأنها، وبالتالي يحق لأي شخص محاولة محاكاتها وتطويرها.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)