صراعات الإسلامويين المتشددين البينية المفتوحة.. محاولة تفسيرية

السجالات والمخالفات تشكل أكثر من 70 % من مجموع أعمالهم

صراعات الإسلامويين المتشددين البينية المفتوحة.. محاولة تفسيرية
TT

صراعات الإسلامويين المتشددين البينية المفتوحة.. محاولة تفسيرية

صراعات الإسلامويين المتشددين البينية المفتوحة.. محاولة تفسيرية

تمثل الصراعات النظرية والسجالية لمن يصفون أنفسهم بـ«الإسلاميين» و«الجهاديين» أكثر من 70 في المائة من مجموع مؤلفاتهم ومضامين وغايات خطاباتهم تقريبًا، وتسير معهم، منذ وثائقهم التأسيسية حتى سجالاتهم المتتالية والمستمرة. ونلمحها صراعات نظرية دائمة وعملية وقتالية أحيانا، قد يبدأ من التخطئة النظرية والاتهام في العقيدة والذمة، تخوينًا وتكفيرًا، حتى التصفية العملية والاغتيال المادي، فضلا عن المعنوي، وتنذر حال انتصار واحدها باشتعال الصراع بين جميعها، حيث سنة الاختلاف ومفهومه واتساعه ظل واستمر هشًا في إطار الفرقة الناجية التي تنفي آخريها. وتتبدى الصراعات على المستوى النظري تحت لافتات «الوسط والرشادة» كما تحتكر وصف «النجاة والاصطفاء»، ودعوى «التوجهات الصحيحة» بينما مخالفوها أدعياؤها. ومن هنا كتب منظّروها في تعديل أنصارهم وجرح مخالفيهم، فكانت مراسلات ومطويات أسامة بن لادن في نقد علماء المملكة العربية السعودية، وكتب آخر تحت عنوان «أدعياء السلفية» وأبو قتادة الفلسطيني عن «الجرح والتعديل» الذي انتقد فيه شيوخ «السلفية العلمية» ووصفهم بأنهم «مُرجئة العصر»، وكتب المقدسي عن أن «الديمقراطية دين يكفر من يؤمن به» وكتب أخيرا المنظر الداعشي أبو الحسن الأزدي عن «السرورية فصام يولد الانشطار» في نقد تيارها، وهكذا تتم التصفيات نظريًا وعمليًا بين مختلف الحركات المتطرفة التي تطلق على نفسها مسميات إسلاموية وجهادية على السواء.
«قتل الأب» هذه الأسطورة الفرويدية صحيحة تمامًا في قراءة صراعات «الإسلامويين المتشددين» واختلافاتهم، حيث يكون احتكار الشرعية وأحاديتها سمة كل جماعة في وجه مخالفيها وآخريها، وخصوصا الأقربين منها والأشباه بها المنافسين لها في تصور الشرعية وجاذبية الجماهير والتجنيد.
إنها فرضية مثيرة، كلما كان الاقتراب والتنافس داخل المجال الأصولي والديني المنهجي نفسه، ازدادت الكراهية والنفور والتشويه المتبادل بين عناصره، ويعتبر كل منها الانشقاق عنه أو الاختلاف معه ومع قادته خيانة وإعاقة لمشروعه، تستحق البتر في الغالب.
يعد كتاب أبو بكر ناجي «الخونة: أخسّ صفقة في تاريخ الحركة الإسلامية» - وهو نفسه صاحب كتاب «إدارة التوحش» المتأخر عن السابق - نموذجًا واضحًا ودالاً على فعالية منطق التخوين بين هذه الجماعات. ولقد عرض فيه لما يراه «خيانات» جماعات وحركات مختلفة، تبدأ من «النهضة» في تونس و«الإخوان المسلمين» وتصل إلى «الجماعة الإسلامية المصرية» وجماعات «السلفية الإصلاحية والعلمية» وشخصيات مثل فوزي السعيد وقلب الدين حكمتيار وعبد رب الرسول سياف ومفكّرين وأفراد ورجال دين كثر، من مختلف بلدان العالم الإسلامي، كلهم متهمون بتهمة واحدة تستحق العقاب هي «الخيانة».
هكذا حاول منذ وقت مبكر محمد عبد السلام فرج في «الفريضة الغائبة» حين سفّه كل الأطروحات الإسلامية الأخرى، مختزلاّ التوحيد في «الجهاد»، والجهاد في «القتال»، باحثًا عن «دار الإسلام» وفق فتوى التتار التي نقلها خطأ.
وحسب شهادة أيمن الظواهري نفسه في رسالته «التبرئة في الرد على وثيقة الترشيد» لسيد إمام، ذكر أن المنتقد في كتابه الجامع «دستور جماعة الجهاد» قد كفّر جماعات كـ«الإخوان المسلمين» و«الجماعة الإسلامية المصرية». ومن هنا كان تدخله وجماعته في الحذف قبل النشر، وهو ما أغضب عبد القادر بن عبد العزيز وقطع العلاقة بينهما كما ذكر كل منهما.
يسيطر تصوّر «الفرقة الناجية»، ووصف «الطائفة المنصورة»، على كل جماعة وحركة متشددة وتحتكره دون سواها من الجماعات والحركات الأخرى. وفي أقل نبراته تكتفي بوصف أنها «الأمة الوسط» أو«الجماعة الرشيدة»، مقيمة حدها الفاصل بينها كقاعدة وطليعة منتصرة - بوعد الله وبين المنحرفين والمضلين والمثبطين والمتساقطين من سواها أو ممّن يخرج عليها.
وعلى الرغم من أن هدف «الدولة الإسلامية» أو «تطبيق الشريعة» أو «استعادة الخلافة» شعارات معلنة بين مختلف المتشددين، فإن كلاً منهم يحتكرها لنفسه، وينذر انتصار أحدها بصراع جديد مع آخريها، حيث التصفية والصراع المؤبد بين ممثليها دائمًا، وضرورة الإذعان والخضوع للمتغلب منها وهو ما لا يحدث بالغالب، ويبقى الصراع مفتوحًا.
وانطلاقا من تمثل وتقمص كل منها لـ«الطائفة المنصورة» و«الجماعة الرشيدة» يبدأ مسلسل اختزال الصحة، إسلامًا وشرعًا وجهادًا، في الجماعة، ثم تشخصن في قادتها وأميرها، ومن ثم يكون أدنى نقد لها - أو لهم - خروجا عن الإسلام والشرع، وخيانة لدين الله وأمانته، يستحق القتل أحيانا، متى كانوا في ساحة جهاد. وهذا ما فعله كان أبرز نموذج له الجزائري عنتر الزوابري (1970 - 2002) أمير «الجماعة الإسلامية المسلحة» الذي قتل ذات مساء من خريف عام 1995 نحو 500 عنصر معه بقيادة الشيخ الدكتور محمد السعيد (بلقاسم الوناسي) زعيم تيار «الجزأرة» المعتدل والتقريبي، حين نحا الأخير نحو المصالحة ومال إليها مع الدولة والنظام الجزائري، فكان جوابه التضحية به والخمسمائة الذين كانوا معه!
بل إن هذا «الأمير»، أي الزوابري، لم يتحمّل خلاف مجموعة من عناصر «القاعدة» و«الجماعة الإسلامية المقاتلة» الليبية الذين جاءوا نصرة له من ليبيا بأمر من الظواهري و«القاعدة»، فقتلهم جميعًا ولم يعد منهم أحد. وكان عددهم خمسة عشر عنصرا، وهو ما كان دافعًا لانقلاب مَن أيّدوه عليه فيما بعد، شأن المتشدد أبي قتادة الفلسطيني.
بعد وصول حماس للسلطة وسيطرتها على قطاع غزة بوقت قصير، أعلنت جماعة «جند أنصار الله» بقيادة الطبيب عبد اللطيف موسى المشهور بـ«أبو النور المقدسي» إمارة دينية في شرق غزة، فلم يكن إلا قتله وقتل من معه في مسجد ابن تيمية يوم 15 أغسطس (آب) 2009. وهو ما انتقده المنظرون المتشددون قائلين بتكفير حماس، التي لا تعلن كفرها بالديمقراطية، وتشبه في ردتها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان والقائلين بـ«علمانية النظام الإسلامي»، كما ذكر أبو محمد المقدسي في رثائه لجماعة «جند أنصار الله» في هذا التاريخ.
وتشتعل لغة الخلاف والصراع مع ازدياد راديكالية الجماعة، حيث لا يجوز - وفق تصورها وأدبياتها - الخروج والانشقاق كما لا يجوز فيها الاختلاف أو المنافسة، فحينئذ لا جزاء إلا القتل، حكمًا أو اغتيالاً.
هكذا فعل أبو بكر البغدادي مع أستاذه ومعلمه السابق الشيخ محمد حردان العيساوي (أبو عبد الله محمد المنصور) أمير «جيش المجاهدين في العراق» الذي كان قتله واغتياله أول أمرٍ أَمَر به البغدادي جنوده وقواده في سوريا بعد دخولهم إليها! وهو ما يبرر له الكاتب الداعشي صلاح الدين عمر بـ«الخيانة»، إذ يقول ملوّحًا بخيانته ومتهمًا لذمته، وهو من تلقى عنه البغدادي بعض دروس الفقه. كما كان أول من استضاف الزرقاوي في العراق وعرّفه على سائر المتشددين فيها بعد دخوله إليه عام 2003، لكنه في النهاية صار «خائنًا» و«عميلاً للأميركان» لمجرّد اتهامه للبغدادي بعدم العلم وعدم الأهلية للقيادة.
وحسب الكاتب الداعشي: «لقد اعتقلت القوات الأميركية محمد حردان العيساوي - المُكنّى أيضًا بأبي سعيد العراقي - عام 2006 م، وهو من طلبة العلم المتقدمين، بل لعله من أعلم أهل العراق، وهو الأمير العام لـ«جيش المجاهدين في العراق» وكان المسؤول عن خطف أعداد كبيرة جدًا من الصحافيين والأجانب في العراق. ثم قامت بإطلاق سراحه بعد سنة وشهرين تقريبا من اعتقاله فقط (!!)، علما بأن الآلاف من البسطاء الذين اعتقلتهم القوات الأميركية لم يطلق سراحهم إلا بعد ثلاث أو أربع سنوات! فكيف تم إطلاق سراح الأمير العام لجيش المجاهدين بعد سنة واحدة فقط؟من حقنا أن نسال هذا السؤال. لكن كما يقال إذا عُرف السبب بطل العجب، فما إن خرج الرجل من السجن حتى راح يُنَظِّر ضد تنظيم «القاعدة» وضد «داعش» وألّف بعد خروجه من السجن مباشرة أربعة كتب كلها موجهة ضد «الجهاد» و«المجاهدين» على شكل فتاوى ونصائح باردة للمجاهدين هي «أبرد من نصائحك وتوجيهاتك» والكلام لا يزال للكاتب الداعشي.
الذي يتابع: «والعجيب أنه بعد خروجه من السجن استقر به المقام في سوريا. استقر هناك مرحبًا به من قبل الحكومة السورية منذ عام 2007 ولم يخرج من سوريا إلا بعد بدء العمل الجهادي فيها!!! علما أن المعتقل مع محمد حردان في نفس القضية لا يزال ولحد الآن ومنذ تسع سنوات معتقلاً عند الحكومة العراقية حيث سلمه الأميركان لهم بعد خروجهم من العراق. فكيف يطلق سراح الأمير ويبقى الجندي في الاعتقال؟ أليس من حقنا أن نسال هذا السؤال؟». وهو ما ردده أيضًا كثير من أنصار «داعش» مثل جرير الحسيني وغيره، في شهادته على محمد حردان الذي قتل بعد ذلك.
أيضًا، فعلها «داعش» مع أبو خالد السوري الذي يصفه المنظر الداعشي صلاح الدين عمر بقوله: «أخطأ الرجل بانضمامه إلى (تنظيم) أحرار الشام، وهي جماعة ليست إسلامية، وهذا ليس قولنا نحن فقط وإنما هو قول الآخرين من المحللين السياسيين والمتابعين للشأن السوري». ويستشهد عمر بمن ينفي عن هذه الجماعة «الإسلامية» ناقلاً عنه قوله: «أما تنظيمات الجبهة الإسلامية ومنها أحرار الشام والجيش الحر فجهادها وطني، سقفها وطني، محدود بإطار وطني، حتى تشخيص الصراع عندها محدود ضمن إطار وطني».
ثم أن الوطنية صنم عند «الدواعش» و«القاعدة»، تدخل في الإيمان بالطاغوت عند جميع تيارات التشدد، ويمكن أن تكون سندا للتكفير. ويضيف هذا الكاتب في تبرئة قتل أبي خالد السوري من قبل «داعش» قوله ورده على أبي محمد المقدسي: «الدولة الإسلامية لم تكن بدعا في قتلها لأبي خالد ولبعض الأخوة في جبهة النصرة، نعم ليس الأمر جديدًا، فالتاريخ الإسلامي مليء بالصراعات بين المسلمين. ألم يفلق علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وجيشه رؤوس الآلاف - أي نعم الآلاف - من المسلمين من جيش معاوية؟!! ألم يفلق معاوية - رضي الله عنه - وجيشه رؤوس الآلاف من جيش علي؟!! ألم يفلقوا رأس عمار - رضي الله عنه - ؟!! أليست هذه دماءٌ معصومة؟ حتى إذا رشح المسلمون حكمين ليوقفوا سفك الدماء المعصومة إذ بأحدهما لا يفعل ما اتفق عليه مع صاحبه ويتسبب في مصيبة جديدة للمسلمين، وكلنا اليوم لا يسعنا إلا أن نترضى عن علي ومعاوية وعلى الحكمين، لماذا؟ لأن هذه السيئات مهما عظمت، فإنها تضيع في بحار حسناتهم. ألم يفلق قطز رؤوس العشرات من المماليك البحرية من المسلمين من أتباع الظاهر بيبرس؟ ألم يفلق الظاهر بيبرس رأس الأمير المنتصر قطز مباشرةً بعد عودته من انتصاره العظيم في عين جالوت؟ إن الصراع بين المسلمين وقتل بعضهم بعضًا يملأ صفحات التاريخ الإسلامي، ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو مكابر».



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».