منزلة الموسيقى العربية في فلسفة الفارابي

ساهمت في تطوير الموسيقى الغربية بالقطع مع الغناء الكنسي والشعر الغنائي المأساوي والتراجيدي

منزلة الموسيقى العربية في فلسفة الفارابي
TT

منزلة الموسيقى العربية في فلسفة الفارابي

منزلة الموسيقى العربية في فلسفة الفارابي

يمثل التراث الفنِّي أحد مكونات الحضارة الإنسانيّة. فالشّعب الذي لا يملِك تراثًا فنيًّا لا يملك ذاكرة ولا تاريخًا. لأن الفنّ عمومًا، والموسيقى على وجه الخصوص، يسهِمان في بناء وتنميّة وتغذيّة الذّاكِرة الجَمعيّة، فالأناشِيد والمواويل والأغاني تحفظُ تاريخًا بأكمله.
مع توسُّع الخِلافة الإسلاميّة في العصر الأموي، انفتح العرب على ألوان متنوّعة من الموسيقى: الهنديّة والفارسيّة والآشوريّة، ما ساهم في انتشار ألوان مختلفة من الموسيقى داخل قصور الخِلافة (بلاط الخليفة تحديدًا). ومع العصر العبّاسي، تطورت الموسيقى بشكل كبير لتنتقل ممارستها من العبِيد في قصور بني أميّة، إلى أشخاص لهم مكانة مرموقة داخل البلاط وخارجه. فموسيقى العود في بدايات الحكم الأموي، حظيت بعناية أبرز المغنِّين العرب، من قبيل سائب خاثر، الذي تجاوز الغناء الفارسي، واستخدم العود في الغناء. أما الزنام أو الزلام، فرسم آلة نفخٍ هوائيّة تسمى ناي زنامي أو زلامي. وأضاف زرياب إلى أوتار العود الأربعة وترًا خامسًا، ورتّب هذه الأوتار بحيث يعادل كل وترٍ ثلاثة أرباع ما فوقه، واخترع مضراب العود من قوادِم النّسر، بعد أن كان من مرهن الخشب.
وفي أواخر القرن التاسع الميلادي، وضع أبناء موسى بن شاكر، أسس وقواعد الموسيقى الميكانيكيّة، واستعملوا البريخ الموسيقي لتوزيع الألحان. وفي القرن العاشر الميلادي، ابتكر الفارابي الربابة والقانون. واشتهر العباس وأبو المجد بصناعة الأرغن. وأما صفي الدين عبد المؤمن الأرموي، فقد اخترع القانون المربع، المسمى نزهة، وآلة أخرى تسمى المغنى. وعن أصالة الموسيقى العربية، نجد المستشرق البريطاني هنري جورج فارمر، يستهل كتابه «تاريخ الموسيقى العربية حتَّى القرن الثالث الميلادي» بالقول: «علينا ألا ننظر بعد الآن إلى جزيرة العرب نظرتنا إلى الفلوات، فهي على الضد من هذا - مركزٌ تجاري للعالم القديم. والمسلمون الذين خرجوا منها ليستظهروا على المسيحيّة وليشيّدوا إمبراطوريّة، ما كانوا إلا خلفاء لأولئك الذين تركوا تأثيرًا عميقًا في مصائر الشّرق ومستقبله في عصور التاريخ الأولى».
تدلُ مدوّنات الآلات الموسيقيّة المتبقيّة في التراث الموسيقي القديم والحديث، على العناية القُصوى لعرب ما قبل الإسلام وما عده، بالسّماع والغناء الصّوتي على العزف الآلي، ليتسنى لهم بذلك تذوّق معانِي الشّعر.. حيث تصاحِب الآلة الموسيقيّة الغناء الصوتي والتمهيد. ومن الجدير بالذكر، أن الآلات التي استعملَت في العالم العربي والإسلامي كانت ثلاثة أنواع: الآلات الوتريّة (منها: العود، الماندورة Mandore، سميت، فيما بعد، بالغيتار الموريسكي Pandore، التي تطورت إلى الماندولين في الغرب، أو الرباب ذات القوس، عرف في الغرب الأوروبي بـrebeck، وتطورت إلى الكمان، الساز Saz، الشاهروز، القانون، السنطور، ومن المحتمل أنه يعود إلى الأسور asor الآشوري، القيثارة...) آلات النفخ (الأورغن، الناي، مزمار القربة Bagpepe.). آلات القرع (الأجراس، الطبول ومنها الفقارية Kettledrum، الطبلة المطوقة، والطبول المربعة).
