{شفرة} مراسلات بن لادن السرّية

من زعيم «القاعدة» إلى رجاله: ابتعدوا عن إيران.. لنا معها مصالح

صورة نادرة لابن لادن مع أبو مصعب السوري في تورا بورا  («الشرق الأوسط»)
صورة نادرة لابن لادن مع أبو مصعب السوري في تورا بورا («الشرق الأوسط»)
TT

{شفرة} مراسلات بن لادن السرّية

صورة نادرة لابن لادن مع أبو مصعب السوري في تورا بورا  («الشرق الأوسط»)
صورة نادرة لابن لادن مع أبو مصعب السوري في تورا بورا («الشرق الأوسط»)

أثارت الوثائق التي كشفت عنها وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) الأميركية وقالت: إنها حصلت عليها من منزل زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن، عقب مقتله في مدينة آبوت آباد بباكستان 2011. والتي نشر التنظيم نسختها الأصلية باللغة العربية بينما ترجمت «سي آي إيه» الوثائق الـ133 التي كشفت عنها إلى اللغة الإنجليزية، المزيد من اللغط حول العلاقة بين «القاعدة» وإيران. وكان من أبرز المراسلات تلك التي بعث بها بن لادن إلى «الأخ توفيق»، الذي يُعتقد أنه قيادي من جماعة «الجهاد» المصرية، بحسب أصوليين في لندن، حيث كان من اللافت تركيز عدد كبير منها مما تضمنته الوثائق - التي كتبها بن لادن أو قيادات بالتنظيم - عن إيران وطرق التعامل معها، باعتبارها ممرًا «آمنًا للرسائل والأموال والأسرى».
أثبتت وثائق «سي آي إيه»، المشار إليها أعلاه، ومنها الوثيقة التي كتبها أسامة بن لادن، إلى «الأخ توفيق» بين الجانبين، أي إيران و«القاعدة»، التعاون المشترك بينهما الذي طال لسنوات عدة، وحث فيها بن لادن على عدم فتح جبهة ضد الدولة الشيعية، حيث طالبت إيران من القاعدة حماية المراقد الشيعية في العراق، وأنها ليست ضمن الأهداف المراد ضربها، وأن ما يحدث هو نتيجة التخبط الحاصل هناك، وأن «العمدة» - يقصد به ابن لادن وأصحابه - غير راضين عن استهداف تلك المراقد، وأن الإيرانيين أصبحوا غير راضين عن أي شيء في العراق، عن طريق الموالين لهم أو بطريق مباشر، ويريدون التعاون ولكن بعد الحصول على تطمينات». وتقول رسالة بن لادن المكتوبة بخط يده، أيضا بأنهم يريدون مناقشة الكثير من الأمور «ولكن بعد لقاء مندوب من طرفكم».
والملاحظ أنه تظهر في الوثائق كُنى وألقاب لعشرات من القياديين، تكررت في مراسلات بن لادن مثل «أبو خالد» و«أبو نواف» (شقيق ابن لادن)، و«أبو محمد» (الظواهري) و«العمدة» (بن لادن نفسه) و«أزرق» (أبو مصعب الزرقاوي) و«أبو الوليد المصري» (مصطفى حامد «منظّر القاعدة») و«أبو صلاح» و«مولوي عبد العزيز» و«كارم» و«أبو عبد الله الشافعي». وهناك رسالة إلى «أزمراي» (بن لادن) من أحد مساعديه، وكذلك رسالة مهمة إلى «الشيخ محمود» وهو «عطية الله الليبي» أي جمال إبراهيم زوبي (أحد قادة التنظيم وهو من مدينة مصراتة الليبية).
وفي رسالة إلى «الشيخ سعيد» (مصطفى أبو اليزيد قائد «القاعدة» في أفغانستان) بخصوص إيران طالب فيها بن لادن بـ«إعداد بحث شرعي عن الشيعة يتضمن مناقشة أسس القضايا بأسلوب يسهل فهمه دون الدخول في الفروع لتسهيل الأمر على العوام». وقال بن لادن في رسالته إلى «الشيخ سعيد» ما يلي «المصلحة في هذه المرحلة، تقتضي أن لا ندخل في حرب عسكرية مع إيران لما في ذلك من تشتيت للجهد الوحيد الموجه إلى رأس الكفر أميركا». وقد عنون عباراته بخط الفولماستر الأحمر. وأردف بن لادن «أحسب أننا في فترة الإجهاز على أميركا، إلا أنه كما لا يخفى عليكم، أن الدول الكبرى لا تنهار بين عشية وضحاها وأن الانشغال عن عدو منهك وإعطاءه الفرصة لالتقاط أنفاسه والدخول في حرب طويلة المدى مع عدو آخر أمر مناف للحكمة ما دام هناك خيار للتأجيل».
