الانتحار الجماعي.. بات الخيار الوحيد أمام بعض المحاصرين في الفلوجة

العلف الحيواني أصبح غذاء لإنسانها وأسعاره خارج قدرات الكثيرين

عراقيون يساعدون مسنة على الخروج من منطقة زقورة قرب الرمادي (إ.ب.أ)
عراقيون يساعدون مسنة على الخروج من منطقة زقورة قرب الرمادي (إ.ب.أ)
TT

الانتحار الجماعي.. بات الخيار الوحيد أمام بعض المحاصرين في الفلوجة

عراقيون يساعدون مسنة على الخروج من منطقة زقورة قرب الرمادي (إ.ب.أ)
عراقيون يساعدون مسنة على الخروج من منطقة زقورة قرب الرمادي (إ.ب.أ)

لم يعد أمام أهالي الفلوجة خيار أمام مقاومة الجوع الهالك سوى الانتحار أو تجرع السم من أجل إنهاء معاناتهم وهم يعيشون في ظل كارثة إنسانية حقيقية حيث بدأ الأطفال يموتون جوعًا أمام أعين أمهاتهم وذويهم الأمر الذي جعل العائلة بأكملها تقرر الانتحار في موت جماعي من أجل التخلص من عذابات الموت جوعًا.
هذا الجوع قتل عشرات الأطفال والنساء وكبار السن وهو في طريقه ليحصد أرواح الكثيرين الذين لم يعد باستطاعتهم مقاومة الجوع وهزال الجسد. ويقول الحاج أبو إبراهيم، 65 عاما، وهو من سكان المدينة لـ«الشرق الأوسط» إن «الظروف الكارثية التي نعيشها ازدادت سوءا يومًا بعد آخر وتفاقم الأمر علينا منذ أن فرضت القوات الأمنية حصارًا قاسيا على المدينة منع دخول المواد الغذائية والطبية إليها بشكل كامل». وأضاف أبو إبراهيم أن «هذا الحصار أثر علينا نحن بالذات ولم يؤثر على مسلحي تنظيم داعش الذين تصلهم المؤن بطرق مجهولة، فيما تسبب الحصار بنفاد المواد الغذائية والطبية حتى أصبحنا نبحث عن الحشائش وأوراق الشجر ونطبخها على نار الخشب، هذا الأمر الذي تسبب هو الآخر بتفشي أمراض معوية بين الأطفال والأهالي وتسبب في موت الكثير منهم».
وأشار أبو إبراهيم إلى أن «مستشفى المدينة أصبح خاليا تمامًا من الكوادر الطبية بسبب عدم امتلاكها لأي مادة طبية أو دواء ما، ودفع الحصار ونقص المواد الغذائية والأدوية بعض سكان الفلوجة للانتحار، كما انتشرت حالات الإغماء والموت بسبب الجوع بين السكان، لم أكن أتخيل أنني سأرى وضعا مهينا كالذي أعيشه أنا وعائلتي في مدينة الفلوجة مدينة الكرم والمضايف، فالخدمات معدومة، ولا يتوفر الغذاء والدواء في المدينة التي أصبحت منكوبة بالجوع والحرمان».
وأكد سكان آخرون أن أهل المدينة يعتمدون على العلف الحيواني من أجل تأمين وجبة غذاء واحدة، أما المياه فلا تصل إليهم إلا كل يوم اثنين ولساعة واحدة، وهي غير صالحة للشرب بسبب استهداف محطة المياه في المدينة بأحد البراميل المفخخة التي تلقيها المروحيات على المدينة. وأضاف: «لقد بات الانتحار عاديا، فكل يوم تشهد الفلوجة حادثة نقف أمامها عاجزين». وقال: إن «تجويع الفلوجة أمر مدبر، وإن الحكومة وقوات التحالف يمارسون عقابا جماعيا ضد المدينة التي قاومتهم خلال فترة غزوهم للبلاد».
