«الكتب المستعملة».. مصدر دخل إنساني

ناشطون كويتيون من الجنسين يبتكرون دورًا مختلفًا للقراءة

من مشروع بيع كتب لأجل تعليم الأطفال
من مشروع بيع كتب لأجل تعليم الأطفال
TT

«الكتب المستعملة».. مصدر دخل إنساني

من مشروع بيع كتب لأجل تعليم الأطفال
من مشروع بيع كتب لأجل تعليم الأطفال

أقصى ما تفكر فيه حين تجد لديك المزيد من الكتب الفائضة عن مكتبتك، هو أن تهديها إلى الأصدقاء، أو تتخلص منها، وخصوصًا الكتب التي لا تنسجم مع ذائقتك القرائية.
ولكن غيرك يفكر بطريقة أخرى، فقد ابتكرت مجموعات من المثقفين في دولة الكويت أسلوبًا جديدًا للاستفادة من هذه الكتب التي يطلق عليها عادة صفة «الكتب المستعملة»، وحولتها إلى مصدر دخل إنساني، بحيث تقوم هذه المجموعات بجمع الكتب التي انتهى القراء من قراءتها، أو التي لا يحبذون قراءتها لكونها لا تتوافق وميولهم القرائية، ثم تقيم هذه المجموعات معرضًا لهذه الكتب، إما في المقاهي أو قاعات بداخل جمعيات النفع العام وغيرها. ثم تجمع حصيلة المبيعات، وتوزعها على المحتاجين والفقراء سواء في داخل الكويت أو خارجها، عن طريق جمعيات معترف بها دوليًا، وقد يوزعون العائدات إما على شكل أموال نقدية أو عينية كالدواء والغذاء والثياب أو الأغطية في الشتاء. وميزة هذه المعارض أنها لا تحدد سعرًا معينًا للكتاب، بل تترك للمشتري (الإنساني) حرية تحديد السعر الذي يريده وفقًا لرغبته في التبرع.
المجموعات هذه تضم مثقفين من الجنسين: الشباب والفتيات الذين خصصوا المزيد من أوقاتهم وجهودهم للتواصل مع الأدباء والقراء بشكل عام والمؤسسات الثقافية، لكي يسألوهم: «هل لديك كتب لا تريدها»؟ بل إن بعض المؤلفين يتبرعون بكتبهم شخصيًا لتلك المجموعات التي بدأت تأخذ شكلاً منظمًا بأن أطلقت على نفسها اسما معينًا مثل مجموعة «الأيادي البيضاء»، أو مشروع «ساهم بتعليم طفل» الذي أطلقته مجموعة ReadershipQ 8 (اقرأ، استمتع، تغير).
* بين غبار التعب
مجموعة الأيادي البيضاء، التي تعتبر الناشطة الثقافية هبة السعدون من المؤسسين، كانت محاطة بغبار الكتب في مخزن للكتب داخل سرداب في مقر رابطة الأدباء الكويتيين، حين وجدتها مع زملائها ترتب الكتب «المستعملة»، وتضعها في صناديق من الكرتون. كان المشهد أشبه بعائلة تعيد توضيب منزلها في العطلة، سألتها عما تفعله هي وزملاؤها، فأجابت بأنهم يريدون الانتقال إلى مكان آخر خصصه لهم مختار منطقة «العديلية»، ثم استمرت تحكي بحماس لكونها وجدت مقرًا خاصًا للمجموعة منحهم إياه مختار العديلية عبد الله الطيار الذي آمن بأفكارهم، وبأنها تعمل على نقل الكتب من مقرها القديم في الرابطة، وهي تردد: «لم يقصروا معنا، فقد تبنوا مشروعنا ودعموه، ولكننا وجدنا مقرًا خاصًا بنا، سنخزن فيه الكتب، ونعقد فيه اجتماعاتنا». وشيئًا فشيئًا أصبح لمجموعة الأيادي البيضاء حضورًا لائقًا في المجتمع، فآزرتهم شخصيات معروفة موقنة برسالتهم الإنسانية التي يؤدونها من خلال الكتاب.
