«القاعدة» وإيران.. مسيرة علاقة مشبوهة

بن لادن أراد «السلام» لإيران.. ولم تكن يومًا عدوًا أو هدفًا للظواهري

جنديان مناهضان لتنظيم طالبان يقفان بالقرب من تورا بورا حيث كانت تحتدم المعارك مع طالبان (أ.ف.ب)
جنديان مناهضان لتنظيم طالبان يقفان بالقرب من تورا بورا حيث كانت تحتدم المعارك مع طالبان (أ.ف.ب)
TT

«القاعدة» وإيران.. مسيرة علاقة مشبوهة

جنديان مناهضان لتنظيم طالبان يقفان بالقرب من تورا بورا حيث كانت تحتدم المعارك مع طالبان (أ.ف.ب)
جنديان مناهضان لتنظيم طالبان يقفان بالقرب من تورا بورا حيث كانت تحتدم المعارك مع طالبان (أ.ف.ب)

بديهية مثيرة للسؤال دائما كون «إيران - الداخل» ظلت، وما زالت، الاستثناء الأبرز من عمليات «القاعدة»، ثم تنظيم داعش منذ نشأة الأخير عام 1998 وحتى الآن، بينما تعولمت عملياتهم في كل أنحاء العالم، شرقه وغربه على السواء.
لم يذكر بل يدعُ أسامة بن لادن، زعيم «القاعدة» التاريخي، لعداء إيران وهو من كفّر كل الحكومات العربية والإسلامية، وأطال وصفها بالمرتدة والممتنعة، إذ كانت المملكة العربية السعودية تمثل عدوه الأول، وظل النظام المصري عدو الظواهري الأول، رغم إلحاحه المستمر ودعوته للسلام مع إيران. وحسب تحليل مضمون إحصائي لخطابات الظواهري وكتاباته، حتى فبراير (شباط) عام 2010، تكرّر ذكر مصر في أحاديثه 226 مرة، لتحتل المرتبة الثانية في الأعداء بعد الولايات المتحدة التي تكرر ذكرها 636 مرة، حسب مجموع رسائله وأعماله الذي صدر في هذا التاريخ. وأتى ذكر الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك نحو 144 مرة، محتلا المرتبة الثانية بعد الرئيس جورج بوش الابن الذي تكرر ذكره 170 بينما جاء الرئيس باراك أوباما في المرتبة الثالثة 70 مرة، بعد قادة المملكة العربية السعودية الذين تكرر ذكرهم 83 مرة، وللحكام العرب بالتعميم نحو 66 مرة. ولقد خصّ الظواهري مصر بسلسلته «رسالة الأمل والبشر لأهلنا في مصر» الأجزاء الأربعة الأخيرة من أجزائها الستة بالحديث عن الثورة المصرية على مبارك، هذا بينما جاء ذكر مصر في كتاب «التبرئة» - آخر كتبه وأهمها - 195 مرة بينما ومبارك 41 مرة بينما لم يرد ذكر السعودية إلا مرة واحدة، بينما أتى ذكر الولايات المتحدة 150 مرة («التبرئة» - نشر مؤسسة السحاب للإنتاج الإعلامي سنة 2009)، ووسط كل هذا لم تحضر إيران ولم تكن يوما عدوًا أو هدفا لزعيم «القاعدة» الحالي.