والملاحظ هنا تغيرت الكنى والألقاب من حين لآخر بحسب الظرف والمكان، وبعض هذه الكنى كشف عنه متخصصون في شؤون الحركات المتطرفة، والبعض الآخر ما زال مجهولا، بفعل أن بعض هؤلاء ما زال ملاحقا من قبل القوات الأميركية، وفي قائمة أخطر المطلوبين ضمن الحرب على الإرهاب.
ورأى بن لادن في إحدى الوثائق المسرّبة أنه «إذا كانت لدى (القاعدة في بلاد الرافدين) القدرة على فتح جبهة ضد إيران وإلحاق الأذى بها، فالأفضل ألا تعلنوا ذلك، ولا تهددوا به، بل نفذوا ضرباتكم في صمت، وتفهموها أو تتركوها تفهم أنكم الضاربون، لأن هذا أحفظ لسمعتكم إذا لم تؤت الخطة ثمرتها، وأدعى لسهولة التفاوض مع إيران، إذا نالها الأذى الشديد». وحسب المتخصصين استخدم بن لادن في رسائله ألقابا مغايرة لأسماء قادة التنظيم تجنبًا لتوريطهم حال وقوع الرسالة في يد الأمن. وجاء في الرسالة المكتوبة بخط يد لـ«توفيق» الكلام عن ترتيب لقاء بأحد الأشخاص من طهران، كما يلي «الإيرانيون مهتمون بعمل ارتباط مع أحد من طرف (العمدة)، وذلك ليس فقط لوضع المرضى وإنما يهمهم بالدرجة الأولى الوضع في العراق، حيث إنهم يعتقدون أن الإخوة هناك وبالذات (الأزرق) ومجموعته لهم دخل في الاعتداءات على الأماكن والعتبات المقدسة لدى الشيعة». كذلك تحدث عن وجود صعوبة في إرسال مندوب من طرفه (أي بن لادن) إلى إيران للتباحث حول اتهام إيران لـ«القاعدة» بالمسؤولية عن استهداف الأماكن والعتبات المقدسة لدى الشيعة. وذكرت الرسالة، نقلاً عن الوسيط بين الطرفين، أن إيران ترغب في مقابلة مندوب عن بن لادن، ومستعدة لتقديم الدعم وترغب في بحث إمكانية التعاون إذا تمت تسوية بعض النقاط، لا سيما مع عجزها على حماية المقدسات الشيعية في العراق، وأنها راغبة على الأقل في الحصول على خطاب بتوقيع بن لادن، الذي رمز له في الخطاب باسم «العمدة»، يؤكد فيها أن الأماكن المقدسة لدى الشيعة ليست هدفًا للتنظيم واستهدافها مرفوض من قبله. وتعد هذه الوثيقة واحدة من وثائق الدفعة الثانية لزعيم «القاعدة» السابق الراحل التي أفرجت عنها واشنطن، مما صادرته القوات الأميركية بعد مقتله عام 2011 بمخبئه في مدينة آبوت أباد.
لقد طالب بن لادن من الجانب الإيراني بـ«إطلاق سراح جميع أسرى التنظيم فورًا، وبإعطائهم الفرصة لكي يرجعوا من حيث أتوا، وعدم الإساءة إلى المهاجرين وأطفالهم من أهل السنة». كما تحدث في رسالة أخرى موجهة إلى «أبو نواف» - الذي يعتقد أنه أحد أشقائه - عن الإقامة الجبرية في إيران لزوجته خيرية صابر «أم حمزة» وأولاده حمزة وفاطمة وأسماء وسعد وعثمان ومحمد وحامد، وأكد أن أخبارهم تصله وأنهم جميعًا بخير. وذكر أنهم ذهبوا إلى طهران هربًا من الاحتلال الأميركي في أفغانستان من دون تنسيق مع الحكومة الإيرانية، وأن الحكومة لم تستجب لمطالباته بإخراجهم إلى باكستان. وناشد بن لادن «أبو نواف» أن يخرجهم إلى منطقة وزيرستان بباكستان، وسمح له بالاستعانة بأخواله في تلك العملية، ووضع خطة في رسالة لزوجته لخروج حمزة على وجه الخصوص من إيران. وأشار إلى أهمية دعم معتنقي المذهب السني في إيران والدول المجاورة لها ولكن من دون أن يحدد شكلاً لهذا الدعم. وأشاد في كلمة وجهها لـ«الأمة الإسلامية» بـ«التخطيط الجيد الذي أدى لنجاح الثورة الإسلامية الإيرانية، من حيث إدارة الثورة عبر قائد موجود في مكان بعيد حصين لا يختلط بالجماهير حفاظًا عليه، ليتمكن من الاستمرار في الإدارة والتحكم في قيادة الثورة».
