{شفرة} مراسلات بن لادن السرّية

من زعيم «القاعدة» إلى رجاله: ابتعدوا عن إيران.. لنا معها مصالح

صورة نادرة لابن لادن مع أبو مصعب السوري في تورا بورا  («الشرق الأوسط»)
صورة نادرة لابن لادن مع أبو مصعب السوري في تورا بورا («الشرق الأوسط»)
TT

{شفرة} مراسلات بن لادن السرّية

صورة نادرة لابن لادن مع أبو مصعب السوري في تورا بورا  («الشرق الأوسط»)
صورة نادرة لابن لادن مع أبو مصعب السوري في تورا بورا («الشرق الأوسط»)

أثارت الوثائق التي كشفت عنها وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) الأميركية وقالت: إنها حصلت عليها من منزل زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن، عقب مقتله في مدينة آبوت آباد بباكستان 2011. والتي نشر التنظيم نسختها الأصلية باللغة العربية بينما ترجمت «سي آي إيه» الوثائق الـ133 التي كشفت عنها إلى اللغة الإنجليزية، المزيد من اللغط حول العلاقة بين «القاعدة» وإيران. وكان من أبرز المراسلات تلك التي بعث بها بن لادن إلى «الأخ توفيق»، الذي يُعتقد أنه قيادي من جماعة «الجهاد» المصرية، بحسب أصوليين في لندن، حيث كان من اللافت تركيز عدد كبير منها مما تضمنته الوثائق - التي كتبها بن لادن أو قيادات بالتنظيم - عن إيران وطرق التعامل معها، باعتبارها ممرًا «آمنًا للرسائل والأموال والأسرى».
أثبتت وثائق «سي آي إيه»، المشار إليها أعلاه، ومنها الوثيقة التي كتبها أسامة بن لادن، إلى «الأخ توفيق» بين الجانبين، أي إيران و«القاعدة»، التعاون المشترك بينهما الذي طال لسنوات عدة، وحث فيها بن لادن على عدم فتح جبهة ضد الدولة الشيعية، حيث طالبت إيران من القاعدة حماية المراقد الشيعية في العراق، وأنها ليست ضمن الأهداف المراد ضربها، وأن ما يحدث هو نتيجة التخبط الحاصل هناك، وأن «العمدة» - يقصد به ابن لادن وأصحابه - غير راضين عن استهداف تلك المراقد، وأن الإيرانيين أصبحوا غير راضين عن أي شيء في العراق، عن طريق الموالين لهم أو بطريق مباشر، ويريدون التعاون ولكن بعد الحصول على تطمينات». وتقول رسالة بن لادن المكتوبة بخط يده، أيضا بأنهم يريدون مناقشة الكثير من الأمور «ولكن بعد لقاء مندوب من طرفكم».
والملاحظ أنه تظهر في الوثائق كُنى وألقاب لعشرات من القياديين، تكررت في مراسلات بن لادن مثل «أبو خالد» و«أبو نواف» (شقيق ابن لادن)، و«أبو محمد» (الظواهري) و«العمدة» (بن لادن نفسه) و«أزرق» (أبو مصعب الزرقاوي) و«أبو الوليد المصري» (مصطفى حامد «منظّر القاعدة») و«أبو صلاح» و«مولوي عبد العزيز» و«كارم» و«أبو عبد الله الشافعي». وهناك رسالة إلى «أزمراي» (بن لادن) من أحد مساعديه، وكذلك رسالة مهمة إلى «الشيخ محمود» وهو «عطية الله الليبي» أي جمال إبراهيم زوبي (أحد قادة التنظيم وهو من مدينة مصراتة الليبية).
وفي رسالة إلى «الشيخ سعيد» (مصطفى أبو اليزيد قائد «القاعدة» في أفغانستان) بخصوص إيران طالب فيها بن لادن بـ«إعداد بحث شرعي عن الشيعة يتضمن مناقشة أسس القضايا بأسلوب يسهل فهمه دون الدخول في الفروع لتسهيل الأمر على العوام». وقال بن لادن في رسالته إلى «الشيخ سعيد» ما يلي «المصلحة في هذه المرحلة، تقتضي أن لا ندخل في حرب عسكرية مع إيران لما في ذلك من تشتيت للجهد الوحيد الموجه إلى رأس الكفر أميركا». وقد عنون عباراته بخط الفولماستر الأحمر. وأردف بن لادن «أحسب أننا في فترة الإجهاز على أميركا، إلا أنه كما لا يخفى عليكم، أن الدول الكبرى لا تنهار بين عشية وضحاها وأن الانشغال عن عدو منهك وإعطاءه الفرصة لالتقاط أنفاسه والدخول في حرب طويلة المدى مع عدو آخر أمر مناف للحكمة ما دام هناك خيار للتأجيل».
والملاحظ هنا تغيرت الكنى والألقاب من حين لآخر بحسب الظرف والمكان، وبعض هذه الكنى كشف عنه متخصصون في شؤون الحركات المتطرفة، والبعض الآخر ما زال مجهولا، بفعل أن بعض هؤلاء ما زال ملاحقا من قبل القوات الأميركية، وفي قائمة أخطر المطلوبين ضمن الحرب على الإرهاب.
