جان جاك روسو.. فيلسوف متشرد متأرجح بين العقل والعاطفة

عد المؤرخون كتابه «في العقد الاجتماعي» المحرك الأول لثورة 1789

جان جاك روسو  -  غلاف «في العقد الاجتماعي»
جان جاك روسو - غلاف «في العقد الاجتماعي»
TT
20

جان جاك روسو.. فيلسوف متشرد متأرجح بين العقل والعاطفة

جان جاك روسو  -  غلاف «في العقد الاجتماعي»
جان جاك روسو - غلاف «في العقد الاجتماعي»

عاش الفيلسوف جان جاك روسو (1712 - 1778)، حياة قاسية ومريرة، إلى درجة أنها انقلبت إلى عطاء، حيث ترك للبشرية إرثا من التأملات والتنظيرات في الأدب والتربية والاقتصاد والسياسة.. وغير ذلك، فانطبقت عليه عبارة: «نعمة الألم».
يقول روسو: «كان مولدي أولى تعاساتي»، فبعد أسبوع فقط من ميلاده، توفيت أمه، وتكفل به والده إسحاق روسو، الذي كان يعمل صانع ساعات، وقد سهر على تعليم ولده. كان يقرأ معه الروايات وقصص مشاهير الرجال، خصوصا المؤرخ اليوناني بلوتارك، طوال الليل، وأحيانا حتى شروق الشمس، مما ساعد على تنمية خيال روسو الطفل. كما أن لعمته التي كانت تحنو عليه وتغني له بصوتها العذب الرخيم، دورا في جعله مرهف الحس، بل مولعا بالموسيقى التي ستكون مورد رزقه الأساسي طوال حياته.
كان والد روسو مشاغبا ومستهترا، ويدخل مع السلطات في صراعات ومتاعب، إلى درجة أنه تشاجر يوما مع ضابط في الجيش الفرنسي، واتهم بأنه رفع سيفه، فصدر قرار بإدخاله السجن، وهرب من جنيف تاركا ولده عند خاله برنار. وأصبح روسو محروما من أمه وأبيه. وحتى خاله، ضاق به، فأرسله مع ابن له إلى معلم قسيس بروتستانتي في إحدى القرى المجاورة، حيث قضى عامين، كانا في الحقيقة مفيدين له في تعلم بعض التعاليم الدينية. وربما كان العامان وراء جعله فيلسوفا مؤمنا مستقبلا، بخلاف مجايليه الأنواريين، الذين كانوا في معظمهم ملاحدة. كما أن عاميه في القرية سيجعلانه عاشقا للطبيعة وللبقاء في حضنها طويلا منعزلا. وهو ما سيكتبه لنا بتصوير منقطع النظير، في كتاباته، خصوصا كتابه الأخير المعنون بـ«أحلام يقظة جوال منفرد»، الذي تتوفر له ترجمة عربية، قامت بها ثريا توفيق، ضمن المشروع القومي المصري للترجمة، بإشراف الدكتور جابر عصفور.
سيتهم روسو بسرقة مشط إحدى السيدات، ويطرد من الدير، فيعود عند خاله الذي سيرسله، هذه المرة، للعمل عند الكتبة العموميين، حيث لا يفلح، فيوجهه إلى حرفة النقش على المعادن، لدى معلم شديد القسوة وغليظ القلب، مما دفع روسو إلى تعلم الغش والكذب والسرقة، إلى درجة أنه بدأ يتشرد تمردا، ويخرج مع أصدقائه إلى خارج المدينة تحررا، ولا يعود إلا في وقت متأخر من الليل، فيشبعه المعلم لكما ولطما.
وذات يوم، عاد من الغابة ليجد أبواب المدينة مغلقة، فجعلها فرصة خلاص من المهانة، فقضى الليلة خارج الأسوار. وفي الصباح، قرر الفرار إلى غير رجعة. كل ذلك ولم يزل روسو فتى في عامه السادس عشر. كان التشرد والحرمان واليتم، طابع حياة روسو، مما عمق أحاسيسه، وجعله يسبر أغوار نفسه، ويدقق في تفاصيلها التي خلدها لنا في سيرته الذاتية الفاضحة لكل ثنايا حياته، بما فيها الأشد حميمية وهي بعنوان «الاعترافات».
لم يستقر روسو في مكان واحد، وظل على الدوام يبحث عن مأوى وعن مورد رزق، فاشتغل خادما في بعض البيوت، ومترجما، وعمل أيضا في إحدى القنصليات في إيطاليا. لكن عمله الرسمي سيظل نقل صفحات الموسيقى. كما رمته الأقدار ليعيش تجارب مع النساء، وبخاصة مع مدام «دو فارن»، التي كانت تناديه بـ«صغيري»، حيث وجد فيها الأم المفقودة والعشيقة التي تشبع له فورة شبابه.
ستدفع الأقدار روسو إلى باريس وهو في سن التاسعة والعشرين. وبعد طول تعثر، ستكون أول خطوة له نحو المجد الذي سيجعل منه أحد أعمدة «فلاسفة الأنوار» في سن الثامنة والثلاثين.. ففي تلك الفترة، توطدت علاقته بـ«ديدرو»، وكتب معه مقالات في الموسيقى والاقتصاد السياسي، في موسوعته الشهيرة، إلى درجة أنه عندما سجن ديدرو عقابا له على آرائه، حرص روسو على زيارته في السجن بشكل منتظم، وكان يذهب إليه مشيا على الأقدام وهو يطالع كتابا؛ إذ لم يكن يملك أجر العربة. وفي طريقه لزيارته، كان يتصفح جريدة، فوقعت عيناه على إعلان عن مسابقة طرحتها أكاديمية «ديجون»، وجاء فيه، أنه على المتسابقين كتابة مقال حول السؤال التالي: هل ساعد تقدم العلوم والآداب على إفساد الأخلاق أم على تطهيرها؟ فانفعل روسو بالسؤال، وقرر أن يجيب عنه، خاصة مع تشجيع ديدرو له. وحصل على الجائزة عام 1750. وقد سار روسو في جوابه عكس «التيار الأنواري» الداعي إلى العقل؛ إذ أكد أن العلوم تخرب حياة الإنسان، وما تسمى «حالة الطبيعة»، ليس كما يدعي «توماس هوبز»، تتصف بالعدوانية وتنتشر فيها حرب الكل ضد الكل، ويظهر معها الإنسان ذئبيته وعدوانيته، بل إن «حالة الطبيعة» كانت سلما ونقاء ووئاما، إلى أن تقدمت العلوم وانتشرت الملكية، فزرع الشر والصراع. ففساد الإنسانية وخرابها يعود إلى العقل والعلم، وليس إلى طبيعة الإنسان المفطورة على الطيبة والخير.