غير أن التناقض ازداد في رسالة ثالثة إلى «كارم» تحفظ بن لادن فيها عن تهديد «القاعدة» لإيران من دون الرجوع إليه، وأكد أنه «لا داعي لفتح جبهة جديدة مع إيران... لأن لنا معها مصالح»، وقال: إن التنظيم كان قادرًا بالفعل على تنفيذ تهديداته لها، وكان رأيه الشخصي هو الانصراف تمامًا عن توجيه ضربات لها في الوقت الحالي. ولم يفضل فكرة أسر إيرانيين للتفاوض عليهم، ورأى تقديم التفاوض على أسرى «القاعدة».
وفي رسالة إلكترونية بدا أنها كُتبت على عجل إلى «الشيخ أبو عبد الرحمن»، تحدث قيادي بالتنظيم لم يذكر اسمه، عن اختلاف داخل «القاعدة» حول ضرب إيران، ورغبة «أبو سالم» (أحد القيادات) في التعجيل بذلك الضرب واعتباره أنه لا محالة من تنفيذه، ولكن بن لادن ارتأى أن ضرب إيران سيغير المعادلة في المنطقة تمامًا، وأن على التنظيم عزل سوريا أولاً ثم تحييد «حزب الله» في لبنان ليتمكن من ضرب إيران، معتبرًا أن هذا الاتجاه «لا محيد عنه سياسة وواقعًا».
وتناولت الرسالة أيضًا تخوفات داخل التنظيم من وقوع الحرب بين إيران والولايات المتحدة، واعتبر بن لادن أن التيار «المتشدد» سيكون أكبر المستفيدين من حرب مماثلة تفتح له الطريق إلى الشام، ولكنها ستعود عليه بخسائر أكبر سواءً فازت إيران فعظمت قوتها، أو فازت الولايات المتحدة فتمكنت من فرض السيطرة الكاملة على المنطقة.
وفي ملخص للنقاط المطروحة في أحد اجتماعات قيادة «القاعدة»، استقر الرأي على تأجيل التصعيد ضد إيران نظرًا لأن التنظيم غير قادر في ذلك الوقت على استعدائها، وحرصًا على الفرصة المتاحة لإطلاق سراح معتقلي التنظيم لديها، ولإظهار التعاطف مع من يضرب إسرائيل.
وهنا يقول أحد الخبراء في الشأن الإيراني «كانت هناك علاقة مهادنة بين التنظيم وإيران، وهو ما يؤكده عدم استهدافها بالعمليات الإرهابية رغم القرب الجغرافي مع معقل التنظيم في أفغانستان، لعدة أسباب منها أن إيران كانت تصلح ممرًا لعناصر التنظيم إبان الاحتلال الأميركي لأفغانستان، وكانت إيران تضغط على التنظيم في المقابل من خلال معتقليه لديها».
لم تكن سيطرة الإيرانيين على بن لادن عبر احتجاز عائلته واضحة المعالم، فالبعض يعتبر أن الأمر أكثر من ورقة ضغط وأن بن لادن أرسل أولاده عبر علاقاته مع الإيرانيين ليكونوا في مأمن، وإلا لماذا لم يسمح لهم بالعبور إلى المملكة العربية السعودية أو سوريا حيث تقيم أم بعضهم وهي نجوى الغانم.