ولفت أهالي الفلوجة إلى أن «عمليات الانتحار باتت تأخذ طابعا آخر، فقد أقدم قبل أيام رب أسرة على تسميم عائلته بالكامل نتيجة الجوع والعوز الذي بات لا يحتمله الكثيرون»، واستغربوا صمت الحكومة إزاء الجريمة التي تتعرض لها الفلوجة، وتساءل أحدهم: «لماذا لا يتحركون من أجل إنقاذ المدنيين كما جرى للإيزيديين في سهل نينوى، أو كما جرى في مدينة مضايا السورية التي سمح بإدخال المساعدات إليها».
من جانبهم أكد هاربون من الفلوجة ومن قبضة تنظيم داعش أن المدينة «لم تعد تصلح للعيش، وأنها أصبحت مدينة أشباح، فالحركة قليلة إلا من عناصر تنظيم داعش الذين باتوا يفرضون قيودا على المدنيين في الداخل ويمنعون خروجهم من المدينة بينما تفرض القوات الحكومية حصارًا قاسيا ومميتًا من خارجها». وأضاف: «لقد شهدت أسعار المواد الغذائية في الفلوجة ارتفاعا كبيرا، حيث وصل سعر الكيلوغرام الواحد لنخالة الطحين (17 ألف دينار عراقي)، فيما بلغ سعر الكيلوغرام من التمور المخصصة علفا للحيوان (15 ألف دينار عراقي)، أما سعر البيضة الواحدة فقد وصل إلى(1500 دينار عراقي)».
محافظ الأنبار صهيب الراوي قال لـ«الشرق الأوسط» إن «مشكلة الفلوجة تكمن في محيطها الذي بدأت قوات الأمن وبمساعدة قوات التحالف الدولي بتحرير أجزاء كثيرة منه»، مشيرا إلى أن العمليات العسكرية من شأنها أن تضيق الخناق على تنظيم داعش. وأضاف الراوي «لقد وفرنا ممرات في منطقتي الفلاحات وعامرية الفلوجة، لكن تنظيم داعش الإرهابي عمد إلى تفخيخها ليمنع العائلات من المغادرة».
من جانبه أكد نائب رئيس مجلس محافظة الأنبار فالح العيساوي أن الوضع في مدينة الفلوجة مأساوي، معتبرا أن «المدينة على شفا موت جماعي»، خاصة بعد أن أقدم العشرات من الأشخاص على الانتحار بسبب المجاعة والحصار. وقال العيساوي في حديث لـ«الشرق الأوسط» إن «تنظيم داعش الإرهابي هو السبب وراء تدهور الأوضاع الإنسانية في الفلوجة»، وأضاف: «إذا لم نجد خلال الأيام القليلة المقبلة فلا سبيل إلا باقتحام المدينة وإنقاذ الأهالي فيها». وحسب العيساوي فإن «عملية إلقاء المساعدات الغذائية والطبية جوًا أمر ليس بالهين، خاصة أن عدد المواطنين المحاصرين داخل المدينة يفوق السبعين ألف شخص، وهو ما يحتاج إلى طلعات جوية مكثفة وهذا أشبه بالمستحيل».



نزيف بشري للجماعة الحوثية رغم توقف المعارك

مقبرة أنشأتها الجماعة الحوثية لقتلاها في صنعاء (أ.ف.ب)
مقبرة أنشأتها الجماعة الحوثية لقتلاها في صنعاء (أ.ف.ب)
TT

نزيف بشري للجماعة الحوثية رغم توقف المعارك

مقبرة أنشأتها الجماعة الحوثية لقتلاها في صنعاء (أ.ف.ب)
مقبرة أنشأتها الجماعة الحوثية لقتلاها في صنعاء (أ.ف.ب)

شيّعت الجماعة الحوثية خلال الأسبوع الماضي أكثر من 15 قتيلاً من قيادييها العسكريين والأمنيين من دون إعلان ملابسات سقوطهم. ورغم توقف المعارك العسكرية مع القوات الحكومية اليمنية في مختلف الجبهات؛ فإن النزيف البشري المستمر لقياداتها وعناصرها يثير التساؤلات عن أسبابه، بالتزامن مع مقتل العديد من القادة في خلافات شخصية واعتداءات على السكان.