يصر روسو على أن الإنسان المسمى متحضرا، يلبس أقنعة لا تعبر عن دواخله، فيظهر بمظهر الجذاب والمهذب، لكنه مليء في دواخله بالخوف والريبة والبغض والغدر والاستهتار واللامبالاة.
كان «الأنواريون»، أمثال ديدرو وفولتير (سيهاجم روسو على جوابه)، يؤكدون على أنه يكفي البشرية أن تترك نفسها تنقاد للعقل، كي تستمتع بالرخاء والتقدم المادي والسياسي والأخلاقي، إلا أن روسو لم يوافقهم الرأي أبدا. وكان من أوائل من أطلق الصرخات ضد الحداثة وعقلانيتها قبل نقد القرن العشرين لها.
ولكي ينسجم روسو مع ادعائه، سيعمل على تغيير نمط عيشه وطريقة ملبسه، ويتجه نحو التقشف والبساطة، والتخلي عن كل زينة وبهرج. يقول في الجولة الثالثة من كتابه «أحلام اليقظة»: «هجرت الحياة الدنيا بمفاتنها، وزهدت كل زخرف، فلم يعد لي سيف ولا ساعة ولا جوارب بيضاء، ولا حلي ذهبية ولا زينة شعر، بل شعر مستعار بسيط جدا، ورداء سميك من الصوف.. بل، وخير من هذا كله، نزعت من قلبي كل اشتهاء لجمع المال، وكل مطمع في كل ما له قيمة. ثم هجرت الوظيفة التي كنت أشغلها إذ ذاك، والتي لم أكن خليقا بها ألبتة، وانصرفت إلى نسخ الموسيقى نظير أجر معين للصفحة الواحدة، وهو عمل كنت شديد الميل إليه دائما».
ولكن شهرة الرجل لن تتوقف، وكتبه ستستمر في الظهور إلى درجة أنه سيستحق لقب «مؤسس الأدب الرومانسي» بروايته «هلويز الجديدة»، حيث كان شديد التأمل فيها، هائما في الطبيعة يتجول في أماكنها، ومحبا للخلوة، وناشرا لحب عذري، وبحرارة عالية جدا.
الأكثر إثارة في إنجازاته، كان في مجال التربية، وهو كتابه الضخم والمعنون «إميل» أو «التربية»، الذي ترجمه إلى العربية عادل زعيتر (انظر طبعة المركز القومي للترجمة). وهو الكتاب الذي تمت صياغته صياغة أدبية على شكل فصول لرواية أدبية، بطلها الطفل «إميل»، فمن خلاله يدير روسو رؤيته التربوية القائمة على فكرة صلاح الفرد وفساد المجتمع.. فالفرد يولد بفطرة طيبة نقية وطاهرة، لكن بيد المجتمع إفسادها أو حمايتها، فالشر الذي يحدثه الإنسان ليس أصيلا فيه. وقد قال في عبارة مشهورة استهل بها كتابه: «كل شيء يخرج من يد الخالق صالحا، وما إن تلمسه يد الإنسان، يصيبه الاضمحلال».
كان روسو يتأرجح بين العقل والعاطفة بطريقة مرتبكة، تنم عن تناقضات سلوكه، فنجده، مثلا، يقيم علاقة غير شرعية مع خادمة الفندق «تيريز» حيث كان يقيم، فتنجب له خمسة أولاد، يسلمهم إلى ملجأ اللقطاء غير عابئ بالمسؤولية، ومن غير أن يترك ما يدل على أصلهم في المستقبل، ثم ليفاجئنا بكتابه «إميل» أو «التربية» وكأنه تكفير عن ذنوبه وخطاياه. وهو الكتاب الذي انبثق فيه مفهوم الطفل بوضوح، إلى درجة أن الأديب الألماني غوته لقبه بـ«إنجيل المعلمين». فروسو ضحى بأبنائه وغامر بهم ليساهم في صناعة الملايين من البشر.
والأكثر من كل ما قيل، هو أن روسو قد قرر ألا يموت إلا بعد أن يترك نظرية في السياسة، تجلت في كتابه ذائع الصيت «في العقد الاجتماعي»، المترجم إلى العربية مرات عدة (انظر ترجمة عبد العزيز لبيب، عن المنظمة العربية للترجمة)، الذي يجعل منه المؤرخون المحرك الأول للثورة الفرنسية سنة 1789. ويقال إن الثوار حملوا كتابه ولوحوا به، وهذا يعني أن الكتاب يحمل أفكارا ألهمتهم وعبرت عن همومهم وآمالهم؛ إذ سيعلن روسو أن التدبير العام يجب أن يتم بمعزل عن الأشخاص، نحو التجريد الجماعي وقوة الإرادة العامة والمتعالية.. بكلمة واحدة، لا أحد أصبح مع روسو سيدًا، بل السيادة للقانون المفروض من طرف الكل، فالشعب هو من سيختار نوع الميثاق الممارس عليه، وينصاع لقرار ساهم هو في صنعه. وكأن روسو يريد أن يقول: إن السلم الاجتماعي لن يتأتى إلا إذا عنف الشعب نفسه بنفسه، فالإكراه يجب أن يكون حرا.