ومن الأسماء التي برزت من قادة «القاعدة» وعوائلهم ويقيمون في إيران: القيادي سيف العدل وزوجته المصرية ابنة مصطفى حامد والأبناء وزوجته الباكستانية وأطفالها. ولقد خص بن لادن مصطفى حامد «أبو الوليد» وزوجته وفاء علي الشامي، التي هربت من الإقامة الجبرية ولجأت إلى السفارة المصرية في طهران بصحبة حفيدها، برسالة مطولة ضمن الوثائق يعلق فيها على كتابه «صليب في سماء قندهار» وآخر هو «حرب المطاريد».
كذلك ضمن الذين كانوا في إيران واعتقلوا لاحقًا سليمان جاسم بوغيث الكويتي زوج ابنة بن لادن، وأحمد حسن أبو الخير وأسرته، و«أبو حفص الموريتاني»، و«أبو سعيد المصري» وعائلته، وعثمان بن لادن الذي كان يعول زوجتين وولدين وبنتًا (يقال: إنه الآن في قطر)، وهناك من أبناء بن لادن محمد بن لادن الذي يعول بنتين وصبيًا وحمزة بن لادن (يبلغ من العمر 19 سنة وهو متزوج ويعول طفلين تعيش معه أيضًا والدته السيدة خيرية صابر وهي سعودية. وفي المجمع السكني أيضًا فاطمة (البالغة من العمر 24 سنة) مع زوجها وابنتها نجوى. وكذلك إيمان التي هربت إلى السفارة السعودية في طهران وكشفت «الشرق الأوسط» في حينه قصة لجوئها إلى السفارة قبل خروجها آمنة إلى حيث تعيش والدتها في سوريا.
إضافة إلى هؤلاء تشير التقارير أن أكثر من 100 من قيادات الأفغان العرب عاشوا في طهران مع عوائلهم، ومنهم من غادر إلى بلدانهم الأصلية بينما اختار آخرون العودة إلى وزيرستان (عرب باكستان) حسب تقارير لمنظمات متعاطفة مع «القاعدة».
من ناحية أخرى، عرف عن الإيرانيين عشقهم حيازة أوراق ضغط كثيرة ضد أعدائهم وحتى أصدقائهم. ولعل احتجاز عائلة بن لادن المكونة من 24 امرأة وولدًا وبنتًا لا علاقة لهم بما فعله والدهم ويفعله وقت الاحتجاز، يدل على أن إيران لا تتورع عن استخدام هؤلاء كورقة ضغط على بن لادن و«القاعدة». وهنا يقول ستيف كول، مؤلف كتاب «عائلة بن لادن: عائلة عربية في قرن أميركي» إن الإيرانيين كانوا يريدون السيطرة على عائلة بن لادن بصورة أو أخرى. ما يعني أنهم يريدون الضغط على الأب.
وأظهرت الوثائق أيضا، أن زعماء «القاعدة» كانوا يشعرون بقلق متزايد من وجود جواسيس بينهم وطائرات تجسّس من دون طيار وأجهزة تتبّع سرّية تنقل تحركاتهم مع استمرار الحرب التي تقودها الولايات المتحدة عليهم. كما تؤكد الوثائق أن التنظيم «كان يبدو مصمما على مواصلة (الجهاد العالمي) لكن الدوائر الداخلية لقيادته في باكستان وأفغانستان كانت تتعرض لضغوط على عدة جبهات». ثم في السنوات التالية بدا التنظيم صامدا من أفغانستان إلى شمال أفريقيا ونما منافسه تنظيم داعش وانتشر. وفي إحدى الوثائق أصدر بن لادن توجيهات لأعضاء في «القاعدة» يحتجزون رهينة أفغانيا بالتحسب لاحتمال وجود جهاز تتبّع مرفق مع مبلغ الفدية. وقال بن لادن في رسالة لأحد مساعديه «الشيخ محمود» إنه «من المهم أن تتخلص من الحقيبة التي تسلم فيها الأموال لاحتمال أن تكون تحمل شريحة تعقّب».
وتحدث عبد الحكيم الأفغاني القيادي في «القاعدة» في رسالة أخرى عن هروبه من المخابرات الإيرانية إلى باكستان مع من يُدعى «الحاج سلطان» موضحًا أنه شعر بمراقبة شديدة مع توطيد العلاقات بين مصر وإيران في عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك.. بينما ذكر بن لادن لأخيه خالد في إحدى الرسائل أن زوجته وولده حمزة وزوجته تمكنوا جميعًا من الهروب من إيران، في عملية معقدة قُتل خلالها عدد من رجال «القاعدة» وتم اعتقال البعض الآخر.
