أحلام الطبقة الوسطى في البرازيل تتحطم على صخور «الاقتصاد» و«زيكا»

6 ملايين مواطن انحدروا إلى الفقر منذ عام 2014

«زيكا» يشكل اكبر تهديد للاقتصاد البرازيلي
«زيكا» يشكل اكبر تهديد للاقتصاد البرازيلي
TT

أحلام الطبقة الوسطى في البرازيل تتحطم على صخور «الاقتصاد» و«زيكا»

«زيكا» يشكل اكبر تهديد للاقتصاد البرازيلي
«زيكا» يشكل اكبر تهديد للاقتصاد البرازيلي

كانوا يعبرون عن نسخة جديدة ومعبرة من الحلم الأميركي بالنكهة البرازيلية، من حيث شراء السيارة، والذهاب إلى الكنيسة، وتكوين الأسرة. ومن بين الملايين الآخرين، تمكنوا من الصعود إلى الطبقة المتوسطة المتنامية في البلاد. حتى إنهم انتقلوا للحياة في حي كاليفورنيا، وهو حي يضم المكافحين من أبناء الطبقة الوسطى الذين تمكنوا من مغادرة المدينة الكبيرة والفقيرة المجاورة.
تقول جيرمانا سواريز (24 عاما): «لقد كانت تلك اللحظة السحرية التي بدا فيها كل شيء ممكنًا». ثم، وفي الشهر السادس من حمل السيدة سواريز، اكتشف الزوجان مدى السرعة التي يمكن أن تتغير بها حظوظهما، مثالاً بغيرهم من أبناء وطنهم، حيث أظهر أحد الفحوصات أن وزن ابنهم أقل مما ينبغي من الوزن الطبيعي. وأعرب الأطباء عن قلقهم من أنه، مثل المئات من الأطفال المولودين في البرازيل خلال الشهور الأخيرة، مصاب بداء صغر الرأس، وهي حالة مرضية مستعصية يولد فيها الأطفال برؤوس صغير بشكل غير طبيعي.
أمطر الأطباء الأم بالكثير من الأسئلة حول فيروس زيكا، التي قد أصيبت به في الفترات الأولى من حملها. وسرعان ما أصيب الزوج غليشيون أموريم (27 عاما) بقلق شديد. تجلدت السيدة سواريز بشجاعة واتجهت إلى الصلاة، في محاولة للحفاظ على تماسكها أمام زوجها.
أما الصدمة الأخرى، فكانت طرد السيد أموريم من عمله إلى جانب المئات الآخرين، حيث كان يعمل لحاما ويحاول ركوب موجة البرازيل المتصاعدة نحو أن تكون من أكبر منتجي النفط على مستوى العالم. فلقد كان حوض بناء السفن، حيث كان يعمل في بناء ناقلات النفط العملاقة، يشهد اهتزازات قوية إثر الفضيحة الكبرى التي ضربت قطاع الصناعة النفطية في البرازيل.
وفي غضون أسابيع، تغير الشكل الكامل لحياة الزوجين تماما. إذ انتقلت كل التيارات المتقاطعة التي تهاجم البرازيل حاليا - من الفساد، وأسوأ أزمة اقتصادية تضرب البلاد منذ عقود، وسقوط الملايين من أبناء الطبقة المتوسطة في هوة الفقر، ووباء زيكا، إلى جانب موجة من حالات مرض صغر الرأس التي تنتشر في شمال شرقي البلاد - إلى عتبة منزلهم الصغير الذي يتكون من غرفتي نوم إلى جانب سيارة طراز «شيفروليه» صغيرة أمام الباب. تقول السيدة سواريز: «ظننت أنه من الرائع أن نشاهد ولاية هاواي. لقد أصبحت جميع تلك الخطط الكبيرة وراء ظهورنا الآن. وأهم أولوياتي الآن هي رعاية ابني رعاية خاصة»، في إشارة إلى قائمة من الأحلام التي كان الزوجان يحلمان بتحقيقها حتى وقت قريب.
يلقي نضال هذين الزوجين بنظرة سريعة على الآلاف من العائلات البرازيلية التي تواجه في الوقت الراهن احتمال تربية ابن معاق في بيئة فقيرة في أعقاب تفشي وباء زيكا.
ولا يستطيع الباحثون في الوقت الحالي أن يذكروا على وجه اليقين ما إذا كان فيروس زيكا يسبب مرض صغر الرأس لدى الأطفال، ولكن ما لا يقل عن 641 رضيعًا في البرازيل مولودين بتلك الحالة المرضية منذ أكتوبر (تشرين الأول) الماضي - وهي زيادة حادة مسجلة من قبل الأطباء خلال الشهور الأخيرة - كما تحقق السلطات حاليًا في 4222 حالة أخرى، وتوجد إلى حد كبير في المناطق الفقيرة بشمال شرقي البلاد.
ظنت السيدة سواريز وزوجها أموريم أنهما قد هربا أخيرا من صعوبات الحياة في مدينة ريسيفي الفقيرة القريبة، عندما تمكنا من الانتقال للحياة في حي كاليفورنيا عند بداية العقد الحالي. كانت تلك هي سنوات الطفرة الاقتصادية في حياتهما، عندما انطلق عشرات الآلاف من العمال نحو ميناء سوابي، وهي من المواقع الصناعية مترامية الأطراف والمشيد للمساعدة في دفع البرازيل إلى مصاف الدول المنتجة للنفط في العالم.
كانت الاكتشافات النفطية الضخمة في أعماق البحار إلى جانب المشاريع الزراعية الجديدة على حافة غابات الأمازون المطيرة قد قفزت بالبرازيل إلى المسرح العالمي، ومكنتها من تلبية الاحتياجات الصينية المتزايدة من مختلف السلع. ولقد عمل المسؤولون البرازيليون عل تشييد القنوات الخرسانية في المناطق الخلفية المنكوبة بالجفاف، والسكك الحديدية التي تخترق المناطق النائية البعيدة، والملاعب الرياضية الفخمة من أجل بطولة كأس العالم المرتقبة.
كان الطلب المحلي على العمال قويًا لدرجة أن أرباب الأعمال للسيد أموريم عرضوا عليه منزلاً من غرفتي نوم، وهو أحد المنازل التي يبلغ عددها 800 منزل متماثل بشكل تقريبي في المدينة السكنية التابعة للشركة. يقول الدو امارال (44 عامًا) وهو رئيس نقابة العمال التي تمثل العمال في مجمع الميناء الصناعي: «في نقطة ما، كان هناك ما يقرب من ألف حافلة يومية تنقل العمال إلى الميناء. كانت طفرة اقتصادية هائلة توقعنا أن تستمر لعقود».
ولقد تبنت السيدة سواريز وزوجها أموريم تلك الطفرة بكل عنفوانها. عندما ارتفعت قيمة العملة البرازيلية، وصل دخلهما السنوي سويا إلى ما يقرب من 4 آلاف دولار. وابتاعا شاشة تلفزيون كبيرة في غرفة المعيشة الخاصة بهما، وانضما إلى الجماعة المسيحية الإنجيلية في المدينة، واستأجرا مصورًا فوتوغرافيًا في حفل زفافهما، وسافرا بالدراجات البخارية إلى الشواطئ الرائعة، حتى إنهما سافرا بالطائرة لقضاء الإجازة في فرناندو دي نورونا، وهو أرخبيل من الجزر البرازيلية على المحيط الأطلسي الذي لم يشاهده على مستوى العالم إلا عدد قليل للغاية من الناس.
تقول السيدة سواريز: «كان لدينا تأمين صحي يمكننا من العلاج في المستشفيات الخاصة، ولقد كان الوقت مثاليًا لنا للتفكير في الإنجاب»، في إشارة إلى حزنها للاعتماد على الخدمات الصحية العامة في البرازيل في الوقت الحالي، التي غالبًا ما تتميز بأقاصيص مرعبة عن إهمال الأطباء ونقص الأسرة الذي يدفع بالمرضى للنوم في الممرات.
ومن شدة فرحة السيدة سواريز بحملها الجديد نظمت احتفالية عائلية للكشف عن نوع المولود، وأعلنت فيها إلى الأصدقاء والأقارب أنها وزوجها ينتظران مولودًا ذكرًا. ولقد حاولا الاحتفاظ بالأمل حتى بعد كلام الأطباء عن إمكانية أن يكون الطفل الجديد مصابًا بداء صغر الرأس. وفكر الزوجان في افتتاح متجر لبيع ملابس الأطفال بأموال الإعانة المتواضعة التي تلقاها السيد اموريم بعد فقدانه لوظيفته في حوض بناء السفن.
ثم، وفي يوم 27 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي كان ميلاد الطفل غويلهيرم. وفي أول الأمر، قال الأطباء إن الطفل يبدو على ما يرام. ولقد أثارت تلك الأنباء حالة من الفرح بين الأقارب في غرفة الانتظار بالمستشفى، وتبع ذلك عناق حار ورقصات ارتجالية من الجميع في ردهة المستشفى.
غير أن إحدى الممرضات جاءت بأخبار جديدة. كان هناك شيء غير طبيعي عندما وزنوا رأس المولود الجديد. حيث كان محيط الرأس يبلغ 32 سنتيمترًا، وهو إشارة إلى الإصابة بمرض صغر الرأس في ذلك الوقت. ومن ثم سرت حالة من الصمت في جنبات الغرفة حيث تبادل الأقارب الهمسات باسم المرض وشرع بعضهم إلى البحث عنه على محركات البحث بهواتفهم الذكية.
يقول السيد اموريم: «سمعت رقم 32 سنتيمترًا ثم شرعت في البكاء».
أبقى الأطباء السيدة سواريز برفقة طفلها غويلهيرم داخل المستشفى لمدة أسبوع أثناء إجراء المزيد من الفحوصات. وأكدت الأشعة التي أجريت أن مخ الطفل غويلهيرم يعاني من تلف يرتبك بداء صغر الرأس.
وأدت تلك الصدمة بالزوجين إلى إعادة التفكير في كل شيء يتعلق بحياتهما معا. كانت السيدة سواريز سعيدة للغاية بعد علمها بخبر حملها حتى إنها تخلت عن وظيفتها كوسيط عقاري لتكرس وقتها وجهدها لتربية وتنشئة الطفل الجديد استعانة براتب زوجها. ولكن بعد فقدان الزوج لوظيفته، وجد الزوجان أنفسهما في خضم دوامة الأزمة الاقتصادية البرازيلية. إذ انتقل أكثر من 6 ملايين مواطن برازيلي من الطبقة المتوسطة إلى الطبقة الفقيرة منذ عام 2014، وفقًا لخبراء الاقتصاد في بنك براديسكو أحد أكبر بنوك البرازيل.
وبدلاً من افتتاح متجر الملابس، كما فكروا من قبل، استثمر السيد اموريم أمواله المتبقية في مشروع يمكنه تحمل نفقاته، ألا وهو العربة الرملية. وفي كل يوم يقود عربته الرملية إلى بورتو دي غاليناس، وهي منطقة من المنتجعات السياحية القريبة حيث يجتذب المصطافين لركوب عربته في جولات على الشاطئ. وفي الشهر الجيد، يجني ما يقرب من 625 دولارًا. ويقول إن عائلته سوف تكون أكثر حظًا إذا ما تمكنوا من اكتساب 7 آلاف دولار في العام.
ويضيف السيد أموريم قائلا «على الاحتفاظ بابتسامتي على وجهي وأن أكون ودودًا، على الرغم من كل الأفكار التي تدور في رأسي. إنني الوحيد الذي يكتسب الأموال في عائلتي الصغيرة الآن، وإطعام أسرتي يوميًا هي مسؤوليتي الوحيدة في كل يوم».
تقول السيدة سواريز إنها بدأت تدرك أنها لن تتمكن من الاحتفاظ بعمل منتظم بعد الآن، بالنظر إلى الوقت المطلوب للاعتناء بالكثير من الأطفال المصابين بداء صغر الرأس، والذين يعانون في أغلب الأحيان من مشكلات أخرى مثل صعوبات في الكلام، أو فقدان حاسة السمع، أو التأخر في الاستيعاب والتعلم. وتقول إن ولديها غويلهيرم قد بدأ بالفعل في المعاناة من تقلصات في العضلات، التي يقول الأطباء إنها مؤشر على المزيد من التشنجات اللاحقة في حياته المقبلة.
وتقول الأم عن ذلك: «إنه يبكي بشدة ويحتاج للمزيد من الحب والرعاية لدرجة تمنعني من محاولة التفكير في تركه برفقة أحد غيري. اعتدت النظر إلى نفسي كامرأة مستقلة. ولكن تلك المرحلة من حياتي قد ولت. ولا أستطيع العودة إلى العمل مرة أخرى».
تغادر السيدة سواريز منزلها مرتين كل أسبوع لموافاة مواعيد الأطباء في مدينة ريسيفي، حيث تستيقظ هي وطفلها غويلهيرم في الخامسة صباحًا لركوب الحافلة التي توفرها البلدية لنقل المرضى. ولا يمكنهم في تلك الظروف قيادة سيارتهم، إذ إن كل رحلة حتى ريسيفي تستهلك ما يقرب من 25 دولارا من الوقود، وهي تكلفة تفوق طاقتهم على التحمل بكثير.
ومن المؤسف أن انتقالهم للحياة في حي كاليفورنيا، الذي بدا في أول الأمر بمثابة الإعلان عن طموحاتهم من أجل الاستقلال المادي، تحول إلى قطعة من العذاب والانعزالية اليومية. وفي حين أن زوجها يجوب الشواطئ بحثًا عن الزبائن لعربته الرملية، يقوم أحد أقارب الأسرة من ريسيفي بزيارة منزل العائلة للاطمئنان على الأم ووليدها المريض. ولأن الأقارب لهم أعمالهم وحياتهم الخاصة، فهي تقضي معظم وقتها وحيدة برفقة طفلها في المنزل. وفي مساء أحد أيام السبت أخيرًا، كانت شاشة التلفاز الخاصة بهم تنقل بثًا حيًا لرياضة التزلج في ريو دي جانيرو تلك التي تضم المنافسين من مختلف أنحاء البرازيل.
وتقول السيدة سواريز: «لا أدري إذا ما كان مقدرًا لطفلي أن يتمكن من ممارسة مثل تلك الرياضات أبدًا».
وتحاول السيدة سواريز المحافظة على مظهر من مظاهر الحياة الطبيعية. حيث تزين الصور الكرتونية اللطيفة مختلف جدران غرفة وليدها تحت اسم «سفاري غويلهيرم». وهناك ستارة ضد الناموس تغلف سرير الطفل الصغير، في إشارة إلى وعي الأبوين الجديد بالفيروسات مثل زيكا، وحمى الضنك، وشيكونغونيا.
ومع هذا العدد الكبير من الأمهات اللاتي ولدن أطفالاً مصابين بداء صغر الرأس، تبقى السيدة سواريز على علم مستمر بتلك الحالة المرضية عبر خدمة «واتساب»، والرسائل النصية عبر الإنترنت والمنتشرة في مختلف أنحاء البرازيل. حيث يعملون على تبادل آخر المعلومات حول فيروس زيكا، ومعلومات عن داء صغر الرأس، والتقارير الإخبارية بالإعانات المتوفرة من السلطات بقيمة 220 دولارًا في الشهر لصالح الأسر الفقيرة ذات الأطفال المصابين بهذا الداء، إلى درجة النكات والمزاح المرح الذي يلطف قليلاً من صعوبات الحياة.
بدأت إحدى الأمهات من السلفادور، التي تبعد 420 ميلاً عن مدينة ريسيفي، في قرض أبيات الشعر حول مرض صغر الرأس وتقوم بنشرها في مجموعة الأمهات عبر خدمة «واتساب». وإحدى كتاباتها تقول: «ليس ذلك الداء هو النهاية»، تلك التي وجدت ترحابًا كبيرًا لدى السيدة سواريز حتى إنها تردد تلك العبارات كلما شاعت أجواء الحزن داخل منزلها:
«أتعلمون ما هو الإجحاف؟
إنه شيء لا يؤثر فينا.
لأننا ما زلنا هنا.
نحارب من أجل أطفالنا».
ويقول السيد اموريم إنه منشغل للغاية محاولاً تلبية نفقات الأسرة والتغلب على صعوبات الحياة. وعندما يعود إلى منزله بعد العمل، يتصفح الإنترنت بحثًا عن وظائف لعمال اللحام، ويفكر إذا كان من المنطق أن يتقدم لشغل الوظائف في دولة موزمبيق، الدولة البعيدة التي تتحدث اللغة البرتغالية في جنوب أفريقيا.
وعلى الرغم من نتائج عشرات الفحوصات الطبية، يقول الأب إنه لا يزال يحدوه الأمل في ألا يكون ولده مصابا بداء صغر الرأس، مشيرا إلى أن قياسات رأس المولود تقع عند الحد الأعلى من الحالة المرضية. ويضيف قائلا: «لا أقول إنني لا أقبل ذلك، ولكن في عقلي الباطن، أشعر أن ولدي طبيعي جدًا».
وفي أثناء محاولات التكيف مع التحديات وتكاليف تنشئة المولود الجديد، يحاول الوالدان في نفس الوقت الحيلولة دون الانهيار التام. حيث تحاول الميناء استرجاع المنزل بحجة أن السيد اموريم لم يعد موظفًا لدى الشركة لكي يحظى بالملكية الكاملة للعقار. ولقد انضم الزوجان إلى عشرات العائلات الأخرى في رفع قضية يطالبون من خلالها أن تسمح القوانين العقارية في البرازيل لهم بالبقاء في منازلهم.
وبدأت المنازل التي يعيشون فيها في منطقة ايبوجوكا والمناطق المحيطة بها، والمشيدة قبل عشر سنوات أو نحوها، في إظهار علامات التشقق والتصدع.
ولقد شرعت بعض الأسر في حي كاليفورنيا في إقامة جدران عالية حول المنازل للحيلولة دون السرقات والاختراقات. فهناك سائقو الدراجات البخارية الذين يجوبون الشوارع في مختلف الأوقات تحت الشمس الاستوائية الحارقة. وتشير طلاءات الجدران في بعض البيوت إلى السخرية من التطلعات الاقتصادية لسكان الحي.
ومن خلال شرفة منزلهم، يمكن للسيدة سواريز وزوجها اموريم إلقاء نظرة على مصابيح مصفاة النفط في ميناء سوابي البعيدة التي تكلفت ما يقرب من 20 مليار دولار لبنائها، وهو ما يفوق التقديرات الأصلية بثماني مرات. وعلى غرار الكثير من المشروعات الطموحة الأخرى التي بدأت في البرازيل خلال الطفرة الاقتصادية السابقة، لم يكتمل العمل في المصفاة قط.
ويناضل حوض بناء السفن المجاور، الذي كان يعمل فيه السيد اموريم، من أجل درء الانهيار حيث يتصارع ملاك الحوض مع مختلف فضائح الفساد إثر انهيار الصناعة النفطية في البرازيل.
يقول السيد اموريم أخيرا، وهو يهدهد طفله الوليد: «يبدو الأمر وكأننا قد تقطعت بنا السبل إلى هنا. لم أكن أحلم بأن هذه هي الحياة التي أريد لطفلي أن يحياها».
* خدمة «نيويورك تايمز»



هل تؤدي العقوبات وأسعار الفائدة الروسية إلى موجة شاملة من الإفلاسات؟

الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
TT

هل تؤدي العقوبات وأسعار الفائدة الروسية إلى موجة شاملة من الإفلاسات؟

الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)

في ظلّ الضغوط المتزايدة التي فرضتها العقوبات الغربية وارتفاع أسعار الفائدة بشكل مذهل، تتزايد المخاوف في الأوساط الاقتصادية الروسية من احتمال حدوث موجة من الإفلاسات التي قد تهدّد استقرار الكثير من الشركات، لا سيما في ظل استمرار الرئيس فلاديمير بوتين في التمسّك بحربه في أوكرانيا.

وفي كلمته خلال مؤتمر الاستثمار الذي نظمته مجموعة «في تي بي» هذا الشهر، لم يفوّت بوتين الفرصة للتفاخر بما عدّه فشل العقوبات الغربية في إضعاف الاقتصاد الروسي، فقد صرّح قائلاً: «كانت المهمة تهدف إلى توجيه ضربة استراتيجية إلى روسيا، لإضعاف صناعتنا وقطاعنا المالي والخدماتي». وأضاف أن النمو المتوقع للاقتصاد الروسي سيصل إلى نحو 4 في المائة هذا العام، قائلاً إن «هذه الخطط انهارت، ونحن متفوقون على الكثير من الاقتصادات الأوروبية في هذا الجانب»، وفق صحيفة «واشنطن بوست».

وعلى الرغم من التصفيق المهذّب الذي قُوبل به الرئيس الروسي، فإن التوترات بدأت تظهر بين النخبة الاقتصادية الروسية بشأن التأثيرات السلبية المتزايدة للعقوبات على الاقتصاد الوطني. فقد حذّر عدد متزايد من المسؤولين التنفيذيين في الشركات الكبرى من أن رفع البنك المركزي أسعار الفائدة لمكافحة التضخم -الذي تفاقم بسبب العقوبات والنفقات العسكرية لبوتين- قد يهدد استقرار الاقتصاد في العام المقبل. وقد تتسبّب هذه السياسة في تسارع موجات الإفلاس، لا سيما في القطاعات الاستراتيجية الحساسة مثل الصناعة العسكرية، حيث من المتوقع أن يشهد إنتاج الأسلحة الذي يغذّي الحرب في أوكرانيا تباطؤاً ملحوظاً.

حتى الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترمب، أشار في منشور على شبكته الاجتماعية «تروث سوشيال» إلى أن روسيا أصبحت «ضعيفة جزئياً بسبب اقتصادها المتداعي».

تحذيرات من الإفلاس

ومع تزايد توقعات أن «المركزي الروسي» سيضطر إلى رفع الفائدة مرة أخرى هذا الشهر، انضم بعض الأعضاء المعتدلين في الدائرة الداخلية لبوتين إلى الانتقادات غير المسبوقة للسياسات الاقتصادية التي أبقت على سعر الفائدة الرئيس عند 21 في المائة، في وقت يستمر فيه التضخم السنوي في الارتفاع ليصل إلى أكثر من 9 في المائة. وهذا يشير إلى احتمالية حدوث «ركود تضخمي» طويل الأمد أو حتى ركود اقتصادي في العام المقبل. وبالفعل، يتوقع البنك المركزي أن ينخفض النمو الاقتصادي بشكل حاد إلى ما بين 0.5 في المائة و1.5 في المائة في العام المقبل.

كما تسبّبت العقوبات الأميركية الجديدة التي شملت فرض عقوبات على 50 بنكاً روسياً، بما في ذلك «غازبروم بنك»، وهو قناة رئيسة لمدفوعات الطاقة، في زيادة تكاليف المعاملات بين المستوردين والمصدرين الروس. وقد أسهم ذلك في انخفاض قيمة الروبل إلى أدنى مستوى له مقابل الدولار منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022. وقد أدى هذا الانخفاض في قيمة الروبل إلى زيادة التضخم، حيث ارتفعت الأسعار بنسبة 0.5 في المائة بين 26 نوفمبر (تشرين الثاني) و2 ديسمبر (كانون الأول)، وفقاً للبيانات الرسمية.

وفي هذا السياق، حذّر رئيس هيئة الرقابة المالية الروسية، نجل أحد أقرب حلفاء بوتين، بوريس كوفالتشوك، من أن رفع أسعار الفائدة «يحد من إمكانات الاستثمار في الأعمال، ويؤدي إلى زيادة الإنفاق في الموازنة الفيدرالية». كما انتقد الرئيس التنفيذي لشركة «روسنفت» الروسية، إيغور سيتشين، البنك المركزي بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، مؤكداً أن ذلك أسهم في زيادة تكاليف التمويل للشركات وتأثر أرباحها سلباً.

وفي تصريح أكثر حدّة، حذّر رئيس شركة «روس أوبورون إكسبورت» المتخصصة في صناعة الأسلحة، سيرغي تشيميزوف، من أن استمرار أسعار الفائدة المرتفعة قد يؤدي إلى إفلاس معظم الشركات الروسية، بما في ذلك قطاع الأسلحة، مما قد يضطر روسيا إلى الحد من صادراتها العسكرية.

كما شدّد قطب صناعة الصلب الذي يملك شركة «سيفيرستال»، أليكسي مورداشوف، على أن «من الأفضل للشركات أن تتوقف عن التوسع، بل تقلّص أنشطتها وتضع الأموال في الودائع بدلاً من المخاطرة بالإدارة التجارية في ظل هذه الظروف الصعبة».

وحذّر الاتحاد الروسي لمراكز التسوق من أن أكثر من 200 مركز تسوق في البلاد مهدد بالإفلاس بسبب ارتفاع تكاليف التمويل.

وعلى الرغم من أن بعض المديرين التنفيذيين والخبراء الاقتصاديين يشيرون إلى أن بعض الشركات قد تبالغ في تقدير تأثير أسعار الفائدة المرتفعة، في محاولة للحصول على قروض مدعومة من الدولة، فإن القلق بشأن الوضع الاقتصادي يبدو مشروعاً، خصوصاً أن مستويات الديون على الشركات الروسية أصبحت مرتفعة للغاية.

ومن بين أكثر القطاعات تأثراً كانت صناعة الدفاع الروسية، حيث أفادت المستشارة السابقة للبنك المركزي الروسي، ألكسندرا بروكوبينكو، بأن الكثير من الشركات الدفاعية لم تتمكّن من سداد ديونها، وتواجه صعوبة في تأمين التمويل بسبب ارتفاع تكاليفه. وقالت إن بعض الشركات «تفضّل إيداع الأموال في البنوك بدلاً من الاستثمار في أنشطة تجارية ذات مخاطر عالية».

كما تحدّث الكثير من المقاولين علناً عن الأزمة الاقتصادية المتزايدة في روسيا. ففي أوائل نوفمبر، أشار رئيس مصنع «تشيليابينسك» للحديد والصلب، أندريه جارتونغ، خلال منتدى اقتصادي إلى أن فروعاً رئيسة من الهندسة الميكانيكية قد «تنهار» قريباً.

وفي الثالث من ديسمبر (كانون الأول)، أفادت وكالة «إنترفاكس» الروسية بأن حالات عدم السداد انتشرت في مختلف أنحاء الاقتصاد، حيث تأخرت الشركات الكبرى والمتوسطة بنسبة 19 في المائة من المدفوعات بين يوليو (تموز) وسبتمبر (أيلول)، في حين تأخرت الشركات الصغيرة بنسبة 25 في المائة من المدفوعات في الفترة نفسها.

وحسب وزارة التنمية الاقتصادية الروسية، فقد انخفض الاستثمار في البلاد، وتسببت العقوبات في ارتفاع تدريجي لتكاليف الواردات والمعاملات المالية، مما أدى إلى زيادة التضخم. كما قال مسؤول مالي روسي كبير سابق، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته بسبب حساسية الموضوع: «ما يحدث هو صدمة إمداد نموذجية في البلاد».

صناعة الدفاع مهددة

تأتي هذه التحديات في وقت حساس بالنسبة إلى صناعة الدفاع الروسية. فعلى الرغم من ضخ بوتين مبالغ ضخمة من التمويل الحكومي في هذا القطاع، مع تخصيص 126 مليار دولار في موازنة العام المقبل، فإن معظم الزيادة في الإنتاج كانت ناتجة عن تعزيز القوة العاملة لتشغيل المصانع العسكرية على مدار الساعة وتجديد مخزونات الحقبة السوفياتية. ومع ذلك، ومع استمرار الحرب ودخولها عامها الثالث، وارتفاع خسائر المعدات العسكرية، فإن القوة العاملة في القطاع قد وصلت إلى أقصى طاقتها، وإمدادات الأسلحة السوفياتية تتضاءل بسرعة.

وتقول جانيس كلوغ، من المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، إن التكاليف المتزايدة والعقوبات المشددة على واردات المعدات تجعل من الصعب على قطاع الدفاع الروسي بناء الأسلحة من الصفر. ووفقاً لتقرير صادر هذا العام عن الباحثَين في المعهد الملكي للخدمات المتحدة بلندن، جاك واتلينغ ونيك رينولدز، فإن 80 في المائة من الدبابات والمركبات القتالية المدرعة التي تستخدمها روسيا في الحرب ليست جديدة، بل جُدّدت من المخزونات القديمة. ويضيف التقرير أن روسيا «ستبدأ في اكتشاف أن المركبات بحاجة إلى تجديد أعمق بحلول عام 2025. وبحلول عام 2026 ستكون قد استنفدت معظم المخزونات المتاحة».

ثقة الكرملين

على الرغم من هذه التحديات يبدو أن الوضع لا يثير قلقاً في الكرملين. وقال أكاديمي روسي له علاقات وثيقة مع كبار الدبلوماسيين في البلاد: «لا يوجد مزاج ذعر». وأضاف أن المسؤولين في الكرملين يعدّون أن «كل شيء يتطور بشكل جيد إلى حد ما». ووفقاً لهذا الرأي، فإن روسيا تواصل تحقيق تقدم عسكري، وفي ظل هذه الظروف، لا يرى الكرملين حاجة إلى تقديم أي تنازلات جادة.

وتزيد الاضطرابات السياسية في العواصم الغربية -بما في ذلك التصويت بحجب الثقة في فرنسا، مع التصويت المرتقب في ألمانيا، بالإضافة إلى اعتقاد الكرملين أن ترمب قد يقلّل من دعمه لأوكرانيا- من الثقة داخل روسيا.

وقد تصدّى بوتين لانتقادات متزايدة بشأن زيادات أسعار الفائدة ورئيسة البنك المركزي، إلفيرا نابيولينا، قائلاً في مؤتمر الاستثمار إن كبح جماح التضخم يظل أولوية بالنسبة إليه. ومع الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية الأساسية مثل البطاطس التي ارتفعت بنسبة 80 في المائة هذا العام، يواصل بوتين دعم نابيولينا وزيادات أسعار الفائدة، رغم شكاوى الشركات الكبرى. وقالت كلوغ: «من وجهة نظر بوتين، لا يمكن السماح للتضخم بالخروج عن السيطرة، لأنه يمثّل تهديداً لاستقرار النظام السياسي، ولهذا السبب منح نابيولينا تفويضاً قوياً».

لكن المستشارة السابقة للبنك المركزي، ألكسندرا بروكوبينكو، ترى أن الضغط من الشركات الكبرى لن يهدأ. وقالت: «عندما يكون التضخم عند 9 في المائة، وسعر الفائدة عند 21 في المائة، فهذا يعني أن السعر الرئيس لا يعمل بشكل صحيح، ويجب البحث عن أدوات أخرى. أولوية بوتين هي الحرب وتمويل آلتها، ولا يمتلك الكثير من الحلفاء، والموارد المتاحة له تتقلص». وأضافت أنه من المحتمل أن تتعرّض نابيولينا لمزيد من الضغوط مع استمرار الوضع الاقتصادي الصعب.

ومع تزايد الضغوط على بوتين، أصبحت الصورة في الغرب أكثر تفاؤلاً بشأن فرص التغيير في روسيا، وفقاً لمؤسسة شركة الاستشارات السياسية «ر. بوليتيك» في فرنسا، تاتيانا ستانوفايا.

وأضافت: «بوتين مستعد للقتال ما دام ذلك ضرورياً... لكن بوتين في عجلة من أمره. لا يستطيع الحفاظ على هذه الشدة من العمل العسكري والخسائر في الأرواح والمعدات كما كان في الأشهر الأخيرة».