ورأى بن لادن في إحدى الوثائق المسرّبة أنه «إذا كانت لدى (القاعدة في بلاد الرافدين) القدرة على فتح جبهة ضد إيران وإلحاق الأذى بها، فالأفضل ألا تعلنوا ذلك، ولا تهددوا به، بل نفذوا ضرباتكم في صمت، وتفهموها أو تتركوها تفهم أنكم الضاربون، لأن هذا أحفظ لسمعتكم إذا لم تؤت الخطة ثمرتها، وأدعى لسهولة التفاوض مع إيران، إذا نالها الأذى الشديد». وحسب المتخصصين استخدم بن لادن في رسائله ألقابا مغايرة لأسماء قادة التنظيم تجنبًا لتوريطهم حال وقوع الرسالة في يد الأمن. وجاء في الرسالة المكتوبة بخط يد لـ«توفيق» الكلام عن ترتيب لقاء بأحد الأشخاص من طهران، كما يلي «الإيرانيون مهتمون بعمل ارتباط مع أحد من طرف (العمدة)، وذلك ليس فقط لوضع المرضى وإنما يهمهم بالدرجة الأولى الوضع في العراق، حيث إنهم يعتقدون أن الإخوة هناك وبالذات (الأزرق) ومجموعته لهم دخل في الاعتداءات على الأماكن والعتبات المقدسة لدى الشيعة». كذلك تحدث عن وجود صعوبة في إرسال مندوب من طرفه (أي بن لادن) إلى إيران للتباحث حول اتهام إيران لـ«القاعدة» بالمسؤولية عن استهداف الأماكن والعتبات المقدسة لدى الشيعة. وذكرت الرسالة، نقلاً عن الوسيط بين الطرفين، أن إيران ترغب في مقابلة مندوب عن بن لادن، ومستعدة لتقديم الدعم وترغب في بحث إمكانية التعاون إذا تمت تسوية بعض النقاط، لا سيما مع عجزها على حماية المقدسات الشيعية في العراق، وأنها راغبة على الأقل في الحصول على خطاب بتوقيع بن لادن، الذي رمز له في الخطاب باسم «العمدة»، يؤكد فيها أن الأماكن المقدسة لدى الشيعة ليست هدفًا للتنظيم واستهدافها مرفوض من قبله. وتعد هذه الوثيقة واحدة من وثائق الدفعة الثانية لزعيم «القاعدة» السابق الراحل التي أفرجت عنها واشنطن، مما صادرته القوات الأميركية بعد مقتله عام 2011 بمخبئه في مدينة آبوت أباد.
لقد طالب بن لادن من الجانب الإيراني بـ«إطلاق سراح جميع أسرى التنظيم فورًا، وبإعطائهم الفرصة لكي يرجعوا من حيث أتوا، وعدم الإساءة إلى المهاجرين وأطفالهم من أهل السنة». كما تحدث في رسالة أخرى موجهة إلى «أبو نواف» - الذي يعتقد أنه أحد أشقائه - عن الإقامة الجبرية في إيران لزوجته خيرية صابر «أم حمزة» وأولاده حمزة وفاطمة وأسماء وسعد وعثمان ومحمد وحامد، وأكد أن أخبارهم تصله وأنهم جميعًا بخير. وذكر أنهم ذهبوا إلى طهران هربًا من الاحتلال الأميركي في أفغانستان من دون تنسيق مع الحكومة الإيرانية، وأن الحكومة لم تستجب لمطالباته بإخراجهم إلى باكستان. وناشد بن لادن «أبو نواف» أن يخرجهم إلى منطقة وزيرستان بباكستان، وسمح له بالاستعانة بأخواله في تلك العملية، ووضع خطة في رسالة لزوجته لخروج حمزة على وجه الخصوص من إيران. وأشار إلى أهمية دعم معتنقي المذهب السني في إيران والدول المجاورة لها ولكن من دون أن يحدد شكلاً لهذا الدعم. وأشاد في كلمة وجهها لـ«الأمة الإسلامية» بـ«التخطيط الجيد الذي أدى لنجاح الثورة الإسلامية الإيرانية، من حيث إدارة الثورة عبر قائد موجود في مكان بعيد حصين لا يختلط بالجماهير حفاظًا عليه، ليتمكن من الاستمرار في الإدارة والتحكم في قيادة الثورة».
غير أن التناقض ازداد في رسالة ثالثة إلى «كارم» تحفظ بن لادن فيها عن تهديد «القاعدة» لإيران من دون الرجوع إليه، وأكد أنه «لا داعي لفتح جبهة جديدة مع إيران... لأن لنا معها مصالح»، وقال: إن التنظيم كان قادرًا بالفعل على تنفيذ تهديداته لها، وكان رأيه الشخصي هو الانصراف تمامًا عن توجيه ضربات لها في الوقت الحالي. ولم يفضل فكرة أسر إيرانيين للتفاوض عليهم، ورأى تقديم التفاوض على أسرى «القاعدة».
وفي رسالة إلكترونية بدا أنها كُتبت على عجل إلى «الشيخ أبو عبد الرحمن»، تحدث قيادي بالتنظيم لم يذكر اسمه، عن اختلاف داخل «القاعدة» حول ضرب إيران، ورغبة «أبو سالم» (أحد القيادات) في التعجيل بذلك الضرب واعتباره أنه لا محالة من تنفيذه، ولكن بن لادن ارتأى أن ضرب إيران سيغير المعادلة في المنطقة تمامًا، وأن على التنظيم عزل سوريا أولاً ثم تحييد «حزب الله» في لبنان ليتمكن من ضرب إيران، معتبرًا أن هذا الاتجاه «لا محيد عنه سياسة وواقعًا».
