«داعش» يكرس سطوته الفكرية

سلبية سياسة واشنطن في الشرق الأوسط أفادت ماكينته الدعائية

«داعش» يكرس سطوته الفكرية
TT

«داعش» يكرس سطوته الفكرية

«داعش» يكرس سطوته الفكرية

على الرغم من التحديات الكثيرة والمتزايدة التي يواجهها تنظيم «داعش» الإرهابي المتطرف، فإن الخبراء يرون أن الوحشية التي يتصف بها، وترويجه «نظرية المؤامرة»، وتموضعه كمدافع شرس عن الإسلام، ما زال يسمح له بالحفاظ على هيبته وسلطته في المناطق التي يفرض سيطرته عليها. وللعلم، في سياق الخسائر التي مُني بها التنظيم، فإنه فقدَ على مدى الأشهر الـ15 الماضية ربع الأراضي التي كان يسيطر عليها، وفقًا لبيانات جديدة صدرت عن شركة الأبحاث الرائدة «آي إتش إس» IHS – مما يشير إلى أن التقدّم السريع للمتشدّدين تباطأ، بعدما كان التنظيم الإرهابي قد اجتاح مناطق شاسعة من العراق وسوريا في صيف عام 2014. وحول هذا الموضوع، صرَّح الكولونيل الأميركي ستيف وارن، المتحدث باسم التحالف الدولي، في يناير (كانون الثاني) الماضي، بأن «داعش» خسر نحو 40 في المائة من الأراضي التي كانت تحت سيطرته في العراق وحده.

