ماربروك منتصرًا للكتاب المهاجرين: المؤسسة الثقافية البريطانية ما تزال تعاني من رهاب الآخر

روائي وشاعر أميركي يتهمها بالتمييز بسبب كاتب عراقي

جلول ماربروك   -  غلاف الكتاب
جلول ماربروك - غلاف الكتاب
TT

ماربروك منتصرًا للكتاب المهاجرين: المؤسسة الثقافية البريطانية ما تزال تعاني من رهاب الآخر

جلول ماربروك   -  غلاف الكتاب
جلول ماربروك - غلاف الكتاب

ما زال إقصاء الآخر وانعزال النخبة الثقافية والأكاديمية البريطانية، يرخيان بظلالهما على منهجية التعامل مع المبدع القادم من بحور ليست إنجليزية الجينات الموروثة من زمن الإمبراطورية، التي تغيب عنها الشمس اليوم أكثر من أي وقت مضى لإصرارها على الانفصام بين مؤسسات بنيتها الفوقية وبين شارعها، وبين احتضانها للآخر بشرط غير معلن يتجلى في عدم رفع الإصبع على مناطق ومساحات محرمة.
استفزتني مقالةٌ كتبها جلول ماربروك (أو مبروك) - وهو رئيس تحرير مجلة «الأرابيسك ريفيو»، وشاعر وروائي وصحافي أميركي حاصل على جوائز كثيرة في الشعر. وقد ولد في الجزائر عام 1934 لأب جزائري بدوي وأم رسامة أميركية - بشأن البرود اللامعقول الذي تعاملت به المؤسسة الثقافية البريطانية تجاه دراسة نقدية غير تقليدية لتراث الشاعر البريطاني المعروف فيليب لاركن الحائز على جائزة الملكة للشعر، وربما واحد من أهم شعراء بريطانيا في القرن العشرين كتبها ناقد عراقي مهاجر إلى المملكة المتحدة، معتبرًا أن هذه المؤسسة ما زالت تعاني من رهاب الآخر وتمارس سلوكًا شبه عنصري يكاد ينتمي إلى عصور الاستعمار والإمبراطورية - استفزتني المقالة، إذ أحسست دومًا بأننا نحن البريطانيين - المنحدرين من أصول عربية من المهاجرين وفي عصر العولمة والقرية العالمية - ما زلنا نواجه ما يشبه جدارًا عازلاً زجاجيًا في محاولتنا الدائمة للاندماج داخل المشهد الثقافي البريطاني. كنت أعتبر أنني ربما أميل للمبالغة بعض الشيء وكثيرًا ما اتهمت نفسي بالحساسية المفرطة تجاه أي سلوك عنصري. إلا أن مقالة ماربروك - التي انتصرت للناقد العراقي/ الشاعر والأديب فاضل السلطاني - قد أعادت تذكيرنا جميعًا بالواقع المظلم لحقيقة الاندماج الثقافي في المجتمع البريطاني عمومًا، والأجواء الثقافية خصوصًا. بالطبع، فإن هذا الشعور بالانفصال كما العزلة عن أبراج الثقافة البريطانية ليس مقتصرًا بحال على ذوي الأصول العربية، بل ويشترك فيه معنا مثقفون بريطانيون من أصول أجنبية ومهاجرون من أفريقيا والهند والكاريبي وأميركا الجنوبية. هل تذكرون صدمة الروائية البريطانية (من أم بريطانية ووالد سيراليوني) أميناتا فورنا عندما ألقت محاضرة في معقل الثقافة البريطانية في جامعة أكسفورد وأرادت أن تبحث عن روايتها في المكتبة هناك فوجدت أنها مصنفة تحت الأدب الأفريقي في قسم الدراسات الأفريقية فكتبت تتساءل في الـ«غارديان»: «كيف لا توجد نسخ من كتبي في مكتبة الجامعة العامة وأنا ولدت أحمل الجنسية البريطانية ولغتي الأم هي الإنجليزية؟».
لا شك بأن المجتمع البريطاني تغيّر خلال العقود الأخيرة، إذ أصبح أكثر تسامحًا وتقبلاً للثقافات الأخرى كما للفئات المختلفة. ويعود ذلك لأسباب كثيرة أقلها غلبة الثقافة المعولمة بفضل تطورات تكنولوجيا الاتصال وسهولة الانتقال عبر القارات، الأمر الذي فرض على معظم الشعوب الغربية بأن تشرع أبواب قلاعها المشيدة للثقافة الأميركية الناعمة ومعها تلوينات الثقافات الأخرى بوصفها جزءًا من التنوع الفلكلوري الذي يناسب حالة ما بعد الحداثة وعدالة الإمبراطورية الصاعدة. لكن رغم هذه الخطوات الملحوظة، فإن المؤسسة الثقافية والأكاديمية - في مجملها - ما زالت تعيش أجواء متأخرة بما لا يقاس وكأننا نتعاطى في عالم الأدب مع المندوب السامي المعين لإدارة شركة الهند الشرقية بكل ما في ذلك من رمزية.
