قرارات البنك المركزي المصري تلقي بظلالها على مناخ الاستثمار

تهديد بسحب استثمارات.. ورفع دعاوى قضائية

متعامل يتابع أسعار الأسهم في القاعة الرئيسية لبورصة مصر
متعامل يتابع أسعار الأسهم في القاعة الرئيسية لبورصة مصر
TT

قرارات البنك المركزي المصري تلقي بظلالها على مناخ الاستثمار

متعامل يتابع أسعار الأسهم في القاعة الرئيسية لبورصة مصر
متعامل يتابع أسعار الأسهم في القاعة الرئيسية لبورصة مصر

ينما تسعى مصر لجذب استثمارات أجنبية وعربية جديدة، من خلال تبسيط إجراءات استخراج التراخيص، وتسريع الفصل في النزاعات الاقتصادية، وإصدار قانون موحد للاستثمار، مع إعادة هيكلة السياسة المالية، تعكر مناخ الاستثمار فجأة في البلاد، ليلقي بظلاله على طموحات المصريين ككل وعلى مجتمع الأعمال خاصة.
فثمة خلاف ظهر بوضوح اليومين الماضيين، بين السياسة النقدية وكبار المستثمرين، من شأنه تكوين مناخ طارد وتصدير صورة سلبية، تؤثر بالكاد على ملايين المصريين المتعاملين في سوق المال والقطاع المصرفي بطريقة مباشرة، وعلى القطاعات التابعة بطريقة غير مباشرة، فضلاً عن قرارات سحب الاستثمارات التي قد تتبع تلك التطورات.
وأثارت تصريحات محافظ البنك المركزي المصري طارق عامر مؤخرًا، بشأن قرارات تنظيم الاستحواذ على الشركات، ووضع حد أقصى للرؤساء التنفيذيين للبنوك، الكثير من الجدل والبلبلة في الأوساط الاقتصادية في البلاد، خاصة القطاع المصرفي، بعد سلسلة قرارات تخفيض العملة، التي رأت المؤسسات المالية الدولية أنها تأخرت كثيرًا.
وفاجأ محافظ البنك المركزي في 24 مارس (آذار) الحالي القطاع المصرفي، بقرار من مجلس إدارة البنك، بألا تزيد مدة عمل الرؤساء التنفيذيين للبنوك العامة والخاصة في مصر عن 9 سنوات، سواء متصلة أو منفصلة.
وقال حسين شكري رئيس بنك الاستثمار الإقليمي «إتش سي» لـ«الشرق الأوسط» إن «قرار البنك المركزي حق أصيل له.. لكنه جاء في توقيت غير مناسب».
وأضاف شكري أن المركزي كان من الممكن أن يرجئ القرار في توقيت آخر، أو أن يستخدمه في حالات خلل ما في أحد البنوك.
وأبرز المسؤولين التنفيذيين الذين سيخرجون من مناصبهم بناء على قرار المركزي، هشام عز العرب، الرئيس التنفيذي للبنك التجاري الدولي، وحسن عبد الله، الرئيس التنفيذي للبنك العربي الأفريقي، وإسماعيل حسن، رئيس بنك مصر - إيران للتنمية، ونجلاه ياسر إسماعيل حسن، العضو المنتدب ببنك الكويت الوطني مصر، وأحمد إسماعيل حسن، الرئيس التنفيذي والعضو المنتدب في بنك أبوظبي الوطني مصر، وأشرف الغمراوي، نائب رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لبنك البركة مصر، وعبد الحميد أبو موسى، محافظ بنك فيصل الإسلامي، وحاتم صادق، رئيس مجلس إدارة بنك عودة.
وأثار هذا القرار، زوبعة كبيرة، يبدو أنها لن تهدأ قريبًا، مع إصرار مساهمين كبار في هذه البنوك على رفع قضايا ضد البنك المركزي، بحجة تدخله في قرارات الجمعية العمومية لها، بينما المبرر الذي لجأ إليه المحافظ، هو إعطاء الفرصة للشباب وتكوين صف ثان في القطاع المصرفي، وهو ما غذى انتشار تصريحات نسبت لمصادر مصرفية، بأن القرار مجرد «تصفية حسابات» مع بعض قادة البنوك التجارية.
وعلق هشام عز العرب الرئيس التنفيذي للبنك التجاري الدولي، أكبر بنك خاص في مصر، أمس الاثنين، على قرارات البنك المركزي، أن «المساهمين الأجانب في البنك طلبوا مني البحث عما إذا كان هناك قرارات مشابهة عالميًا.. وبحثت وسألت زملائي في البنوك الأجنبية مثل جي بي مورغان ولم أجد له مثيلا إلا في نيجيريا عام 2010 عندما أقرت الحكومة قرارًا مشابهًا للإطاحة برؤساء بنوك للتخلص منهم بسبب الفساد والرشاوى»، في إشارة إلى عدم رضائه على القرار، الذي قال المحافظ عنه إن «الكثيرين من رؤساء البنوك (الذي سيطالهم القرار) راضون عنه».