وتناولت الرسالة أيضًا تخوفات داخل التنظيم من وقوع الحرب بين إيران والولايات المتحدة، واعتبر بن لادن أن التيار «المتشدد» سيكون أكبر المستفيدين من حرب مماثلة تفتح له الطريق إلى الشام، ولكنها ستعود عليه بخسائر أكبر سواءً فازت إيران فعظمت قوتها، أو فازت الولايات المتحدة فتمكنت من فرض السيطرة الكاملة على المنطقة.
وفي ملخص للنقاط المطروحة في أحد اجتماعات قيادة «القاعدة»، استقر الرأي على تأجيل التصعيد ضد إيران نظرًا لأن التنظيم غير قادر في ذلك الوقت على استعدائها، وحرصًا على الفرصة المتاحة لإطلاق سراح معتقلي التنظيم لديها، ولإظهار التعاطف مع من يضرب إسرائيل.
وهنا يقول أحد الخبراء في الشأن الإيراني «كانت هناك علاقة مهادنة بين التنظيم وإيران، وهو ما يؤكده عدم استهدافها بالعمليات الإرهابية رغم القرب الجغرافي مع معقل التنظيم في أفغانستان، لعدة أسباب منها أن إيران كانت تصلح ممرًا لعناصر التنظيم إبان الاحتلال الأميركي لأفغانستان، وكانت إيران تضغط على التنظيم في المقابل من خلال معتقليه لديها».
لم تكن سيطرة الإيرانيين على بن لادن عبر احتجاز عائلته واضحة المعالم، فالبعض يعتبر أن الأمر أكثر من ورقة ضغط وأن بن لادن أرسل أولاده عبر علاقاته مع الإيرانيين ليكونوا في مأمن، وإلا لماذا لم يسمح لهم بالعبور إلى المملكة العربية السعودية أو سوريا حيث تقيم أم بعضهم وهي نجوى الغانم.
ومن الأسماء التي برزت من قادة «القاعدة» وعوائلهم ويقيمون في إيران: القيادي سيف العدل وزوجته المصرية ابنة مصطفى حامد والأبناء وزوجته الباكستانية وأطفالها. ولقد خص بن لادن مصطفى حامد «أبو الوليد» وزوجته وفاء علي الشامي، التي هربت من الإقامة الجبرية ولجأت إلى السفارة المصرية في طهران بصحبة حفيدها، برسالة مطولة ضمن الوثائق يعلق فيها على كتابه «صليب في سماء قندهار» وآخر هو «حرب المطاريد».
كذلك ضمن الذين كانوا في إيران واعتقلوا لاحقًا سليمان جاسم بوغيث الكويتي زوج ابنة بن لادن، وأحمد حسن أبو الخير وأسرته، و«أبو حفص الموريتاني»، و«أبو سعيد المصري» وعائلته، وعثمان بن لادن الذي كان يعول زوجتين وولدين وبنتًا (يقال: إنه الآن في قطر)، وهناك من أبناء بن لادن محمد بن لادن الذي يعول بنتين وصبيًا وحمزة بن لادن (يبلغ من العمر 19 سنة وهو متزوج ويعول طفلين تعيش معه أيضًا والدته السيدة خيرية صابر وهي سعودية. وفي المجمع السكني أيضًا فاطمة (البالغة من العمر 24 سنة) مع زوجها وابنتها نجوى. وكذلك إيمان التي هربت إلى السفارة السعودية في طهران وكشفت «الشرق الأوسط» في حينه قصة لجوئها إلى السفارة قبل خروجها آمنة إلى حيث تعيش والدتها في سوريا.
إضافة إلى هؤلاء تشير التقارير أن أكثر من 100 من قيادات الأفغان العرب عاشوا في طهران مع عوائلهم، ومنهم من غادر إلى بلدانهم الأصلية بينما اختار آخرون العودة إلى وزيرستان (عرب باكستان) حسب تقارير لمنظمات متعاطفة مع «القاعدة».
من ناحية أخرى، عرف عن الإيرانيين عشقهم حيازة أوراق ضغط كثيرة ضد أعدائهم وحتى أصدقائهم. ولعل احتجاز عائلة بن لادن المكونة من 24 امرأة وولدًا وبنتًا لا علاقة لهم بما فعله والدهم ويفعله وقت الاحتجاز، يدل على أن إيران لا تتورع عن استخدام هؤلاء كورقة ضغط على بن لادن و«القاعدة». وهنا يقول ستيف كول، مؤلف كتاب «عائلة بن لادن: عائلة عربية في قرن أميركي» إن الإيرانيين كانوا يريدون السيطرة على عائلة بن لادن بصورة أو أخرى. ما يعني أنهم يريدون الضغط على الأب.
وأظهرت الوثائق أيضا، أن زعماء «القاعدة» كانوا يشعرون بقلق متزايد من وجود جواسيس بينهم وطائرات تجسّس من دون طيار وأجهزة تتبّع سرّية تنقل تحركاتهم مع استمرار الحرب التي تقودها الولايات المتحدة عليهم. كما تؤكد الوثائق أن التنظيم «كان يبدو مصمما على مواصلة (الجهاد العالمي) لكن الدوائر الداخلية لقيادته في باكستان وأفغانستان كانت تتعرض لضغوط على عدة جبهات». ثم في السنوات التالية بدا التنظيم صامدا من أفغانستان إلى شمال أفريقيا ونما منافسه تنظيم داعش وانتشر. وفي إحدى الوثائق أصدر بن لادن توجيهات لأعضاء في «القاعدة» يحتجزون رهينة أفغانيا بالتحسب لاحتمال وجود جهاز تتبّع مرفق مع مبلغ الفدية. وقال بن لادن في رسالة لأحد مساعديه «الشيخ محمود» إنه «من المهم أن تتخلص من الحقيبة التي تسلم فيها الأموال لاحتمال أن تكون تحمل شريحة تعقّب».