ودوّن بن لادن في رسالة وجّهها إلى «الشيخ محمود» (عطية الله الليبي) مؤرخة وفق التقويم الهجري بما يعادل أواخر عام 2009 «عليك أن تُبقي في ذهنك أنّه من الممكن أن يكون الصحافيون تحت المراقبة أيضًا. أمرٌ ليس بوسعنا أو بوسعهم التنبّه إليه، إن كان على الأرض أو عبر القمر الصناعي»، مضيفا: «كذلك ثمّة احتمال غرس رُقاقة في قطعة من معدّاتهم قبل وصولهم إلى الموقع لمقابلة أحد الإخوة».
حول موضوع الكنى، ضمن الكنى التي استخدمها الدكتور أيمن الظواهري الرجل الثاني في «القاعدة»، خلال رحلته ما بين القاهرة وباكستان وأفغانستان والسودان ثم العودة مرة أخرى إلى أفغانستان «الدكتور عبد المعز» و«الأستاذ نور» و«أبو محمد». وهناك رسالة وحيدة، حصلت عليها «الشرق الأوسط» نشرت قبل سنوات من كومبيوتر الظواهري، وقعها باسمه صراحة من دون استخدام الكنى التي كان يعرف بها، وقال فيها «إن الحركة عصية على الاستئصال أو التطويع أو الإكراه أو التنازل عن ثوابتها، رغم البطش الذي يصب عليها من دون توقف وبلا رحمة».
وكشف أصوليون في لندن لـ«الشرق الأوسط»، أن إقبال الجماعات على استخدام الكنى في التخاطب بين أعضائها يعود لعدة أسباب، فهي إعمال للسنة، باعتبار أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يطلق على أصحابه الكنى توثيقا للعلاقات فيما بينهم وبينه، لكنهم يستخدمونها أيضا في العمل السري لتضليل أجهزة الأمن، بحيث إذا سقط أحدهم في قبضة رجال الشرطة لا يستطيعون معرفة باقي أعضاء الخلية. وأوضح قيادي أن كنى المتشددين تتغير مع مراحل انتقالهم من بلد لآخر، مثل رفاعي طه رئيس «مجلس شورى الجماعة الإسلامية» السابق (الذي استقال من منصبه عام 1998)، وسلم إلى مصر من سوريا، كان يتنقل بكنية «صلاح الأسمر»، إلا أنه عرف بين قيادات الحركة بعد ذلك باسم «أبو ياسر»، وهو مؤلف كتاب «إماطة اللثام عن بعض أحكام ذروة سنام الإسلام» (طبع في لندن).
من جهته، قال الدكتور هاني السباعي، مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية، إنه «يفضل أنصار الجماعات الألقاب والكنى التي يشتهرون بها ويستمدونها من عبق التاريخ، ولا يرجع ذلك إلى التخفي والكتمان والسرية فقط، بل اقتداء بالرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) الذي كان يطلق تلك الكنى والألقاب على بعض الصحابة كما فعل مع الصحابي علي بن أبي طالب الذي لقبه بـ(أبي تراب) والصحابي عبد الرحمن بن صخر الذي لقبه بـ(أبي هريرة) لأنه كان يحمل هرة بين يديه، كما لقب الصحابي خالد بن الوليد بـ(سيف الله المسلول). كذلك تماشيا مع الحديث الشريف (المرء مع من أحب)، فحب الجماعات للصحابة وقادة الإسلام في التاريخ خاصة المشهورين بالبطولات والعلم، عظيم فنجد من يتكنى بـ(أبي حمزة) تأسيا بعم الرسول (صلى الله عليه وسلم) حمزة بن عبد المطلب، ومنهم من يتكنى بـ(أبي حفص) تأسيا بكنية الصحابي عمر بن الخطاب، ومنهم من يتكنى بـ(أبي بكر) تأسيا بالصحابي عبد الله بن عتيق (أبو بكر الصديق)، ومنهم من يختار كنية (أبي مصعب) تأسيا بالصحابي مصعب بن عمير، ومنهم من يتكنى بـ(أبي قتادة) نسبة إلى الصحابي أبي قتادة الأنصاري».

صورة نادرة لابن لادن مع أبو مصعب السوري في تورا بورا («الشرق الأوسط»)



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.