ولم تنته السوق من إدراك تبعات هذا القرار، حتى فاجأ البنك المركزي، مجتمع الأعمال، بتصريحات لعامر، أقل ما يوصف بها أنها «جريئة للغاية»، تحدث فيها عن صفقة شراء بنك الاستثمار «سي. آي. كابيتال» من قبل رجل الأعمال المصري الملياردير نجيب ساويرس، منتقدًا توجه الأخير لشراء البنك من خلال الحصول على قروض بنكية، ومشككًا في مؤهلاته.
ورد ساويرس في مقال نشر له في جريدة «أخبار اليوم» السبت الماضي، بتهديده بسحب استثماراته من مصر، قائلا: «أرض الله واسعة».
وكان البنك التجاري الدولي وافق في فبراير (شباط) على بيع بنك الاستثمار «سي. آي كابيتال» المملوك للبنك مقابل 924 مليون جنيه (05.104 مليون دولار) لساويرس من خلال شركته أوراسكوم للاتصالات والإعلام لكن الصفقة لم تنفذ حتى الآن.
وأضاف ساويرس في مقاله، أنه تفاجأ بدخول البنك الأهلي المصري (المملوك للدولة) بتقديم عرض شراء لـ«سي.آي كابيتال» ثم تراجع «بعد الشكوى إلى رئيس الحكومة» ثم كانت المفاجأة الثانية في انسحاب بنك حكومي من تمويل الصفقة ثم البنوك الخاصة «بناء على تعليمات من البنك المركزي».
كان البنك المركزي قرر ألا يزيد إجمالي قيمة التمويل المقدم من البنوك بغرض تمويل الاستحواذ على 50 في المائة من قيمة العملية، وخفض حدود الإقراض لتمويل البنوك للاستحواذ على الشركات إلى 2.5 في المائة من إجمالي محفظة القروض للبنك عند المنح (بدلاً من 5 في المائة)، وألا يزيد حد تمويل العميل الواحد والأطراف المرتبطة به على 0.5 في المائة من إجمالي محفظة القروض للبنك بدلاً من 20 في المائة.
ورغم أن المبرر الذي استند عليه محافظ البنك المركزي طارق عامر، في تمويل صفقة «سي. آي كابيتال»، يبدو وجيهًا، في الوقت الذي تسعى فيه مصر لجذب استثمارات جديدة من الخارج، وعدم الاعتماد على القروض الداخلية في تمويل الصفقات، فإن الملياردير ساويرس الذي أكد أن التمويل سيكون ذاتيًا فيما بعد، اعتبر أن منافسة بنك حكومي (البنك الأهلي) في الصفقة، ما هي إلا مزاحمة القطاع الخاص في الاستثمارات.
وقال حسين شكري في هذا الصدد: «أتفهم وأتفق مع وضع ضوابط ائتمانية، بحيث لا يزيد المبلغ المقترض عن 50 في المائة من قيمة صفقة الاستحواذ.. ولكن تخفيض نسبة التمويلات بغرض الاستحواذ من 5 في المائة إلى 2.5 في المائة، فهذا لا أتفهمه».
وأوضح شكري أن «50 في المائة من ودائع البنوك، مخصصة لسد عجز الموازنة وليست لتشجيع الأعمال، وهناك ائتمان يصل نسبته إلى 70 في المائة في بعض البنوك مخصص للدولة». منتقدًا أن يجور المركزي على «الائتمان الممنوح بغرض الاستحواذ، رغم أنه سيتم ضخه في شريان الاقتصاد مرة أخرى».
وبين السياسة النقدية وتأثيرها على مناخ الاستثمار، وقرارات وتصريحات طارق عامر، ورد فعل نجيب ساويرس، والبلبلة في القطاع المصرفي، واصل الدولار ارتفاعه في السوق الموازية، ليصل إلى مستوى تاريخي لم يصل إليه من قبل، 10 جنيهات. في حين يبلغ السعر الرسمي للجنيه نحو 8.88 للدولار الواحد. وكان البنك المركزي قد خفض قيمة الجنيه في وقت سابق من الشهر 112 قرشًا، ثم رفعها 7 قروش.
حسن عطا الخبير في الاقتصاد الكلي، قال لـ«الشرق الأوسط» إن: «جميع القرارات التي تمت الفترة الأخيرة، تمت تحت ضغوط.. وتفتقد إلى الرشد»، مشيرًا إلى أن من يحدد رئيس البنك أو سنه أو بقاءه من عدمه «هم مُلاكه».
ونصح عطا المسؤولون بأن يرفعوا «أيديهم عن الاقتصاد، وتركه يعمل بآلية السوق بحرية تامة.. مع إحكام الرقابة والتشريع».
وقال مصدر رفيع المستوى يعمل في القطاع المصرفي، فضل عدم نشر اسمه لحساسية منصبه، إن «محافظ البنك المركزي السيد طارق عامر توقع استثمارات 30 مليار دولار من الصين وحدها خلال العامين المقبلين، ونحو 5 مليارات من صناديق استثمار خلال 3 أشهر، هل تلك الاستثمارات ستأتي في هذا المناخ».