وظهر أول تدوين موسيقي عربي مع أبو إسحاق الكندي، في رسالته: «رسالة في خبر تأليف الألحان»، حيث استعمل، لأول مرة، الحروف الأبجديّة والرموز. غير أن محمد أبي نصر الفارابي (260 - 339 هجرية)، ترك الكثير من المؤلفات في الموسيقى منها: كتاب الموسيقى الكبير، كتاب في إحصاء الإيقاع، رسالة في قوانين صناعة الشعراء، كلام في النقلة، مضافًا إلى الإيقاع، وكلام في الموسيقى، وكتاب إحصاء العلوم الذي يتضمن جزءًا خاصًا بعلم الموسيقى. والواضح أن كتابه «الموسيقي الكبير»، هو المتبقي حاليًا في التراث الموسيقي العربي - والذي ترجم إلى لغات أجنبيّة عدة - كمؤلَفٍ يعطينا صورة متكاملة عن البُعد الفكري العميق لفلسفته في الموسيقى.
يشير الفارابي إلى أن كلمة موسيقى في استعمالات اللّغة العاديّة تدلُ على الألحان. واللّحن هو «كل مجموعة من النغم رُتِّبت ترتيبًا محددًا منفرِدة أو مقترِنة بالكلام». ولكن الموسيقى من حيث هي صناعة أو فن شامل، تتضمن الألحان والمبادئ التي بها تلتئِم وبها تصِيرُ أكمَل وأجوَد. وليست صناعة الموسيقى إذن صناعة ألحانٍ فحسب، بحيث تشمَل الأسُس النّظريّة التي تبنى عليها جودة الألحان وكمالها. ويلجأ الفارابي في التفريع الذي يغلب على إحصاء العلوم، إلى التمييز بين قسمين في صناعة الموسيقى: الموسيقى النظريّة كـ«هيئة تنطق عالمها بالألحان ولواحقها عن تصورات صادقة سابقة خاصة في النّفس»، والموسيقى العمليّة التي يريد بها، كما توحي التسميّة بذلك، «إحداث الألحان بأدائها أو صياغتها. والصناعة التي يقال إنها تشتمل على الألحان، منها أن توجد الألحان التي تمت صياغتها محسوسة للسَامعين، ومنها ما اشتمل عليها أن تصوغها وتركبها، وإن لم تقدر على أن توجدها محسوسة، وهذان معا، يسميان صناعة الموسيقى العمليّة».
لا يرى المعلم الثاني أي انفصال بين هاتين الصناعتين، لأن العلاقة بينهما «وثيقة ومزدوجة قوامها التحليل والتركيب، وهي تماثل الصلة التي تربط بين العلم الطبيعي وعلم النجوم، فصاحب العلم النظري، يتبين ما هو طبيعي لسمع الإنسان من خلال الألحان التي يسمعها، فإذا طولب ببرهنة قضاياها أحال على المشتغلين بالموسيقى صياغة وأداء.. ولا ينقص ذلك من عمله». وقارن بين موسيقى الإنسان وموسيقى الطبيعة قائلا: «استحدث الإنسان الموسيقى تحقيقًا وإيفاءً لفطرته. إنها الفطرة المركزّة في جبلّة الإنسان، والتي تنتظم، فيما تنتظم، الفطرة الحيوانيّة التي من خصائصها التصويت تعبيرًا عن أحوالها اللّذيذة والمؤلِمة. وتنتظم هذه الفطرة أيضا في نزوع الإنسان إلى الراحة إذا تعب. ومن شأن الموسيقى أن تنسي الإنسان تعبه لأنها تلغي إحساسه بالزمان، ذلك الزمان الذي ترتبط به الحركة والتعب يأتي منها. ولأن فطرة الإنسان تدعوه للتعبير عن أحواله وأن ينشد راحته. وكانت هذه الترانيم والألحان والنغمات، تنشأ قليلا وفي زمان بعد زمان، وفي قوم بعد قوم، حتى تزايدت. فنشوء الموسيقى من نداء الفطرة. لكن الإنسان أخذ، بعد ذلك، يتحرى ما يماثل ترنماته في أجسام أخرى طبيعيّة وصناعيّة، وما من شأنه أن يجعلها أكثر بهاء وفخامة. فاهتدى إلى الآلات الموسيقيّة، كالعود وغيره، وأخذ الناس في تطوير هذه الآلات حتى تكون أكثر طواعيّة في إنجاز الغاية منها».