وتحدث عبد الحكيم الأفغاني القيادي في «القاعدة» في رسالة أخرى عن هروبه من المخابرات الإيرانية إلى باكستان مع من يُدعى «الحاج سلطان» موضحًا أنه شعر بمراقبة شديدة مع توطيد العلاقات بين مصر وإيران في عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك.. بينما ذكر بن لادن لأخيه خالد في إحدى الرسائل أن زوجته وولده حمزة وزوجته تمكنوا جميعًا من الهروب من إيران، في عملية معقدة قُتل خلالها عدد من رجال «القاعدة» وتم اعتقال البعض الآخر.
ودوّن بن لادن في رسالة وجّهها إلى «الشيخ محمود» (عطية الله الليبي) مؤرخة وفق التقويم الهجري بما يعادل أواخر عام 2009 «عليك أن تُبقي في ذهنك أنّه من الممكن أن يكون الصحافيون تحت المراقبة أيضًا. أمرٌ ليس بوسعنا أو بوسعهم التنبّه إليه، إن كان على الأرض أو عبر القمر الصناعي»، مضيفا: «كذلك ثمّة احتمال غرس رُقاقة في قطعة من معدّاتهم قبل وصولهم إلى الموقع لمقابلة أحد الإخوة».
حول موضوع الكنى، ضمن الكنى التي استخدمها الدكتور أيمن الظواهري الرجل الثاني في «القاعدة»، خلال رحلته ما بين القاهرة وباكستان وأفغانستان والسودان ثم العودة مرة أخرى إلى أفغانستان «الدكتور عبد المعز» و«الأستاذ نور» و«أبو محمد». وهناك رسالة وحيدة، حصلت عليها «الشرق الأوسط» نشرت قبل سنوات من كومبيوتر الظواهري، وقعها باسمه صراحة من دون استخدام الكنى التي كان يعرف بها، وقال فيها «إن الحركة عصية على الاستئصال أو التطويع أو الإكراه أو التنازل عن ثوابتها، رغم البطش الذي يصب عليها من دون توقف وبلا رحمة».
وكشف أصوليون في لندن لـ«الشرق الأوسط»، أن إقبال الجماعات على استخدام الكنى في التخاطب بين أعضائها يعود لعدة أسباب، فهي إعمال للسنة، باعتبار أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يطلق على أصحابه الكنى توثيقا للعلاقات فيما بينهم وبينه، لكنهم يستخدمونها أيضا في العمل السري لتضليل أجهزة الأمن، بحيث إذا سقط أحدهم في قبضة رجال الشرطة لا يستطيعون معرفة باقي أعضاء الخلية. وأوضح قيادي أن كنى المتشددين تتغير مع مراحل انتقالهم من بلد لآخر، مثل رفاعي طه رئيس «مجلس شورى الجماعة الإسلامية» السابق (الذي استقال من منصبه عام 1998)، وسلم إلى مصر من سوريا، كان يتنقل بكنية «صلاح الأسمر»، إلا أنه عرف بين قيادات الحركة بعد ذلك باسم «أبو ياسر»، وهو مؤلف كتاب «إماطة اللثام عن بعض أحكام ذروة سنام الإسلام» (طبع في لندن).
من جهته، قال الدكتور هاني السباعي، مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية، إنه «يفضل أنصار الجماعات الألقاب والكنى التي يشتهرون بها ويستمدونها من عبق التاريخ، ولا يرجع ذلك إلى التخفي والكتمان والسرية فقط، بل اقتداء بالرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) الذي كان يطلق تلك الكنى والألقاب على بعض الصحابة كما فعل مع الصحابي علي بن أبي طالب الذي لقبه بـ(أبي تراب) والصحابي عبد الرحمن بن صخر الذي لقبه بـ(أبي هريرة) لأنه كان يحمل هرة بين يديه، كما لقب الصحابي خالد بن الوليد بـ(سيف الله المسلول). كذلك تماشيا مع الحديث الشريف (المرء مع من أحب)، فحب الجماعات للصحابة وقادة الإسلام في التاريخ خاصة المشهورين بالبطولات والعلم، عظيم فنجد من يتكنى بـ(أبي حمزة) تأسيا بعم الرسول (صلى الله عليه وسلم) حمزة بن عبد المطلب، ومنهم من يتكنى بـ(أبي حفص) تأسيا بكنية الصحابي عمر بن الخطاب، ومنهم من يتكنى بـ(أبي بكر) تأسيا بالصحابي عبد الله بن عتيق (أبو بكر الصديق)، ومنهم من يختار كنية (أبي مصعب) تأسيا بالصحابي مصعب بن عمير، ومنهم من يتكنى بـ(أبي قتادة) نسبة إلى الصحابي أبي قتادة الأنصاري».

