حسب استفتاء نظمته مؤسسة هامس الأميركية، الأسبوع الماضي، ذكر 74 في المائة من المستفتين أنهم هجروا وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة «تويتر» و«فيسبوك»، ليس بسبب أنها تستهلك الكثير من أوقاتهم، وأنهم لا يجدونها مفيدة، أو خوفا على اختراق خصوصياتهم، وهي الأسباب الشائعة، بل لسبب آخر مختلف تماما: القواعد. إنهم لا يطيقون الأخطاء الفادحة التي ترتكب بحق اللغة الإنجليزية، وخاصة قواعدها. وجاء هذا الاستفتاء بمناسبة تخصيص يوم سنوي سموه «يوم القواعد» وصادف الجمعة الماضي. المفرح في الأمر أن هذه النسبة كانت ضمن «أولاد الألفية»، الذين ما زالوا في طور المراهقة، كما جاءت النسبة عالية أيضا بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم من 18 إلى 34 سنة. ودعا هؤلاء إدارتي «تويتر» و«فيسبوك» إلى غلق حسابات أولئك الذين لا يجيدون قواعد اللغة الإنجليزية. وهي دعوة مشروعة جدًا. فاللغة، أي لغة، لا يمكن أن تكون مفهومة إذا لم توضع الكلمات في أماكنها الصحيحة في الجملة، وأن تجمع مع بعضها البعض في وحدات ذات معنى. ولا يتحقق ذلك إلا عبر القواعد التي تنظم النسق الكلامي.
ماذا ستقول استفتاءاتنا، لو كنا نملك مثل الاستفتاءات، عن شبابنا؟ ماذا في «تويتر» و«فيسبوك» العربيين، بل قل ماذا في الكثير من مواقع الإنترنيت، وقسم من الفضائيات والصحف، وحتى المواقع الثقافية؟ نعتقد أن هناك استباحة كبرى تجري أمام أعيننا لقواعد اللغة العربية الأساسية. ولا نتحدث هنا عن قواعدها المركبة التي صرفت الشباب عنها، بل عن القواعد البسيطة، المتعلقة بالفاعل والمفعول، والجار والمجرور، واستخدام الأسماء والأفعال والصفات في مواقعها الصحيحة، والفواصل والنقاط في مواطن استقراها، بحيث نحصل على تراكيب سليمة، وجمل مفيدة، فلا ينقطع نفسك، ويجف بلعومك، وتدمع عيناك قبل أن تنتهي الجملة، أو أن تستمع في الإعلام المسموع والمرئي إلى أصوات عربية، لكنك لا تعرف إن كانت تنطق بالعربي أو الإنجليزي أو الفرنسي. وبالتالي هي في الحقيقة لا تقول شيئا لتفهمه. وهذه الظاهرة لا تجدها إلا في مجتمعاتنا المحكومة بعقد النقص كما يبدو، إذ لا يمكن تصور وجود مواطن حقيقي لا يحترم لغته، إلا إذا كان مسلوب العقل والروح. نعم، مذبحة حقيقية تجري بحق قواعد اللغة العربية، وبالتالي اللغة نفسها، ونحن صامتون لأننا لا نستطيع أن نفعل شيئا. اللغة العربية، من دون مبالغة كبيرة، تضمحل بسرعة مخيفة لأن هناك اضمحلالا اجتماعيا على أكثر من مستوى.
اللغة، قبل أن تكون قواعد وإشارات وأصوات وألفاظ، هي الواقع العملي للفكر، وهي سلوك إنساني، وظاهرة اجتماعية، وهي الحاملة لمشاعر الناس وأفكارهم ومواقفهم، والوسيطة الوحيدة لتبادل هذه الأفكار والمشاعر والمواقف بين الناس. ولهذا توجد اللغة حيث توجد الجماعة، وهي تتطور وتضمحل حسب الحراك الاجتماعي لمجتمع بعينه. وقد حار العلماء الأوائل، الذين قسموا الظواهر الاجتماعية إلى بناء فوقي، يشمل الأفكار والقوانين والأخلاق والدين، وآخر تحتي، يشمل العلاقات الاقتصادية، أين يضعون اللغة: هل هي ضمن البناء الفوقي أم التحتي، ثم اتفقوا أنها بين بين. أنها واقعنا المادي وتعبيره، وهي أيضا أفكارنا وقوانيننا، وديننا وأخلاقنا، ومقياس تقدمنا الفكري والاجتماعي والاقتصادي، ومقياس تأخره أيضاَ. لا يوجد أي مجتمع مزدهر إلا وازدهرت لغته، المتجسدة في أخلاقه الاجتماعية في البيت والشارع، وفي علاقته بالآخر، وفي كتاباته وأدبه. والعكس صحيحا تماما. انحدارنا اللغوي لا يمكن حصره بانحدارنا التعليمي، فهذا نتيجة وليس سببا، بل إنه مرتبط ارتباطا وثيقا بانحدارنا الاجتماعي والثقافي.
أبناء الألفية الثالثة وقواعد اللغة
أبناء الألفية الثالثة وقواعد اللغة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة