من التاريخ: تطوّر النظام التجاري الدولي

من التاريخ: تطوّر النظام التجاري الدولي
TT

من التاريخ: تطوّر النظام التجاري الدولي

من التاريخ: تطوّر النظام التجاري الدولي

لقد سعى الحلفاء عقب نهاية الحرب العالمية الثانية لتدشين نظام تجاري دولي، كما تابعنا في الأسبوع الماضي، حيث سعت الولايات المتحدة والتي كانت أكبر قوة اقتصادية دولية إلى اقتفاء أثر النظام النقدي والمالي الذي رسخته والمعروف بـ«نظام بريتون وودز»، إذ أسّس صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لإعادة الإعمار والتنمية ليكونا ركيزتي هذا النظام.
ولكن مسعى الولايات المتحدة والحلفاء لم يستطع تطبيق نفس المبدأ على التجارة الدولية نظرًا للظروف المرتبطة بها وأثرها المباشر على التنمية والتطور في الدول، ومن ثم أكتفي بوضع نظام متعدد الأطراف لإدارة التجارة الدولية عرف باسم «الاتفاقية العامة للتجارة والتعريفات» (الغات) GATT التي أقرّت كثيرا من المبادئ، وعلى رأسها منع التمييز ومنح الدول المتعاقدة حق الدولة الأولى بالرعاية، أي أن ما يمنح لدولة يجب منحه للدول الأخرى. كذلك أقرّت الاتفاقية العمل على خفض التعريفة الجمركية وكسر مسألة الأفضليات والسعي لوضع حد للحصص التجارية Quotas وحسم مسألة الدعم، وهي كلها مسائل تهدف إلى تسهيل حركة التجارة الدولية لإقرار السلام عبر التكامل بين الدول. كذلك فقد نشأ نظام لتسوية المنازعات التجارية بين الدول، وبالفعل نجحت الاتفاقية في خلق بيئة دولية إيجابية نسبيًا، خصوصًا بعد «جولة كيندي للمفاوضات» التي ساهمت بشكل كبير في خفض التعريفات الجمركية بنسب متفاوتة.
ورغم الصعوبات المرتبطة بمسائل التجارة الدولية فإن الآمال كانت منعقدة على هذه الاتفاقية لتحقيق مزيد من الأهداف لمواجهة المشكلات التجارية. وبالفعل نجحت «الغات» حتى منتصف ستينات القرن الماضي لأسباب مرتبطة بشكل مباشر بالظروف الاقتصادية الدولية في ذلك الحين، والتي بدأت تتغير تدريجيًا وأثرت على النظام التجاري الدولي تمامًا مثل النظام النقدي الدولي، إذ شهدت فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي تطورات كثيرة أدت إلى تزايد المشكلات المرتبطة بالتجارة ورفع مستوى الحمائية بين الدول، وهو ما يتناقض تمامًا مع مبادئ الاتفاقية.
فلقد بدأ العالم يدخل في أزمته النقدية مع فقدان الولايات المتحدة القيادة، إذ أصبحت تعاني من أزمات اقتصادية أدت إلى تعويم الدولار وكسر قاعدة الذهب في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، وهو ما كان له أثره المباشر على التجارة الدولية، حيث حقّق الميزان التجاري الأميركي لأول مرة عجزًا بحلول عام 1971، وبدأت الولايات المتحدة تسعى جاهدة لمعالجة الأمر بمزيد من الحمائية، خصوصًا أن الكونغرس بدأ يدخل نفسه في هذا الإطار بعدما كان الأمر متروكًا للسلطة التنفيذية بالأساس.
أما على المستوى الدولي، فأصبحت اليابان وأوروبا الغربية في حالة اقتصادية جيدة بعدما عبرت أزمات الحرب العالمية الثانية وحققت نسب نمو عالية وعادت مرة أخرى إلى الساحة الدولية بقوة، بل أصبحت هذه الدول منافسًا قويًا للولايات المتحدة، وباتت الأوضاع تنذر باندلاع حروب تجارية بين الدول الكبرى، خصوصًا بعدما بدأ النظام الدولي يدخل في مرحلة التضخم المصحوب بالكساد بفعل الأزمة المالية، إضافة إلى ارتفاع أسعار البترول بعد حرب 1973، وهذا ما أدى إلى تفشي ظاهرة البطالة في هذه الدول وتذبذب أسعار الصرف. وأدى من ثم إلى إعادة العالم مرة أخرى إلى سياسات «على حساب الجار» التي دفعت بالحمائية لأقصى آفاقها منذ الحرب العالمية الثانية.
ولعل بداية ظهور التكامل الأوروبي كانت سببًا مضافًا إلى هذه الأزمة التجارية الدولية، إذ سعت أوروبا منذ إعلان «السوق الأوروبية المشتركة» إلى العمل على التكامل التدريجي إلى أن أصبحت «الاتحاد الأوروبي». وهي خطوات كان من شأنها تقوية الترابط التجاري الداخلي على حساب علاقاتها بالعالم الخارجي، خصوصًا بعد «اتفاقية ماستريخت» التي فتحت المجال أمام الاتحاد الأوروبي. وهذا ما دفع العالم للتخوّف من أن تصبح هناك «أوروبا المحصّنة» ضد التجارة الدولية، خصوصًا بعد توحيد المعايير والتعريفات أمام التجارة الدولية. ولكن هذا التكتل لم يكن التهديد الوحيد للتجارة الدولية، إذ وقّعت الولايات المتحدة وكندا والمكسيك اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية «نافتا» NAFTA عام 1992، ثم تبعتها دول من أميركا اللاتينية التي أعلنت عن إقامة «سوق الميركوسور»، وأصبحت هناك تكتلات تجارية دولية باتت تنظر بخطورة بالغة على التجارة الدولية.
ونظرًا لأهمية التجارة الدولية على المستوى المحلي، أخذت الدول تسعى لنوعية جديدة من الحمائية بعيدًا عن التعريفات الجمركية التي حسمتها اتفاقية «الغات» ومعها مسألة الحصص. وبالتالي وجد العالم نفسه أمام ممارسات ليست بالضرورة جديدة، لكنها صارت متفشية، وعلى رأسها ما هو معروف باسم «الحواجز غير الجمركية» Non Tariff Barriers، على رأسها: المعوّقات الصحية والمواصفات والمقاييس ومسألة الدعم للصناعات المحلية والتمييز ضد الشركات الأجنبية في المناقصات الحكومية والمسائل المرتبطة بالملكية الفكرية والضمانات الحكومية، إضافة إلى مشكلة التجارة في الخدمات، التي صارت النسبة الكبرى من التجارة، خصوصا بالنسبة للدول المتقدمة علميًا. ولقد مثلت الصادرات الأميركية من الخدمات أكثر من نصف صادراتها في مطلع التسعينات، وهي الموجة الجديدة التي بدأت تعيق حركة التجارة الدولية التي استخدمتها الدول لوقف الواردات من الدول الأخرى. كذلك لجأت الدول إلى ما هو معروف باسم «اتفاقيات التقيد الطوعية» والتي أخذت الدول توقّعها في ما بينها لتفادي الحمائية الجديدة والدخول في حروب تجارية.
إزاء كل هذه التطوّرات صارت الدول الكبرى تدرك أهمية إطلاق جولات جديدة للمفاوضات المتعددة الأطراف لمواجهة هذه الموجات الجديدة من العوائق التجارية لإيجاد الحلول المناسبة لها. وبالفعل انطلقت «جولة طوكيو» للمفاوضات عام 1973 لمواجهات آثار التقلّبات النقدية على التجارة الدولية بمبادرة أميركية. وطالت هذه المفاوضات لسنوات عدة، غير أنها انتهت بنجاح جزئي، حيث أدخلت تسويات جزئية وعلى رأسها حق الأطراف المتأثرة من أضرار الدعم الحكومي للتفاوض لإيجاد تسوية تعويضية، إضافة إلى وضع مدونات سلوك لمواجهة المسائل الخاصة بمنع الإغراق بعدما وضعت تعريفات دقيقة لهذه العملية، كما وضعت شروطًا واضحة بالنسبة لقطاع المناقصات في بعض المجالات لضمان المعاملة المتساوية النسبية بين الشركات المحلية والأجنبية. كذلك سهّلت كثيرا من الإجراءات الخاصة بالحصول على التصاريح والرخص بالنسبة للشركات المختلفة العاملة في دول أخرى، التي كانت محل تأخير. لكن الملاحظ هنا أن الاتفاقيات لم تكن شاملة لكل الأعضاء المشاركين في «الغات»، وهو ما كسر المبدأ الأساسي الذي كان معمولا به في إطار الاتفاقية، وهو مبدأ الدولة الأولى بالرعاية. فلقد أصبحت بعض الاتفاقيات تضم بعض الدول دون غيرها، وفي كل الأحوال فإن الدول لم تستطع مواجهة مشكلة حرية التجارة في السلع الزراعية، خصوصا بعدما أدخل الاتحاد الأوروبي السياسة الزراعية المشتركة التي جعلت التجارة في هذا المجال خارج النطاق تمامًا رغم الضغوط الأميركية القوية في هذا المجال.
ونظرًا لأن «جولة طوكيو» لم تحسم كثيرا من الأمور، أطلقت جولة جديدة من المفاوضات عرفت بـ«جولة الأوروغواي»، وبدورها استمرت لسنوات وظلت تحت ضغط الانهيار في أي لحظة بسبب الاختلافات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وضغوط الدول النامية. ومن ثم خلصت الجولة إلى كثير من النتائج الهامة، ولكنها كعادة هذه الجولات لم تكن شاملة، إذ أسفرت عن خفض إضافي للتعريفات الجمركية، وتوصلت إلى خفض الدعم على المنتجات الزراعية وصل إلى قرابة 21 في المائة على ست سنوات، فضلاً عن إلغاء نظام الحصص في صادرات المنسوجات والاستعاضة عنه بتعريفات جمركية التي يمكن النظر في خفضها فيما بعد. أيضًا جرى إدخال الاستثمار والخدمات في نظام التجارة الدولية وتطبيق مبادئ المعاملة الوطنية على هذا القطاع. وتم الاتفاق على حماية الملكية الفكرية داخل المنظومة التجارية بناءً على ضغوط الدول الصناعية الكبرى لحماية حقوقها من القرصنة وبيع المنتجات المصنعة عبر القرصنة.
وتم بالفعل التوقيع على الاتفاق في مدينة مراكش المغربية عام 1994 على أن يدخل حيّز التنفيذ عام 1995، وتقرر أيضًا بإبدال منظومة «الغات» بمنظمة التجارة العالمية والتي كانت مقرّرة وفقًا لـ«ميثاق هافانا» الذي لم يرَ النور، ومع ذلك انطلقت «جولة الدوحة» التي لا تزال مستمرة إلى اليوم لمعالجة أوجه القصور التي لم تتناولها «جولة الأوروغواي».
وهكذا تطوّر النظام التجاري بخطى أبطأ من النظامين النقدي والمالي الدوليين، لكنه لا يزال محكومًا بمبادئ أساسية للتجارة. ولا تزال الدول تبتكر وسائل لأنواع جديدة من الحمائية، ولكن المفاوضات الدولية تقتفي أثر هذه المتغيرات وتلاحقها شأنها شأن ما يحدث في النظام النقدي والمالي الدولي.



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.