صورة نادرة لابن لادن مع أبو مصعب السوري في تورا بورا («الشرق الأوسط»)



«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
TT

«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)

ارتبط مسمى «حزب الله» بنوعين؛ أعلام صفراء في لبنان، وحسن نصر الله أمين عام حزب الله، لبنان، لكن النوع العقائدي الأكبر خطورة يسير في دماء العراق، حزب هو بذات الاسم، عقائديون أكبر أثراً في سفك الدماء، حيث يرعون الأمر أكبر من مجرد حزب أصفر له الضاحية الجنوبية في لبنان؛ مسكن ومقر ومشيعون.
بين دجلة والفرات، حزب يسمى كتائب «حزب الله العراق»، له أكثر من 13 عاماً وهو في تشكيله الحالي، ليس بالهين عوضاً عن ميليشيات «الحشد الشعبي» التي أخذت كل الوهج الإعلامي كونها مرتبطة بنظام إيران، لكن «حزب الله العراق» وكتائبه تمر في أزقة السواد وبأخطر من دور ميداني تمارسه «الحشد الشعبي»، لأن العقائدية ونشرها أشد خطورة من ميدان يتقهقر فيه الأضعف، نظراً للضربات الآمنة التي يقودها الحلفاء أولو القوة من غرب الأرض لوقف تمدد النزيف، دائماً ما يكون مصنع الوباء يمر بحزب الله العراق.

قبل أشهر، كان الحزب تعرض لواحدة من أعنف الغارات على مواقعه، بعد هجوم صاروخي استهدف قاعدة التاجي في العراق، وقتل فيها جنديين أميركيين وبريطانياً، وجاء الرد خلال ساعات قليلة بفعل غارات أميركية - بريطانية مشتركة، ضد منشآت لميليشيات حزب الله العراقي في محافظتي بابل وواسط ومنطقة سورية محاذية للحدود العراقية.
نظرة سريعة على حزب الله العراق، من التاريخ، كان عماد مغنية (قتل في 2008 بغارة إسرائيلية في دمشق) الإرهابي اللبناني التابع لإيران، وحزب الله لبنان، كان أحد صنّاع هيكل هذا الحزب في العراق، حيث بدأ في العمل وفقاً لتوجيهات وأوامر نظام الملالي في تكوين حزب يشبه حزب الله اللبناني، وهو ما يبدو أن الأوامر جاءته في تجويد هذا الحزب ليكون بذراعين: عسكرية وعقائدية، ويبدو أن مغنية تجاوز أخطاء عديدة في تشكيل ووهج حزبه اللبناني، فصنع بهدوء هيكلة مختلفة للحزب، جعلت كل المساجد والحسينيات وقوداً يضخ فيها البذور التي يرغبها أولو العمائم.
ظهر الحزب بحضوره الأول بقوام تجاوز 4 آلاف شخص، منتمين بعضويات عدة داخله، وتنامى العدد حتى قبل تصنيف الولايات المتحدة له كـ«تنظيم إرهابي»، لكنه جعل دوره التسويقي للحشد والتنظيم أكبر من مجرد عسكرة، بل فكرة أكثر ارتباطاً في نشر آيديولوجيا عبر مواقع عدة، ومنها تفريخ عناصر في قطاعات مهمة داخل العراق؛ منها وزارة التعليم ووضع لبنات التعاون مع أحزاب دينية؛ منها «الحزب الإسلامي» الذي يتغذى بمنهج الإخوان المسلمين.
ربما ما يدور أن الحزب هو جزء في تكوين «الحشد الشعبي» لكن ذلك يمر بتقاطعات، حيث يشير عبد القادر ماهين، المتخصص في شؤون التنظيمات الإرهابية، إلى أن الحزب يظهر كونها جزءاً من تكوين الحشد، لكنه جزء يصنع الكعكة الميليشياوية ويشارك في تسميمها ويعمل على توزيعها في المناطق المجاورة.
يشير ماهين في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط» إلى أنه لا أمين عاماً للحزب أسوة بحزب الله اللبناني، حيث يظهر فيه حسن نصر الله، مبرراً ذلك أن الفرق بين تكوين الحزبين هو الحاجة والدور، حيث يتمركز في جنوب العراق بعتاد عسكري، له هدف في وضع حضور طاغٍ يحاول تفخيخ الحدود، لأن الهدف يرتبط مع إمبراطورية إيران الكبرى الممتدة، ولا يظهر له الأثر السياسي كممثلين له كما هو الحزب اللبناني ليكون أثره في تشكيل الحكومات والبرلمانات.