مجموعة الأيادي البيضاء تعمل وفق خطط مبرمجة، فهي تخصص ريع الكتب «المستعملة» تارة لمرضى السرطان، وتارة أخرى للأطفال السوريين في أماكن لجوئهم، وما إلى هنالك من أعمال إنسانية تقول عنها هبة السعدون: «الفعاليات التي ننظمها تهدف إلى تخفيف وطأة الألم عن المحتاجين في الكويت وخارجها».
أما الشاعر حمود الشايجي، فقد أطلق مشروعًا متميزًا أيضًا من خلال مجموعة ضمت عددًا من المثقفين الشباب، أطلقوا عليها اسم Readershipq8 وأقامت هذه المجموعة مشروعًا لدعم تعليم الأطفال، أيضًا من خلال بيع الكتب «المستعملة». ويصف الشايجي مشروع المجموعة بكونه ليس ترفًا، بل هو ينطلق من الإيمان بأهمية القراءة على إنها مسؤولية الفرد تجاه ذاته ومجتمعه، وبالتالي، وحسب رأي الشايجي، فإن القراءة هي نوع من أنواع العلاقات الإنسانية، ولذلك فإن دخول العمل التطوعي هو منسجم تمامًا مع أهداف القراءة، ويتابع الشايجي كلامه: انطلاقًا من هذا لإيمان تم تطوير فكرة نادي القراءة إلى مشروع ثقافي يهتم بالقراءة والكتاب وكذلك العمل التطوعي لذلك أطلقنا في بداية موسمنا الثقافي مبادرة هي «ساهم بكتاب لتعليم طفل». ثم بمبادرة ثانية هي «ساهم بشراء كتاب لتعليم طفل». المبادرة الأولى اهتممنا فيها بجمع الكتب من الأفراد والجهات، والذي لم نتوقع هذا الإقبال الرائع الذي تفاجأنا فيه. بعد أن وصل عدد الكتب المتبرع بها إلى الآلاف. فضلاً عن القصص التي يروونها الناس وذكرياتهم مع هذه الكتب التي تشكل جزءا من ذاكرتهم وتبرعوا بها لتعليم الأطفال لإيمانهم بالمبادرة. أما المبادرة الثانية فهي. «ساهم بشراء كتاب لتعليم طفل». وهي عبارة عن معرض. تعرض بها الكتب التي تم التبرع بها من الأفراد والجهات وتصنيفها وتسعيرها بأسعار رمزية وعرضها على الجمهور في مكان عام.
* بديل عن دور المثقف السلبي
وعن سبب المجال الذي اختاره الشايجي الذي هو تعليم الطفل، يقول الشايجي:
الجواب عن هذا السؤال ليس بالمعقد، فالطفل هو أصغر خلية في المجتمع. وإن صلحت هذه الخلية صلح مستقبل المجتمع. لذلك آمنا بدور التعليم لإنقاذ المجتمع من أي آفة تنهشه مثل المخدرات والإرهاب والتطرف بجميع أشكاله. فلو لاحظنا في الآونة الأخيرة وبسبب بعد دور المثقف في المجتمع وعدم إنشائه لمبادرات تدعم الدور الثقافي الاجتماعي وتسهم في تعزيز وحدة المجتمع وتجعله أكثر ترابطا ولحمة ورحمة فيما بينه دون تميز عنصري ديني أو مذهبي أو عرقي. انطلقنا نحن مشروعReadershipQ8 من هذه النقطة. وعملنا على هذه المبادرة الثقافية الاجتماعية وهي تعليم الأطفال. دون أي مقياس مسبق يصنف به الطفل. أي طفل في الكويت يستطيع أن يستفيد من أموال هذه المبادرة. دون النظر إلى جنسه أو جنسيته أو دينه أو طائفته. لذلك تعاونا مع الجمعية الوطنية لحماية الطفل التي تشرف على إيصال الأموال إلى مستحقيها.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.