رؤساء وكتاب: فقدنا عبقري الأدب

الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا في الأكاديمية الفرنسية بباريس فبراير 2023 (أ.ف.ب)
الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا في الأكاديمية الفرنسية بباريس فبراير 2023 (أ.ف.ب)
TT
20

رؤساء وكتاب: فقدنا عبقري الأدب

الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا في الأكاديمية الفرنسية بباريس فبراير 2023 (أ.ف.ب)
الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا في الأكاديمية الفرنسية بباريس فبراير 2023 (أ.ف.ب)

منذ أشهر قليلة، خلد فارغاس يوسا إلى الهدوء في ليما بعيداً عن الحياة العامة، على ما ذكرت عائلته في رسالة عبر منصة «إكس». وجاء في رسالة كتبها نجله البكر ألفارو ووقعها شقيقه غونزالو وشقيقته مورغانا: «بحزن عميق نعلن وفاة والدنا ماريو فارغاس يوسا اليوم في ليما بهدوء محاطاً بعائلته»، كما نقلت «وكالة الصحافة الفرنسية». وذكرت الوكالة أن الحكومة البيروفية أعلنت تاريخ 14 أبريل (نيسان) يوم «حداد وطني»، مشيرة إلى تنكيس الأعلام على المباني العامة، بحسب مرسوم صدر منتصف ليلة الأحد.

ولم تتطرق العائلة إلى سبب وفاة الكاتب، لكنّ صحته كانت ضعيفة منذ عودته إلى العاصمة البيروفية في عام 2024، بعد مغادرته مدريد.