إذن ما الدور الذي يلعبه الحزب؟

الحزب كما يرى ماهين، أنه ذو دور عسكري في الأصل، لكن الترتيبات ما بعد 2009 جعلته أكثر قدرة في تكوين فريق احتياط عسكري ليس أكثر وفق الحاجة، يدعم التوجهات والسياسات الإيرانية، لكن ما أخل بتلك القاعدة مشاركته المباشرة في دعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وأصبح أكثر من 4 أو 5 آلاف جندي مشاركين في السيطرة على مدن سورية تحت إمرة إيران في سوريا التي تتشكل من 4 فصائل مسلحة.
الحزب ليس عسكرياً فقط؛ كان ولا يزال صاحب دور في الترويج العقائدي، وتصوير الحضور الإيراني بشكل إيجابي مزعوم، إضافة إلى عمله الاقتصادي، حيث يدخل عناصره الكبرى في مفاصل مهمة في الاقتصاد العراقي، من شركات اتصالات وشركات نفطية، وأخرى ذات علاقة بقطاع الطيران، وإدارة المطارات والمنافذ، وبعض الأشخاص أبرزهم هادي العامري الذي كان صاحب صولات وجولات حين حمل حقيبة وزارة النقل العراقية في وقت سابق، وكان أبرز مهددي الاستمرار الكويتي في بناء ميناء مبارك الكبير، حيث هددت كتائب الحزب الشركات من الاستمرار بالعمل، وحينها ظهر العامري بأن ذلك المشروع «يغلق القناة الملاحية لموانئ العراق».
مرحلة مختلفة ظهرت، حين عاودت الآلة العسكرية الحزبية لكتائب حزب الله العراق، بالعمل من خلف الصفوف، حيث كانت أبرز مهددي السفارات وأكثر ملغمي مسارات الحلول السياسية، بل ومن رمى بقادة العراق اليوم في تحدي أن يرضخوا أمام شعب بدأ في كراهية الحضور الإيراني، وكان الحزب أبرز علامات استهداف المتظاهرين في العراق في كل البلاد، بغية كسر حدة السيوف الشعبية لتصبح مجرد مقبض دون رأس حربة كي يحافظ الحزب على الوجود الإيراني، خصوصاً أنه أبرز متلقٍ للأموال من نظام إيران وأكثرها غناءً.
الدور الاقتصادي لكتائب حزب الله العراق أصبح أكثر وضوحاً، حيث كان أكبر المنتفعين في عام 2015، من «الفدية القطرية» التي وصلت إلى أكثر من مليار دولار، مقابل إطلاق سراح قطريين كانوا يقضون وقتهم في الصيد جنوب العراق، ورغم أن الأنباء قالت إن الخاطفين لعدد من أبناء الأسرة الحاكمة القطرية ومعاونيهم الذي بلغ 28 شخصاً، كانوا من تنظيم «داعش»، لكن التقارير المسربة لاحقاً في بدايات 2016 حيث جرى تخليصهم وعودتهم إلى قطر، كانوا يتبعون لكتائب حزب الله العراق، وهو ما ينافي الرواية الرسمية القطرية التي تقول إنها دفعت المبلغ للحكومة العراقية.
الدور المستقبلي لن ينفك عن منهجية تتقاطع مع حزب الله اللبناني، حيث لدى الحزب اليوم الرؤى ذاتها، خصوصاً في اعتماد سياسة «افتعال الأزمات»، كي لا ينكسر الحضور الإيراني ونفوذه في المؤسسات الدينية وبعض السياسية، التي يجد فيها بعضاً من رجاله الذين يقبعون في سياسة تخفيف الضغط على النظام السياسي ومحاصصته التي تستفيد منها ميليشيات إيران في العراق، وما بعد مقتل قاسم سليماني، غربلة يعيشها الحزب الذي يجرب يوماً بعد آخر أسلوب التقدم خطوة بخطوة، مستفيداً من تكتيك الفأر في نشر طاعون على أرض هي الأهم لإيران.


«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
TT

«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)