يميز الفارابي في تأثير الموسيقى بالنفس بين ثلاثة أنواع: الألحان المُلِذة التي تكسب «النفس لذة وراحة فحسب»، والألحان المخيلة التي تحدث في «نفس الإنسان تخيلات وتصورات، مثل ما تفعل التماثيل المحسوسة بالبصر». أما الألحان الانفعاليّة (النوع الثالث من الموسيقى)، فتزيل «الانفعال أو تنقصه، لأن الانفعال من شأنه أن يزول إذا بلغ أقصى غاياته»، لجهة أن ثمة ارتباط بين الانفعال والنّغم، فلكلّ انفعالٍ (حزن، رحمة، قساوة، خوف، طرب، غضب، لذة وأذى...) نغمٌ يخصُه ويدلُ عليه «فصول النغم التي بها تكسب انفعالات النفس.. تشتق أصنافها من أسماء أصناف الانفعالات، فلذلك يجب أن نعدد الانفعالات ثم نجعل أسماء هذه الفصول من فصول النَّغم مأخوذة من أسماء تلك، فيسمى ما يكسب الحزن إما المحزِّن، وإما الحزني، وإمّا التحزين... وما يكسب الأسف يُسمى أسفيًا، وما يكسب الجزع جزعيًا، وما يكسب العزاء والسلوى مُعزَّيًا أو مسلي، وما يكسب المحبة أو البغضة محبيًا أو غضبيًا» (كتاب «الموسيقى الكبير»، 1179).
يجمل الفارابي هذه الأنغام الانفعاليّة في ثلاثة أصنافٍ: «منها ما يُكسب الانفعالات التي تنسب إلى قوة النفس، مثل العداوة والقساوة والغضب والتهور، وما جانس ذلك، ومنها التي تكسب الانفعالات التي تُنسَب إلى ضعف النفس، وذلك مثل الخوف والرحمة والجبن.. ومنها التي تكسب المخلوط من كل واحدٍ من هذين الصّنفين وهو التوسُّط» (نفسه، 1180، 1181). ويمجد الألحان الكاملة التي لا تتبع انفعالات النفس لأنها تحقق غايات أخلاقيّة لِما فيه خير للنّفس البشريّة. وهي في هذا تتساوى وغايات الحكمة والعلوم حيث يقول: «ولما كان كثيرٌ من الهيئات والأخلاق والأفعال تابعة لانفعالات النفس وللخيالات الواقعة فيها، على ما تبيّن في الصّناعة المدنيّة، صارت الألحان الكاملة نافعة في إفادة الهيئات والأخلاق، ونافعة في أن تبعث السّامعين على الأفعال المطلوبة منهم، وليس إنما هي نافعة في هذه وحدها، لكن وفي البعثة على اقتناء سائر الخيرات النفسانيّة مثل الحكمة والعلوم» (نفسه، ص 1181).
يضع الفارابي معايير للجمال المُوسيقي من جهة أن الذّوق الفنّي يتغير مع تعاقب الأجيال، ومن ثم فهو لا يتمتع بخاصيّة الثبات التي تجعله يخضع للبحث العقلي: «فليس سبيل الطبيعة من الألحان سبيل الشرائِع والسُّنن التي ربما حمل الناس عليها، أو أكثرهم في بعض الأزمان، فيتبع بعضهم فيها بعضًا، فيستحسن على سبيل ما تستحسن المألوف من الأمور. غير أن ما هذه سبيله من مستحسن أو مستقبح لا يراعي كيفما اتفقت».
ساهمت الموسيقى العربية بتاريخها، في فسح المجال لتطور الموسيقى الغربيّة، وللقطع مع الغناء الكنسي، ومع الشعر الغنائي المأساوي والتراجيدي الذي ورثوه عن التقليد اليوناني والروماني القديم، باعتبارها جسرًا بين الثقافات الشرقيّة والثقافة الغربيّة الحديثة. غير أن واقع الموسيقى العربية اليوم، يفرض علينا الوقوف على التردِّي الذي تخبط فيه أهل الفن. فواقعنا يستدعي إعادة النظر في الأسس التي قامت عليها التنشئة في هذه المجتمعات، والدعوة إلى تربيّة موسيقيّة عالمة. فرغم وجود مؤتمر الموسيقى العربيّة منذ الثلاثينات من هذا القرن الماضي، واتساع دائرة المؤسسات الإبداعيّة والموسيقيّة، فإن موجة العولمة والتسليع دمّرت رُقي وروح الموسيقى لصالح الرداءة والتردي، تزامنا مع توالي النّزعات المعاديّة للاشتغال بالموسيقى بدعوى التحريم، نتيجة الفتاوى التي تروجها جماعات دعويّة متطرفة، وهو ما يتنافى والتراث العربي كما سردنا أعلاه، فلماذا لم تتعرض أعمال الفارابي وغيره (إخوان الصفا، ابن سينا، الكندي) للنقد من طرف الفقهاء في ذلك العصر؟ أليست الدعوة إلى تحريم الموسيقى جديدة لا تستند لأي حجة تاريخيّة ومنطقيّة؟



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.