أظهرت البيانات التي نشرتها شركة «آي إتش إس» IHS الأميركية المتخصّصة في الأبحاث، خلال الأسبوع الماضي، أنه منذ يناير عام 2015 خسر تنظيم «داعش» ما لا يقل عن 22 في المائة من الأراضي التي يسيطر عليها في سوريا، منها 8 في المائة خلال الأشهر الثلاثة الماضية فقط. وفضلاً عن ذلك، عانى التنظيم المتطرف من استهداف قياداته من قبل غارات التحالف الجوية.. ففي الآونة الأخيرة، وفقا لموقع الأخبار العراقي Iraqi news جرى استهداف رئيس عمليات «داعش» في كركوك بشمال العراق، واغتيل «قاضٍ» من صفوف التنظيم في بلدة هيت في محافظة الأنبار بغرب البلاد، فضلا عن الشخصية المهمة المعروفة باسم «عمر الشيشاني» الذي أعلن أخيرًا عن مقتله أيضًا في غارة جوية أميركية في شمال شرقي سوريا خلال شهر مارس (آذار) الحالي.
ومما يُذكر أنه خلال شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، استهدف «أبو صلاح» الذي كان يشغل منصب وزير المالية في التنظيم، وقيادي بارز آخر مسؤول عن تنسيق أنشطة الابتزاز فيه، فضلا عن أحد الضباط التنفيذيين.
وتعليقا على هذه التطورات، عدّ كولومب ستراك، كبير المحللين والمسؤول عن مراقبة الصراعات في «آي إتش إس»، في بيان له أن «موجة الحرب تنقلب ضد (داعش)»، وأن المجموعة المتطرفة باتت «معزولة على نحو متزايد، وهي تشهد اليوم تراجعًا ملحوظًا».
وفي سياق متصل، قال الأميرال جون كيربي، المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، إنه في الأسابيع الأخيرة «ازدادت الانشقاقات» في صفوف «داعش»، موضحا أن «المقاتلين يعيشون حالة من الحرمان.. وأن المزيد منهم يختار مغادرة المجموعة». وأشار في مقابلة صحافية إلى أن المقاتلين المتطرفين كانوا يعتمدون بشكل كبير على مشاركة الأطفال في القتال إلى جانب المسلحين البالغين.. «وهنا، نشير إلى أن مقاتلين من (داعش) كانوا قد جهّزوا 25 طفلاً تركمانيًا خطفوهم من ميتم في مدينة الموصل هذا الأسبوع لتفجيرهم»، حسب مقال نشر على موقع الأخبار العراقي Iraqi news. كذلك، وفق التقارير التي يعتد بها، نفَّذ التنظيم الإرهابي المتطرف هذا الشهر 35 عملية إعدام بحق مقاتلين بعدما رفضوا إعادة توزيعهم على خطوط القتال الأمامية في منطقة الموصل، بينما قتل 21 آخرون حاولوا الفرار من المعارك الحالية في مناطق مثل مخمور وسقي الموصل ونوران وبعشيقة، وفقًا لموقع الأخبار العراقي. وبالتالي، أثرت هذه الخسائر على معنويات المقاتلين التي تدهورت بشكل كبير.
وحقًا، يوافق عدد من الخبراء والصحافيين على أن الأحداث الأخيرة هذه كان لها وقع سلبي على مقاتلي «داعش»، ففي مؤتمر نظمه أخيرًا «المجلس الأطلسي» في العاصمة الأميركية واشنطن، سلّط الصحافي المخضرم مارتن شولوف، من صحيفة «الغارديان» البريطانية، الضوء على ما وصفه بـ«الشرخ الحاصل في المناصب العليا داخل التنظيم الإرهابي المتطرف نتيجة ابتعاده عن أهدافه الأساسية القائمة على تأسيس الخلافة، والتركيز بدلا من ذلك على مهاجمة أوروبا والولايات المتحدة».
وروى شولوف كيف أن مسؤولا كبيرًا في «داعش» عبَّر له عن اعتقاده بأن التحوّل الذي حصل في استراتيجية التنظيم الإرهابي لم يكن لصالحه على الإطلاق، وأن كثيرًا من العناصر داخل «مجلس جدول الأعمال» الذي يعتمده التنظيم حاليًا، أي بذل كل ما في وسعه لتصدير الفوضى إلى الولايات المتحدة وأوروبا، وأضاف المسؤول أنه سبق له أن أحاط القيادات العليا داخل «داعش» علمًا بآرائه هذه، على حد قول شولوف. وحسب الخبير شولوف، فإن هذا المسؤول، مثله مثل عشرات العناصر داخل التنظيم، بدأ يتململ من تصرفات المجموعة ويرغب بالمغادرة، غير أنه عاجز عن ذلك.
من جهة ثانية، يقول مايكل وايس، كبير محرري «ديلي بيست» ومؤلف كتاب «داعش: داخل جيش الرعب» Daesh: Inside the army of terror إنه على الرغم من الخسائر والإحباط في صفوف التنظيم، فإن كثيرين من أعضائه لا يستطيعون مغادرته لأسباب كثيرة ومتنوعة. وكان «داعش» قد عرض كثيرًا من الفيديوهات التي تظهر ما سيكون مصير أي معارض وكيف سيجري قطع رأس كل من يفكر بـ«خيانة» التنظيم.
وفي مقابل ذلك، يفسِّر وايس أن «الأحداث الجيوسياسية في المنطقة خلال العقد الماضي ساهمت في تعزيز قوة (داعش)». وجاء الاتفاق النووي مع إيران، على وجه الخصوص، ليعزِّز «نظرية المؤامرة» التي يروّج لها «داعش»، والتي ما زال يؤمن بها عدد كبير من الأشخاص في بلدان الشرق الأوسط، لا سيما، سوريا والعراق. ويضيف وايس شارحًا أن «الأشخاص الذين يعتنقون هذا الفكر ليسوا بالضرورة من المتطرفين دينيًا، أو أولئك الذي غُسلت أدمغتهم بعدما تشرّبوا الأفكار (الداعشية) والذين يؤمنون بأن الولايات المتحدة تعمل على تهميش الغالبية السنّية في الشرق الأوسط»، ويعد وايس أن هذا «النداء الاجتماعي أو الأنثروبولوجي هو السلاح الأخطر الذي يعتمده (داعش)». ويستطرد الكاتب عادّا أن «الغرب ساهم بطريقة أو بأخرى في تعزيز صدقية دعاية التنظيم الإرهابي». عودة إلى شولوف، فإنه يرى أن سياسة النأي بالنفس حيال الشرق الأوسط التي اعتمدها الرئيس الأميركي باراك أوباما وتشجيعه التعدّدية لم ينجحا، ثم يضيف موضحًا: «هذه السياسة أوحت لـ(داعش) ولقادته بأن الولايات المتحدة لا تريد أن تتدخل في اللعبة بعد الآن.. كما أوحت لحلفاء الولايات المتحدة القدامى، مثل المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربية، أن المحور الإيراني هو محور استراتيجي تدعمه إدارة الولايات المتحدة».
وأخيرًا، أضاف شولوف أن «داعش» استغل فشل «الجسم السياسي» في دول مثل العراق وسوريا ولبنان ليروِّج الانطباع بأن أهل السنّة باتوا ضحايا وأنه هو الوحيد القادر على حمايتهم وعلى تقديم شبكة دعم لا توفرها الطبقة السياسية الحاكمة في تلك البلدان.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.