ارت طموحات تنظيم «داعش» الإرهابي للتمدد مجدداً تساؤلات كثيرة تتعلق بطبيعة «مساعيه» في الدول خلال العام الجاري. واعتبر مراقبون أن «(أزمة كورونا) جددت طموحات التنظيم للقيام بعمليات إرهابية، واستقطاب (إرهابيين) عقب هزائم السنوات الماضية ومقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي». ووفق خبراء ومتخصصين في الشأن الأصولي بمصر، فإن «التنظيم يبحث عن أي فرصة لإثبات الوجود»، مشيرين إلى «مساعي التنظيم في أفريقيا عبر (الذئاب المنفردة)، ومحاولاته لعودة نشاطه السابق في العراق وسوريا عبر تبني عمليات القتل»، موضحين أن «المخاوف من العناصر (الانفرادية) التي تنتشر في أوروبا وأميركا تتزايد، خاصة وأنها تتحرك بانسيابية شديدة داخل محيطهم الجغرافي».
وقال أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، إن «(داعش) مثل تنظيمات الإرهاب تبحث عن فرصة مُناسبة للوجود، ومن الفُرص المُناسبة، وجود أي شكل من أشكال الفوضى أو الارتباك، وعندما تكون جهود الدول موجهة لمحاربة (كورونا المستجد)، فيبقى من الطبيعي أن يسعى التنظيم للحركة من جديد، وانتظار فرصة مناسبة لتنفيذ أهدافه، خاصة أن (داعش) في تعامله مع الفيروس روج لفكرة (أن كورونا عقاب إلهي لأعدائه، على حد زعم التنظيم)، خصوصاً أن (كورونا) كبد أوروبا خسائر كبيرة، وأوروبا في الدعايا الداعشية (هذا الغرب الذي يحارب الإسلام، على حد تصور الداعشيين)، لذا فـ(داعش) يستغل هذا، في مواجهة بعض الارتكازات الأمنية، أو الأكمنة، أو الاستهدافات بالشوارع، لإثارة فازعات، ومن الوارد تنفيذ بعض العمليات الإرهابية».
وأكد عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) استغل (أزمة الفيروس) بالادعاء في بيان له مارس (آذار) الماضي، بأن الفيروس (عذاب مؤلم من الله للغرب، خاصة للدول المشاركة في العمليات العسكرية ضده، على حد زعمه)، ويحاول التنظيم نشر الخوف من الوباء، والبحث عن إيجاد مصارف لتمويل العمليات الإرهابية».
ووفق تقرير سابق لمجموعة «الأزمات الدولية» في نهاية مارس الماضي، أشار إلى أن «التنظيم أبدى مع ظهور الفيروس (نبرة شماتة)، وأخبر عناصره عبر افتتاحية جريدة (النبأ) التابعة له في نهاية مارس الماضي، بضرورة استمرار حربهم عبر أرجاء العالم حتى مع تفشي الوباء... وادعى أن الأنظمة الأمنية والدولية التي تسهم في كبح جماح التنظيم على وشك الغرق، على حد قول التنظيم».
ويشير عبد المنعم في هذا الصدد، إلى أنه «بالعودة لزاوية (حصاد الأجناد) في عدد (النبأ) الأخير، زعم التنظيم أنه شن 86 هجمة إرهابية في شهر واحد، هو مارس الماضي، وهو أعلى رقم منذ نهاية نوفمبر (تشرين ثاني) الماضي، الذي سجل 109 هجمات، فيما عُرف بـ(غزوة الثأر) للبغدادي وأبو الحسن المهاجر اللذين قُتلا في أكتوبر (تشرين أول) الماضي في غارة جوية».
ووفق تقارير إخبارية محلية ودولية فإن «(داعش) يسعى لاستعادة سيطرته على عدد من المناطق في سوريا والعراق من جديد، وأنه يحتفظ بنحو من 20 إلى 30 ألف عضو نشط، ولا ينقصه سوى توفر المال والسلاح». وأشارت التقارير ذاتها إلى أن «التنظيم يحاول استغلال انشغال سوريا والعراق بمكافحة الفيروس، لاستعادة سيطرته على مناطق من الصحراء السورية في الغرب، إلى وادي نهر الفرات شرقاً، مروراً بمحافظة دير الزور والمناطق ذات الأغلبية السنية في العراق، والتي لا يزال يوجد فيها بعض عناصره».
ويشار أنه في أبريل (نيسان) الماضي، هاجم التنظيم بلدة السخنة في صحراء حمص، وأسفر عن مقتل 18. وفي دير الزور أعلن التنظيم مقتل اثنين... وفي العراق، قتل ضابط شرطة عند نقطة تفتيش في الحويجة غرب كركوك على يد التنظيم، كما قتل اثنان من مقاتلي البيشمركة الكردية في هجوم للتنظيم أبريل الماضي، كما أسفر هجوم للتنظيم على مطار الصادق العسكري عن مقتل اثنين.
وفي هذا الصدد، قال عمرو عبد المنعم، إن «أكثر هجمات (داعش) كانت في العراق أخيراً، وشهد التنظيم نشاطاً مكثفاً هناك»، مضيفاً: «في نفس السياق دعت فتوى نشرها التنظيم على (تلغرام) للهروب من السجون السورية، وهذا ما حدث، فقد هرب 4 نهاية مارس الماضي، من سجن تديره قوات سوريا الديمقراطية، وفقاً لتقارير إخبارية».
وسبق أن طالب أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» في سبتمبر (أيلول) الماضي، «بتحرير أنصار التنظيم من السجون ...»، وسبقه البغدادي «وقد حرض بشكل مُباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق».