هكذا يتخلى قطاع عريض من المثقفين والأكاديميين البريطانيين عن أدوارهم المفترضة في قيادة وتشكيل وعي الأكثرية، إذ يحيون - بوعي أو بلا وعي - أسوأ ما في التراث البريطاني من تصورات وآراء عن العالم الخارجي وعن الآخرين القادمين من هنالك عبر البحار، وكأنهم - كما وصفهم غرامشي - حراس وجهة نظر الطبقة المهيمنة على العالم في مواجهة رواية الطبقات والمجموعات الأخرى.
الخاسر هنا في النهاية هو الأدب والتجربة الإنسانية العالمية ومستقبل ثقافة الشعب البريطاني ذاته قبل أن تكون خسارة للسلطاني أو فورنا أو غيرهما من الكتاب والأدباء والشعراء الذين اقتحموا شواطئ الجزيرة البريطانية يحملون فكرًا وأقلامًا وتجارب إنسانية مختلفة.
السلطاني - وفق ماربروك - قدم أطروحة أكاديمية رصينة عن الشاعر لاركن اعتبرها قراءة استثنائية تقارب أعمال الشاعر من منظور مبتكر يتسم بالحرفية ويختلف عن القوالب والقراءات التي درجت الكتلة الثقافية البريطانية على استخدامها لتعريف لاركن وهو ما أشعرها بالارتباك فواجهته بالإهمال والتجاهل: «فكيف يجرؤ مهاجر عراقي أن تسول له نفسه بالاعتقاد بأنه يمكن أن يفسر شاعرًا بريطانيًا للبريطانيين!، ليس ذلك فحسب بل إنه يجعل من لاركن لا منتميًا وخارجًا عن اللغة والثقافة المحليّة رغم أنه - أي لاركن - يصنف، وفق التصور التقليدي السائد في الأوساط الثقافية البريطانية، عنصريًا وانعزاليًا في نظرته إلى الآخر.
ماربروك في مقالته الجريئة - وهو ذاته ضحية التصورات المسبقة بسبب انتسابه لأب جزائري وأم أميركية - يطرق الجدار العازل غير المرئي للمؤسسة الثقافية البريطانية في محاولة لتسمية الأسماء بمسمياتها، لكن تلك تبدو وكأنها صرخة ذئب منفرد أكثر من كونها اتجاهًا عامًا لبناء مقاربة أخرى في التعاطي مع الأعمال الأدبية دون النظر في هوية كاتبها.
هذا ما يثير قلقي كمعنية بالشأن الثقافي في هذا المجتمع، لأن ذلك يعني أن روح المحافظة والرغبة في الانعزال من منطلق عقدة التفوق - التي إن كانت مبررة عندما كانت إنجلترا نواة الإمبراطورية، أصبحت الآن تفتقد لأبسط مبررات الوجود بعد أن عادت مجرد جزيرة صغيرة على طرف أوروبا - هذه الروح ستكرس مناخًا يحاصر الإبداع ويقتل الاختلاف في الوقت الذي يتحول فيه العالم من حولنا إلى مسرح واحد - تقريبًا - تعيش على خشبته الإنسانية تجربتها الأعلى تاريخيًا، والشواهد كثيرة من حياتنا اليومية في بريطانيا: تولي المحافظين السلطة بالأغلبية، البطالة في أوساط البريطانيين الملونين، الحوادث العنصرية في المؤسسة الأمنية، الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي، الخوف الهستيري من تدفق اللاجئين إلى أوروبا والسقوف اللا مرئية لتقدم الأقليات والنساء والانقسام الطبقي، لا بل وإمكانية تبعثر اتحاد المملكة المتحدة نفسه بسبب تصاعد النزعات الاستقلالية في اسكوتلندا وآيرلندا الشمالية. هذه ليست عوامل منعزلة كما يخشى كثير من المراقبين، بل هي حالة متكاملة ومناخات عامة من الانعزالية تستمر سلطات الثقافة والمثقفين في إعادة إنتاجها وتقديمها كأطباق باردة لجمهور يريد شيئًا جديدًا.



أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.