هل تؤدي العقوبات وأسعار الفائدة الروسية إلى موجة شاملة من الإفلاسات؟

الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
TT

هل تؤدي العقوبات وأسعار الفائدة الروسية إلى موجة شاملة من الإفلاسات؟

الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)

في ظلّ الضغوط المتزايدة التي فرضتها العقوبات الغربية وارتفاع أسعار الفائدة بشكل مذهل، تتزايد المخاوف في الأوساط الاقتصادية الروسية من احتمال حدوث موجة من الإفلاسات التي قد تهدّد استقرار الكثير من الشركات، لا سيما في ظل استمرار الرئيس فلاديمير بوتين في التمسّك بحربه في أوكرانيا.

وفي كلمته خلال مؤتمر الاستثمار الذي نظمته مجموعة «في تي بي» هذا الشهر، لم يفوّت بوتين الفرصة للتفاخر بما عدّه فشل العقوبات الغربية في إضعاف الاقتصاد الروسي، فقد صرّح قائلاً: «كانت المهمة تهدف إلى توجيه ضربة استراتيجية إلى روسيا، لإضعاف صناعتنا وقطاعنا المالي والخدماتي». وأضاف أن النمو المتوقع للاقتصاد الروسي سيصل إلى نحو 4 في المائة هذا العام، قائلاً إن «هذه الخطط انهارت، ونحن متفوقون على الكثير من الاقتصادات الأوروبية في هذا الجانب»، وفق صحيفة «واشنطن بوست».

وعلى الرغم من التصفيق المهذّب الذي قُوبل به الرئيس الروسي، فإن التوترات بدأت تظهر بين النخبة الاقتصادية الروسية بشأن التأثيرات السلبية المتزايدة للعقوبات على الاقتصاد الوطني. فقد حذّر عدد متزايد من المسؤولين التنفيذيين في الشركات الكبرى من أن رفع البنك المركزي أسعار الفائدة لمكافحة التضخم -الذي تفاقم بسبب العقوبات والنفقات العسكرية لبوتين- قد يهدد استقرار الاقتصاد في العام المقبل. وقد تتسبّب هذه السياسة في تسارع موجات الإفلاس، لا سيما في القطاعات الاستراتيجية الحساسة مثل الصناعة العسكرية، حيث من المتوقع أن يشهد إنتاج الأسلحة الذي يغذّي الحرب في أوكرانيا تباطؤاً ملحوظاً.

حتى الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترمب، أشار في منشور على شبكته الاجتماعية «تروث سوشيال» إلى أن روسيا أصبحت «ضعيفة جزئياً بسبب اقتصادها المتداعي».

تحذيرات من الإفلاس

ومع تزايد توقعات أن «المركزي الروسي» سيضطر إلى رفع الفائدة مرة أخرى هذا الشهر، انضم بعض الأعضاء المعتدلين في الدائرة الداخلية لبوتين إلى الانتقادات غير المسبوقة للسياسات الاقتصادية التي أبقت على سعر الفائدة الرئيس عند 21 في المائة، في وقت يستمر فيه التضخم السنوي في الارتفاع ليصل إلى أكثر من 9 في المائة. وهذا يشير إلى احتمالية حدوث «ركود تضخمي» طويل الأمد أو حتى ركود اقتصادي في العام المقبل. وبالفعل، يتوقع البنك المركزي أن ينخفض النمو الاقتصادي بشكل حاد إلى ما بين 0.5 في المائة و1.5 في المائة في العام المقبل.