وأضاف أولاده: «إن رحيله يبث الحزن في نفوس عائلته وأصدقائه وقرّائه في مختلف أنحاء العالم، لكننا نأمل أن يجدوا العزاء، كما نجده نحن، في حقيقة أنه تمتع بحياة طويلة ومتنوعة ومثمرة».

أمام منزل الكاتب المطل على المحيط الهادئ في حي بارانكو، تجمعت مجموعة صغيرة من الأشخاص في صمت عند تلقي خبر وفاته، حاملين نسخاً من أعماله.

وقال أحد هؤلاء الأشخاص، ويُدعى غوستافو رويس، في حديث إلى إذاعة «آر بي بي»: «كان مرجعاً مهماً جداً بالنسبة لي. كان يقول إن الأدب أنقذ حياته». وقالت عائلة الكاتب: «لن تقام أي مراسم جنازة عامة»، موضحة أن الجثة ستُحرَق. وأضافت: «سنتصرّف خلال الساعات والأيام المقبلة بحسب ما أوصى».

وفي رسالة عبر منصة «إكس»، أعربت الرئيسة البيروفية دينا بولوارتي عن أسفها لوفاة فارغاس يوسا. وكتبت: «إن عبقريته الفكرية وأعماله الكثيرة ستبقي إرثاً دائماً للأجيال المقبلة».

ووصف رئيس غواتيمالا برناردو أريفالو الكاتب بأنه «مؤرخ عظيم لأميركا اللاتينية ومترجم فطن لمساراتها ومصائرها».

وكتب الرئيس الكولومبي السابق ألفارو أوريبي عبر منصة «إكس» أيضاً: «رحل ماريو فارغاس يوسا، أحد أستاذة الأدب الكبار. ترك لنا أعماله، وروعته، ومثاله. ترك لنا مساراً لنتّبعه في المستقبل»، بينما أكّد نائب وزير الخارجية الأميركي كريستوفر لاندو أنّ «مواضيعه واهتماماته خالدة وعالمية».

وقال الكاتب البيروفي ألفريدو بريس إيتشينيكي، مؤلف كتاب «عالم ليوليوس» وصديق ماريو فارغاس يوسا، عبر إذاعة «آر بي بي» إن وفاة فارغاس يوسا تشكل «حداداً للبيرو لأن أحداً لم يمثلنا في العالم بقدر ما مثلنا هو، بعمله عموماً، ومثابرته، ونقائه، وعظمته».

«عبقري الآداب»

تُرجمت أعمال ماريو فارغاس يوسا، وهو كاتب محب للثقافة الفرنسية عاش لسنوات في باريس، وكان أول كاتب أجنبي يدخل مجموعة «بلياد» الأدبية المرموقة خلال حياته في عام 2016، كما انتخب لعضوية الأكاديمية الفرنسية في عام 2021.

وأشاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عبر منصة «إكس» بالكاتب الراحل، ووصفه بأنه «عبقري الآداب» الذي كان له «وطن» في فرنسا وكان عمله «يعارض التعصب بالحرية، والجزمية بالسخرية، واستشرس في دفاعه عن المُثُل في مواجهة عواصف القرن».

قبل أيام قليلة من عيد ميلاده التاسع والثمانين، ظهر في سلسلة من ثلاث صور التقطت في الأماكن التي كتب فيها رواياته «خمس زوايا» (بالإسبانية «سينكو إسكيناس») عام 2016 و«أهدي لك صمتي» («لي ديديكو مي سيلينسيو») عام 2023.

ولم تكن هذه المرة الأولى التي ينشر فيها نجله صوراً له في أماكن من العاصمة ألهمته لكتابة بعض أعماله الشهيرة.

وتدهورت صحة فارغاس يوسا بشكل كبير منذ عام 2023، بعدما نُقل إلى المستشفى في يونيو (حزيران) بسبب إصابته بفيروس «كوفيد - 19» خلال إقامته في إسبانيا، البلد الذي حصل على جنسيته في عام 1993.

وكان الكاتب صاحب روائع أدبية مثل «المدينة والكلاب» (لا سيوداد إي لوس بيروس) و«محادثة في الكاتدرائية» (كونفرساسيونين إن لا كاتيدرال) يحظى بالإعجاب لوصفه الوقائع الاجتماعية، لكنّه تعرض للانتقاد من الأوساط الفكرية في أميركا الجنوبية بسبب مواقفه المحافظة.