حافظت «القاعدة» دائمًا على إعلان هدنتها مع نظام الثورة الإسلامية الإيرانية، وهي التي لم تكن تكفّ عن توظيف كل حادث وحديث، رغم نشأة «جهاديات» سنية داخل إيران تجابه حكومة الولي الفقيه وتعلن جهادها، شأن «جيش العدل» البلوشي وغيره، إلا أن «القاعدة» كانت تنأى دائمًا عن ذكره أو الإشارة إليه، فضلاً عن دعمه أو ذكره. بل وجه الظواهري رسالة حادة لـ«أبو مصعب الزرقاوي» في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2005، مطالبًا إياه وجماعته بالكف عن إثارة إيران، عبر استهداف الشيعة في العراق، الذي كان أولوية الأخير وجماعته سلف تنظيم «داعش» ومرجعها الأول - في ركوب الاحتقان الطائفي وتأجيج أواره وتوظيفه من أجل حواضن سنية لقيام «دولته» وإمارته الدينية، وليس لـ«عولمة الجهاد» وعملياته، استنزافًا وإضعافًا يتدرّج نحو هدفه الذي اصطاده «الزرقاوي»، ثم اصطاده «داعش» من بعده وأحيى «دولته» التي سقطت عام 2007 في العراق ممتدة للعراق والشام. وكانت البراءة المتبادلة مع «القاعدة» في 12 مايو (أيار) عام 2014 التي أعلنها «أبو محمد العدناني» أساسها ولاء «القاعدة» لإيران وهدنتها معها.
ظل السباب المتداول - ولا يزال - من عناصر «داعش» لقيادات «القاعدة» أن الأخيرين هم «أبناء الرافضة» وأنهم «أبناء إيران» ومتحالفون معها.. هكذا خاطب تركي البنعلي شيخه السابق هاني السباعي في رده عليه، كما خاطبوا شيوخهم السابقين في الجماعات المتشددة كذلك ممن انتقدوهم شأن أبي قتادة والمقدسي.

* الظواهري وتنظير مبكّر للعلاقة
يمكن رصد بداية علاقة غامضة بين طهران و«القاعدة» عامي 1992 - 1993، من خلال اجتماعات ضمت مسؤولين في «القاعدة» وضباطًا في الحرس الثوري الإيراني، تم الاتفاق خلالها على تدريب بعض عناصر التنظيم.
لكن هذه المعلومات أضعفتها في حينها مقابلة أجراها أيمن الظواهري مع نشرة «الأنصار» في عددها الحادي والتسعين (عام 1994)، ألح فيها على نفي هذه العلاقة، التي يراها «من باب الافتراء المحض.. لنا موقف واضح من إيران، وهو الموقف الذي يبنى على الحقائق العقائدية والعلمية»، نافيًا أي تحالف مع الحكومة الإيرانية. ومن ثم أورد في سبيل ذلك عددًا من الأمثلة، منها: مساندتها الحكومة السورية أثناء حربها على الإخوان المسلمين أوائل الثمانينات، ومساندتها الأحزاب الشيعية فقط أثناء فترة الجهاد الأفغاني، وعدم إدانة ترحيل باكستان «المجاهدين العرب» من أراضيها، وعدم تقديمها أية مساعدة للحركات الجهادية في مصر أو الجزائر.
ويتكئ الظواهري في حواره هذا على مبدأ تبادل المصلحة وليس الموقف العقدي والمذهبي، الذي يجري استدعاؤه فقط في مضمار التجنيد والتعبئة في بعض المناطق كالعراق أو سوريا الآن، ولكن ليس في مجال العلاقة بين تنظيم يؤمن بـ«عولمة الجهاد»، ونظام يؤمن بـ«تصدير الثورة الإسلامية». ويتطابق تصور العدو لدى كل منهما كما تتقارب مرجعيًا كثير من مقولاتهم وشعاراتهم ودعوى هؤلاء المقاومة الإسلامية العالمية أو دعوة هؤلاء أنهم محور المقاومة والممانعة للعدو نفسه (!) وهو الكامن المدرك الذي لا يتم إعلانه رغم الإيمان به.
من هذا المنطلق كان الظواهري شديدًا في انتقاده لـ«أبو مصعب الزرقاوي» في أكتوبر 2005 حين قال للأخير إن «الصدام مع الإيرانيين يرفع العبء عن الأميركيين»، ويضر بالمصالح المتبادلة، ولا سيما أن إيران تؤوي نحو مائة من عناصر «القاعدة» على أراضيها، ولقد طرح الظواهري في رسالته تلك على «الزرقاوي» السؤال الآتي: «هل تناسى الإخوة أن كلاً منا في حاجة إلى أن يكف أذاه عن الآخر في هذا الوقت الذي يستهدفنا فيه الأميركيون؟»، وهو ما كرّره بن لادن في «وثائق أبوت آباد»، كما كشف فيما بعد ويكشف تباعًا من قبل المخابرات الأميركية، مما يعني أنه ليس موقف الظواهري وحده، كما ظن «داعش»، واتهم، بل هو حقًا موقف «القاعدة» وزعيمها بالأساس.
* إيران وصعود «الزرقاوي»
تؤكد ترجمة وشهادة سيف العدل، الذي ما زال مقيمًا في إيران، عن «الزرقاوي» بعد وفاة الأخير علاقة طهران وتوظيفها لـ«القاعدة» و«الجهادية المعولمة». فهي قد أوت «الزرقاوي» لمدة سنة والتجأ لملاذها الأمن بعد خروجه من معسكر هرات (شمال غربي أفغانستان). فقد ذكر سيف العدل في شهادته التي كتبها عام 2005 عن «الزرقاوي» بناء على طلب موقع حركي متشدد عن الدور إيران الداعم لعناصر «القاعدة» ما يلي: «طريق الإخوة الآمن كان قد أصبح من طريق إيران، بعد أن بدأت السلطات الباكستانية بالتشديد علينا وعلى حركتنا».
كذلك يقول سيف العدل في الشهادة نفسها: «بدأنا بالتوافد تباعًا إلى إيران، وكان الإخوة في جزيرة العرب والكويت والإمارات، من الذين كانوا خارج أفغانستان قد سبقونا إلى هناك، وكان بحوزتهم مبالغ جيدة ووفيرة من المال، شكلنا حلقة قيادة مركزية وحلقات فرعية، وبدأنا باستئجار الشقق لإسكان الإخوة وبعض عائلاتهم».
أما أخطر ما تكشفه شهادة سيف العدل هذه فهي تأكيده على وجود دور إيراني رئيس وداعم في نشوء وصعود «الظاهرة الزرقاوية» منذ بدايتها، في معسكر مدينة هرات خلال منتصف التسعينات. الجدير بالذكر أن هرات هي أقرب مدينة أفغانية إلى الحدود الإيرانية، وكانت استراتيجية سيف العدل حينئذ تتمثل بحسب تعبيره في «إنشاء محطتين في طهران ومشهد في إيران من أجل تسهيل عملية عبور الإخوة دخولاً وخروجًا، من وإلى أفغانستان، وكان الهدف من وراء هذا الطرح كله، هو التواصل مع منطقة مهمة من مناطق العالم العربي والإسلامي».
وقد تقوم حكومة النظام الإيراني ببعض الاستجابات الطفيفة للضغوط الدولية عليها بإعلان اعتقال أو تسليم معتقل منتسب لـ«القاعدة» إلى بلده، أو التأكيد على وجود منتسبين لـ«القاعدة» لديها، من دون أن تعطي أحدًا سلطة تسلمهم أو أن تقدم التزامًا بتسليمهم، فضلاً عن المساعدات التي تقدم لفرع «القاعدة» في اليمن، الذي تحول إلى تنظيم «القاعدة في الجزيرة العربية»، بحسب ما صرح به محمد العوفي القائد الميداني لتنظيم «القاعدة» في جزيرة العرب، بعد فراره من اليمن وتسليمه نفسه للسلطات السعودية في 27 مارس عام 2009، إذ قال إن ثمة تنسيقًا بين «القاعدة» والجماعات الحوثية، وتبادل مصالح وخدمات، وتضغط إيران أحيانًا بتسليم بعض العناصر القاعدية لديها، وذكرت أخبار أنه قد كان لها دور في إسقاط بن لادن عبر تتبع إحدى زوجاته، ولكنه توظيف لا ينفي إمكانية التلاقي والتعاون والبناء المشترك.
* «سلام إيران» وصية بن لادن
فمن بين مائة وست وسبعين صفحة ضمتها «وثائق أبوت آباد» التي تركها مؤسس «القاعدة» وزعيمها الراحل أسامة بن لادن وتم كشفها مباشرة بعد وفاته في (مايو 2011) لم يأت ذكر للعداء لإيران أو الدعوة لاستهدافها، بينما كانت الدعوة المستمرة والمكرورة منها لـ«الجهاد في جزيرة العرب»، وتحديدًا ضد المملكة العربية السعودية التي مثلت العدو الأول في تصوره، وكان أول تنظيم فرعي سارع لتأسيسه ودفعه بقوة للقيام بعملياته فيها هو «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» الذي أسسه سنة 2003 بقيادة يوسف العييري حينئذ.
بل كانت وصية بن لادن الدائمة لقيادات «القاعدة»، كما كشفت المواد الأخرى المخزنة التي يكشف عنها تباعًا بعدم استهداف إيران وعدم فتح جبهة معها، وعدم إعلان ذلك حال اختار القادة الفرعيون ذلك.
نجد بين رسائل وخطابات بن لادن المخطوطة المتناثرة هذه الوصايا واضحة وصريحة على الاستثناء الإيراني، فيقول في رسالة لأحد قيادات «القاعدة» موجهة لشخص يدعى «توفيق»، تحدث في ورقته عن مجريات لقائه بأحد الأشخاص من طهران قائلاً: «الإيرانيون مهتمون لعمل ارتباط مع أحد من طرف العمدة (كلمة مشفرة كناية عن زعيم تنظيم القاعدة)، وذلك ليس فقط لوضع المرضى وإنما يهمهم بالدرجة الأولى الوضع في العراق، حيث إنهم يعتقدون أن الإخوة هناك، وبالذات الأزرق (المرجح المقصود أبو مصعب الزرقاوي) ومجموعته لهم دخل في الاعتداءات على الأماكن والعتبات المقدسة لدى الشيعة».
وأضاف صاحب الرسالة: «لذا يرغبون إما بمقابلة مندوب من طرف العمدة لمناقشة هذا الأمر والاستيضاح حوله وإمكانية التعاون، إذ إنهم - على حسب تقدير الأخ الوسيط - يرغبون بتقديم نوع من الدعم والمساعدة إذا تم تسوية بعض النقاط وهم يرغبون على الأقل بالحصول على رسالة بتوضيح العمدة، يؤكد فيها أن الأماكن المقدسة لدى الشيعة ليست مستهدفة من قبل الإخوة، وأنها ليست ضمن الأهداف المراد ضربها».
وفي رسالة أخرى يبدو بن لادن مستنكرًا الهجوم والتهديد لإيران، فيقول في رسالة موجهة إلى شخص يُدعى الشيخ كارم: «لا أدري لماذا أعلنتم التهديد على إيران؟ وإن رأيي مخالف للتهديد.. وأناقش مسألة إعلانه، وإنه سياسيًا يُعدّ خسارة لكم». وبرر بن لادن اعتراضه على تهديد إيران، قائلاً: «إيران هي الممر الرئيسي لنا بالنسبة إلى الأموال والأفراد والمراسلات، وكذلك مسألة الأسر».
وهكذا يوضح بن لادن المصلحة مع إيران ويؤكد عليها، وكيف وفرت الملاذات الآمنة للتنظيم وأسره بعد حرب أفغانستان عام 2001 وأنه لا داعي مطلقًا لفتح جبهة معها قائلا: «لا داعي لفتح جبهة مع إيران، إلا إذا كنتم مضطرين لفتحها، لتعاظم أذاها، وإلا إذا كنتم أيضًا قادرين على إلحاق الأذى بها. فالرأي عندي تأجيل فتح الجبهة معها، والانصراف كليًا لتثبيت دعائم الدولة، والقتال ضد الصليبيين والمرتدين».
وهكذا التقى الظواهري مع سلفه بن لادن على عدم استهداف إيران، وظلت إيران تؤمن باستيعابهم والتعاون والتواصل مع قادتهم، وتم تداول أخبار كثيرة عن معسكرات تدريب بالقرب من طهران، وتأكد كونها الملاذ الأمن، وتأكد كذلك الاستثناء الإيراني من عمليات «القاعدة» دون كل العالم العربي والإسلامي.



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.