كما تسبّبت العقوبات الأميركية الجديدة التي شملت فرض عقوبات على 50 بنكاً روسياً، بما في ذلك «غازبروم بنك»، وهو قناة رئيسة لمدفوعات الطاقة، في زيادة تكاليف المعاملات بين المستوردين والمصدرين الروس. وقد أسهم ذلك في انخفاض قيمة الروبل إلى أدنى مستوى له مقابل الدولار منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022. وقد أدى هذا الانخفاض في قيمة الروبل إلى زيادة التضخم، حيث ارتفعت الأسعار بنسبة 0.5 في المائة بين 26 نوفمبر (تشرين الثاني) و2 ديسمبر (كانون الأول)، وفقاً للبيانات الرسمية.

وفي هذا السياق، حذّر رئيس هيئة الرقابة المالية الروسية، نجل أحد أقرب حلفاء بوتين، بوريس كوفالتشوك، من أن رفع أسعار الفائدة «يحد من إمكانات الاستثمار في الأعمال، ويؤدي إلى زيادة الإنفاق في الموازنة الفيدرالية». كما انتقد الرئيس التنفيذي لشركة «روسنفت» الروسية، إيغور سيتشين، البنك المركزي بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، مؤكداً أن ذلك أسهم في زيادة تكاليف التمويل للشركات وتأثر أرباحها سلباً.

وفي تصريح أكثر حدّة، حذّر رئيس شركة «روس أوبورون إكسبورت» المتخصصة في صناعة الأسلحة، سيرغي تشيميزوف، من أن استمرار أسعار الفائدة المرتفعة قد يؤدي إلى إفلاس معظم الشركات الروسية، بما في ذلك قطاع الأسلحة، مما قد يضطر روسيا إلى الحد من صادراتها العسكرية.

كما شدّد قطب صناعة الصلب الذي يملك شركة «سيفيرستال»، أليكسي مورداشوف، على أن «من الأفضل للشركات أن تتوقف عن التوسع، بل تقلّص أنشطتها وتضع الأموال في الودائع بدلاً من المخاطرة بالإدارة التجارية في ظل هذه الظروف الصعبة».

وحذّر الاتحاد الروسي لمراكز التسوق من أن أكثر من 200 مركز تسوق في البلاد مهدد بالإفلاس بسبب ارتفاع تكاليف التمويل.

وعلى الرغم من أن بعض المديرين التنفيذيين والخبراء الاقتصاديين يشيرون إلى أن بعض الشركات قد تبالغ في تقدير تأثير أسعار الفائدة المرتفعة، في محاولة للحصول على قروض مدعومة من الدولة، فإن القلق بشأن الوضع الاقتصادي يبدو مشروعاً، خصوصاً أن مستويات الديون على الشركات الروسية أصبحت مرتفعة للغاية.

ومن بين أكثر القطاعات تأثراً كانت صناعة الدفاع الروسية، حيث أفادت المستشارة السابقة للبنك المركزي الروسي، ألكسندرا بروكوبينكو، بأن الكثير من الشركات الدفاعية لم تتمكّن من سداد ديونها، وتواجه صعوبة في تأمين التمويل بسبب ارتفاع تكاليفه. وقالت إن بعض الشركات «تفضّل إيداع الأموال في البنوك بدلاً من الاستثمار في أنشطة تجارية ذات مخاطر عالية».

كما تحدّث الكثير من المقاولين علناً عن الأزمة الاقتصادية المتزايدة في روسيا. ففي أوائل نوفمبر، أشار رئيس مصنع «تشيليابينسك» للحديد والصلب، أندريه جارتونغ، خلال منتدى اقتصادي إلى أن فروعاً رئيسة من الهندسة الميكانيكية قد «تنهار» قريباً.

وفي الثالث من ديسمبر (كانون الأول)، أفادت وكالة «إنترفاكس» الروسية بأن حالات عدم السداد انتشرت في مختلف أنحاء الاقتصاد، حيث تأخرت الشركات الكبرى والمتوسطة بنسبة 19 في المائة من المدفوعات بين يوليو (تموز) وسبتمبر (أيلول)، في حين تأخرت الشركات الصغيرة بنسبة 25 في المائة من المدفوعات في الفترة نفسها.

وحسب وزارة التنمية الاقتصادية الروسية، فقد انخفض الاستثمار في البلاد، وتسببت العقوبات في ارتفاع تدريجي لتكاليف الواردات والمعاملات المالية، مما أدى إلى زيادة التضخم. كما قال مسؤول مالي روسي كبير سابق، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته بسبب حساسية الموضوع: «ما يحدث هو صدمة إمداد نموذجية في البلاد».