ولقي قيادي بارز في صفوف الجماعة مصرعه، الأحد، في محافظة الجوف شمال شرقي العاصمة صنعاء في كمين نصبه مسلحون محليون انتقاماً لمقتل أحد أقاربهم، وذلك بعد أيام من مقتل قيادي آخر في صنعاء الخاضعة لسيطرة الجماعة، في خلاف قضائي.

وذكرت مصادر قبلية في محافظة الجوف أن القيادي الحوثي البارز المُكنى أبو كمال الجبلي لقي مصرعه على يد أحد المسلحين القبليين، ثأراً لمقتل أحد أقاربه الذي قُتل في عملية مداهمة على أحد أحياء قبيلة آل نوف، التي ينتمي إليها المسلح، نفذها القيادي الحوثي منذ أشهر، بغرض إجبار الأهالي على دفع إتاوات.

من فعالية تشييع أحد قتلى الجماعة الحوثية في محافظة حجة دون الإعلان عن سبب مقتله (إعلام حوثي)

ويتهم سكان الجوف القيادي القتيل بممارسات خطيرة نتج عنها مقتل عدد من أهالي المحافظة والمسافرين وسائقي الشاحنات في طرقاتها الصحراوية واختطاف وتعذيب العديد منهم، حيث يتهمونه بأنه كان «يقود مسلحين تابعين للجماعة لمزاولة أعمال فرض الجبايات على المركبات المقبلة من المحافظات التي تسيطر عليها الحكومة، وتضمنت ممارساته الاختطاف والتعذيب والابتزاز وطلب الفدية من أقارب المختطفين أو جهات أعمالهم».

وتقول المصادر إن الجبلي كان يعدّ مطلوباً من القوات الحكومية اليمنية نتيجة ممارساته، في حين كانت عدة قبائل تتوعد بالانتقام منه لما تسبب فيه من تضييق عليها.

وشهدت محافظة الجوف مطلع هذا الشهر اغتيال قيادي في الجماعة، يُكنى أبو علي، مع أحد مرافقيه، في سوق شعبي بعد هجوم مسلحين قبليين عليه، انتقاماً لأحد أقاربهم الذي قُتِل قبل ذلك في حادثة يُتهم أبو علي بالوقوف خلفها.

في الآونة الأخيرة تتجنب الجماعة الحوثية نشر صور فعاليات تشييع قتلاها في العاصمة صنعاء (إعلام حوثي)

وتلفت مصادر محلية في المحافظة إلى أن المسلحين الذين اغتالوا أبو علي يوالون الجماعة الحوثية التي لم تتخذ إجراءات بحقهم، مرجحة أن تكون عملية الاغتيال جزءاً من أعمال تصفية الحسابات داخلياً.

قتل داخل السجن

وفي العاصمة صنعاء التي تسيطر عليها الجماعة الحوثية منذ أكثر من 10 سنوات، كشفت مصادر محلية مطلعة عن مقتل القيادي الحوثي البارز عبد الله الحسني، داخل أحد السجون التابعة للجماعة على يد أحد السكان المسلحين الذي اقتحم السجن الذي يديره الحسني بعد خلاف معه.

وتشير المصادر إلى أن الحسني استغل نفوذه للإفراج عن سجين كان محتجزاً على ذمة خلاف ينظره قضاة حوثيون، مع المتهم بقتل الحسني بعد مشادة بينهما إثر الإفراج عن السجين.

وكان الحسني يشغل منصب مساعد قائد ما يسمى بـ«الأمن المركزي» التابع للجماعة الحوثية التي ألقت القبض على قاتله، ويرجح أن تجري معاقبته قريباً.