وبحسب المراقبين «حاول (داعش) أخيراً زيادة حضوره الإعلامي على منصات التواصل الاجتماعي مجدداً، بعد انهيار إعلامه العام الماضي». ورصدت دراسة أخيرة لمرصد الأزهر لمكافحة التطرف في القاهرة «تداول التنظيم تعليمات لعناصره عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بالادعاء بأن الفيروس يمثل (عقاباً من الله، ويحتم اتخاذ خطوات لتكفير الذنوب)، وجعل التنظيم الإرهابي - على حد زعمه - السبيل الوحيد للخلاص من الفيروس، والقضاء عليه، هو (تنفيذ العمليات الإرهابية)، ولو بأبسط الوسائل المتاحة». اتسق الكلام السابق مع تقارير محلية ودولية أكدت «تنامي أعداد حسابات أعضاء التنظيم وأنصاره على مواقع التواصل خصوصاً (فيسبوك)، حيث تمكن التنظيم مجدداً من تصوير وإخراج مقاطع فيديو صغيرة الحجم حتى يسهل تحميلها، كما كثف من نشر أخباره الخاصة باستهداف المناطق التي طرد منها في العراق وسوريا، وتضمين رسائل بأبعاد عالمية، بما يتوافق مع أهداف وأفكار التنظيم».
ووفق عبد المنعم فإن «(داعش) يستغل التطبيقات الإلكترونية التي تم تطويرها في الفترة الأخيرة في المجتمع الأوروبي، والتي قدمتها شركات التكنولوجيا والذكاء الصناعي في أوروبا مثل تطبيق Corona-tracker لجمع البيانات عن المصابين، وتوجيه بعض الأسئلة لتحديد نسبة الخطورة، وفرض التنظيم على الأطباء والممرضين في الرقة الحضور اليومي الإجباري، ومن خالف تعرض لعقوبات شديدة».
وعن الواجهة التي يسعى «داعش» التمدد فيها خلال الفترة المقبلة. أكد الخبير أحمد بان، أن «أفريقيا هي الواجهة المفضلة لتنظيمي (داعش) و(القاعدة)، والفترة الأخيرة شهدت تصاعدا لعمليات في الغرب الأفريقي وداخل الساحل، وعمليات داخل موزمبيق، فـ(داعش) في حالة سباق لتصدر المشهد هناك، مع توفر آليات تساعده على ذلك من بينها، تهريب السلاح، وحركة العصابات». فيما أبدى عمرو عبد المنعم، تصوراً يتعلق بـ«زيادة العمليات الإرهابية في نيجيريا، وأنه طبقاً لبيانات صدرت أخيراً عما يُعرف باسم (ولاية غرب أفريقيا) أفادت بوجود أكثر من مائة مقاتل هاجروا لنيجيريا من سوريا والعراق».
وتجدد الحديث في فبراير (شباط) الماضي، عن مساعي «داعش» للوجود في شرق أفريقيا أيضاً، بعدما أظهرت صوراً نشرها التنظيم عبر إحدى منصاته تتعلق بتدريبات على أسلحة تلقاها عناصره في مرتفعات «غل غلا» الوعرة بولاية بونتلاند الواقعة شمال شرقي الصومال.
تعليقاً، على ذلك أكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) يهدف إلى السعي لمناطق بالقارة السمراء، بعيداً عن سوريا والعراق، لـ(تفريغ قدرات عناصره القتالية)، فضلاً عن تأكيد عبارة (أنه ما زال باقياً)».
تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية أشارت أيضاً إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال المراقبون إن «عودة هؤلاء أو ما تبقى منهم إلى أفريقيا، ما زالت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيراً منهم شباب صغير السن، وأغلبهم تم استقطابه عبر مواقع التواصل الاجتماعي».
فيما قال خالد الزعفراني، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، إن «مساعي التنظيم للتمدد داخل أفريقيا سوف تتواصل عبر (الذئاب المنفردة)»، مضيفاً أن «ما يقوم به التنظيم في أفريقيا، والعراق وسوريا أخيراً، لإثبات أن لديه قدرة على تحقيق إنجازات، وأنه (عابر للحدود)، وأنه غير مُتأثر بهزائم سوريا والعراق».
وكان أبو محمد العدناني، الناطق الأسبق باسم «داعش» قد دعا في تسجيل صوتي عام 2014 المتعاطفين مع التنظيم، إلى القتل باستخدام أي سلاح متاح، حتى سكين المطبخ من دون العودة إلى قيادة «داعش»... ومن بعده دعا البغدادي إلى «استهداف المواطنين». وتوعد التنظيم عبر مؤسسة الإعلامية «دابق» بحرب تحت عنوان «الذئاب المنفردة».
في ذات السياق، لفت أحمد بان، إلى أن «التنظيم يسعى لاكتشاف أي ثغرة لإثبات الوجود أو تجنيد عناصر جُدد، خاصة وأن هناك عناصر (متشوقة للإرهاب)، وعندما يُنفذ (داعش) أي عمليات إرهابية، تبحث هذه العناصر عن التنظيم، نتيجة الانبهار».
من جانبه، قال الخبير الأمني اللواء فاروق المقرحي، مساعد وزير الداخلية المصري الأسبق، إن «تنظيمات الإرهاب خاصة (داعش) و(القاعدة) لن تتوانى عن سياسة التجنيد، ومن هنا تنبع فكرة الاعتماد على (الذئاب المنفردة) أو (العائدين) بشكل كبير».
وبينما رجح زغلول «حدوث بعض التغيرات داخل (داعش) عام 2020». قال اللواء المقرحي: «لا أظن عودة (داعش) بفائق قوته في 2020 والتي كان عليها خلال عامي 2014 و2015 نتيجة للحصار المتناهي؛ لكن الخوف من (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، لاستنزاف القوى الكبرى»، لافتاً إلى أن «كثيرا من العناصر (الانفرادية) تتحرك في أوروبا وأميركا بانسيابية داخل الدول، وهذا هو الخطر».


ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.