صناعة الدفاع مهددة

تأتي هذه التحديات في وقت حساس بالنسبة إلى صناعة الدفاع الروسية. فعلى الرغم من ضخ بوتين مبالغ ضخمة من التمويل الحكومي في هذا القطاع، مع تخصيص 126 مليار دولار في موازنة العام المقبل، فإن معظم الزيادة في الإنتاج كانت ناتجة عن تعزيز القوة العاملة لتشغيل المصانع العسكرية على مدار الساعة وتجديد مخزونات الحقبة السوفياتية. ومع ذلك، ومع استمرار الحرب ودخولها عامها الثالث، وارتفاع خسائر المعدات العسكرية، فإن القوة العاملة في القطاع قد وصلت إلى أقصى طاقتها، وإمدادات الأسلحة السوفياتية تتضاءل بسرعة.

وتقول جانيس كلوغ، من المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، إن التكاليف المتزايدة والعقوبات المشددة على واردات المعدات تجعل من الصعب على قطاع الدفاع الروسي بناء الأسلحة من الصفر. ووفقاً لتقرير صادر هذا العام عن الباحثَين في المعهد الملكي للخدمات المتحدة بلندن، جاك واتلينغ ونيك رينولدز، فإن 80 في المائة من الدبابات والمركبات القتالية المدرعة التي تستخدمها روسيا في الحرب ليست جديدة، بل جُدّدت من المخزونات القديمة. ويضيف التقرير أن روسيا «ستبدأ في اكتشاف أن المركبات بحاجة إلى تجديد أعمق بحلول عام 2025. وبحلول عام 2026 ستكون قد استنفدت معظم المخزونات المتاحة».

ثقة الكرملين

على الرغم من هذه التحديات يبدو أن الوضع لا يثير قلقاً في الكرملين. وقال أكاديمي روسي له علاقات وثيقة مع كبار الدبلوماسيين في البلاد: «لا يوجد مزاج ذعر». وأضاف أن المسؤولين في الكرملين يعدّون أن «كل شيء يتطور بشكل جيد إلى حد ما». ووفقاً لهذا الرأي، فإن روسيا تواصل تحقيق تقدم عسكري، وفي ظل هذه الظروف، لا يرى الكرملين حاجة إلى تقديم أي تنازلات جادة.

وتزيد الاضطرابات السياسية في العواصم الغربية -بما في ذلك التصويت بحجب الثقة في فرنسا، مع التصويت المرتقب في ألمانيا، بالإضافة إلى اعتقاد الكرملين أن ترمب قد يقلّل من دعمه لأوكرانيا- من الثقة داخل روسيا.

وقد تصدّى بوتين لانتقادات متزايدة بشأن زيادات أسعار الفائدة ورئيسة البنك المركزي، إلفيرا نابيولينا، قائلاً في مؤتمر الاستثمار إن كبح جماح التضخم يظل أولوية بالنسبة إليه. ومع الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية الأساسية مثل البطاطس التي ارتفعت بنسبة 80 في المائة هذا العام، يواصل بوتين دعم نابيولينا وزيادات أسعار الفائدة، رغم شكاوى الشركات الكبرى. وقالت كلوغ: «من وجهة نظر بوتين، لا يمكن السماح للتضخم بالخروج عن السيطرة، لأنه يمثّل تهديداً لاستقرار النظام السياسي، ولهذا السبب منح نابيولينا تفويضاً قوياً».

لكن المستشارة السابقة للبنك المركزي، ألكسندرا بروكوبينكو، ترى أن الضغط من الشركات الكبرى لن يهدأ. وقالت: «عندما يكون التضخم عند 9 في المائة، وسعر الفائدة عند 21 في المائة، فهذا يعني أن السعر الرئيس لا يعمل بشكل صحيح، ويجب البحث عن أدوات أخرى. أولوية بوتين هي الحرب وتمويل آلتها، ولا يمتلك الكثير من الحلفاء، والموارد المتاحة له تتقلص». وأضافت أنه من المحتمل أن تتعرّض نابيولينا لمزيد من الضغوط مع استمرار الوضع الاقتصادي الصعب.

ومع تزايد الضغوط على بوتين، أصبحت الصورة في الغرب أكثر تفاؤلاً بشأن فرص التغيير في روسيا، وفقاً لمؤسسة شركة الاستشارات السياسية «ر. بوليتيك» في فرنسا، تاتيانا ستانوفايا.

وأضافت: «بوتين مستعد للقتال ما دام ذلك ضرورياً... لكن بوتين في عجلة من أمره. لا يستطيع الحفاظ على هذه الشدة من العمل العسكري والخسائر في الأرواح والمعدات كما كان في الأشهر الأخيرة».