وأعلنت الجماعة، السبت الماضي، تشييع سبعة من قياداتها دفعة واحدة، إلى جانب ثمانية آخرين جرى تشييعهم في أيام متفرقة خلال أسبوع، وقالت إنهم جميعاً قتلوا خلال اشتباكات مسلحة مع القوات الحكومية، دون الإشارة إلى أماكن مقتلهم، وتجنبت نشر صور لفعاليات التشييع الجماعية.

جانب من سور أكبر المستشفيات في العاصمة صنعاء وقد حولته الجماعة الحوثية معرضاً لصور قتلاها (الشرق الأوسط)

ويزيد عدد القادة الذين أعلنت الجماعة الحوثية عن تشييعهم خلال الشهر الجاري عن 25 قيادياً، في الوقت الذي تشهد مختلف جبهات المواجهة بينها وبين القوات الحكومية هدوءاً مستمراً منذ أكثر من عامين ونصف.

ورعت الأمم المتحدة هدنة بين الطرفين في أبريل (نيسان) من العام قبل الماضي، ورغم أنها انتهت بعد ستة أشهر بسبب رفض الجماعة الحوثية تمديدها؛ فإن الهدوء استمر في مختلف مناطق التماس طوال الأشهر الماضية، سوى بعض الاشتباكات المحدودة على فترات متقطعة دون حدوث أي تقدم لطرف على حساب الآخر.

قتلى بلا حرب

وأقدمت الجماعة الحوثية، أخيراً، على تحويل جدران سور مستشفى الثورة العام بصنعاء، وهو أكبر مستشفيات البلاد، إلى معرض لصور قتلاها في الحرب، ومنعت المرور من جوار السور للحفاظ على الصور من الطمس، في إجراء أثار حفيظة وتذمر السكان.

وتسبب المعرض في التضييق على مرور المشاة والسيارات، وحدوث زحام غير معتاد بجوار المستشفى، ويشكو المرضى من صعوبة وصولهم إلى المستشفى منذ افتتاح المعرض.

ويتوقع مراقبون لأحوال الجماعة الحوثية أن يكون هذا العدد الكبير من القيادات التي يجري تشييعها راجعاً إلى عدة عوامل، منها مقتل عدد منهم في أعمال الجباية وفرض النفوذ داخل مناطق سيطرة الجماعة، حيث يضطر العديد من السكان إلى مواجهة تلك الأعمال بالسلاح، ولا يكاد يمرّ أسبوع دون حدوث مثل هذه المواجهات.

ترجيحات سقوط عدد كبير من القادة الحوثيين بغارات الطيران الأميركي والبريطاني (رويترز)

ويرجح أن يكون عدد من هؤلاء القادة سقطوا بقصف الطيران الحربي للولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا اللتين شكلتا منذ قرابة عام تحالفاً عسكرياً للرد على استهداف الجماعة الحوثية للسفن التجارية وطرق الملاحة في البحر الأحمر، وتنفذان منذ ذلك الحين غارات جوية متقطعة على مواقع الجماعة.

كما تذهب بعض الترجيحات إلى تصاعد أعمال تصفية الحسابات ضمن صراع وتنافس الأجنحة الحوثية على النفوذ والثروات المنهوبة والفساد، خصوصاً مع توقف المعارك العسكرية، ما يغري عدداً كبيراً من القيادات العسكرية الميدانية بالالتفات إلى ممارسات نظيرتها داخل مناطق السيطرة والمكاسب الشخصية التي تحققها من خلال سيطرتها على أجهزة ومؤسسات الدولة.

وبدأت الجماعة الحوثية خلال الأسابيع الماضية إجراءات دمج وتقليص عدد من مؤسسات وأجهزة الدولة الخاضعة لسيطرتها، في مساعِ لمزيد من النفوذ والسيطرة عليها، والتخفيف من التزاماتها تجاه السكان بحسب المراقبين.