صمت الحداثة.. قصيدة دون القصد

الدلالات الغائبة في قصيدة شاعرة سعودية

من محاضرات «ملتقى قراءة النص» الرابع عشر في جدة
من محاضرات «ملتقى قراءة النص» الرابع عشر في جدة
TT

صمت الحداثة.. قصيدة دون القصد

من محاضرات «ملتقى قراءة النص» الرابع عشر في جدة
من محاضرات «ملتقى قراءة النص» الرابع عشر في جدة

قلنا في المقال السابق إن أدب الحداثة السعودي في الثمانينات زخر بنصوص تشير إلى ما لم يمكن قوله، أو أنه يقال لكن بطريقة أشبه بالإعجام. قصيدة الشاعرة السعودية خديجة العمري «دون الذي أنوي» من أهم النصوص التي نشرتها الشاعرة، والتي يكاد عنوانها يقول ما تقوله مجموعة الشاعرة السعودية الأخرى فوزية أبو خالد «قراءة في السر لتاريخ الصمت العربي». هنا تعلن خديجة، وهي من الأصوات الشعرية الهامة في مرحلة الثمانينات مع أنها لم تنشر ديوانًا واحدًا، أن ما تقوله في القصيدة «دون» الذي تنوي قوله. ولكنها لا تترك الأمر عند العنوان وإنما تواصله في مقاطع أخرى من القصيدة.
تبدأ القصيدة (المتاحة في مدونة للشاعرة على الإنترنت) بالإحالة على مذكر غامض الهوية: «له الأمر ما وسع العمر»، وقد يكون ذلك المخاطب حبيبًا أو قد يكون وطنًا أو هُما معًا أو غير ذلك. الهم العام في القصيدة يقترح الوطن لكن الإنسان الحبيب حاضر أيضًا، وكلاهما فيما يبدو قادر على إعانة الشاعرة، أو المتحدثة، على التخلص من موروث ترمز له بالغابرين وبالوجع العائلي. إنه الهم الأنثوي إزاء مجتمع وإرث، الهم الذي يدفع إلى ملجأ مشتهى:
أهز إلي بذاكرة اللحظات التي قسمتنا
تساقط في همتي سادتي الحاضرين
وما اختلفوا من يعلق نص الوراثة...
ثمة مفارقة هنا: ما يساقط ليس رطبًا جنيًا، كالذي اساقط على مريم في السورة القرآنية، وإنما هم السادة الحاضرون وهيمنتهم، الأمر الذي يؤكد خطاب الاحتجاج في القصيدة، بل ويمنحه بعدًا مقدسًا لن يلاحظه إلا قارئ يقرع أذنه فعل «اساقط» بدلالات قرآنية ستتعمق لاحقًا.
تعبنا ونحن نؤمن سيرتنا بمذلة عمر
نقلبه في الفراغ...
تقول محتجة، لكن هذا الاحتجاج إزاء ما يحدث ليس سوى البداية:
لكم ما ترون
ولكننا قد شقينا كثيرًا
وثانية قد شقينا
ألا فاعذرون –
مصاب بنصف الخيانة حلمي
إذا شئتم..
بكيل من العنف والحذف فلتقرأون
وإن طاوع الحب ثانية
فاعذرون.
العنف والحذف هما ما تتوقعه الشاعرة من مجتمعها غير المنصف، وهي باستدعاء اللغة القرآنية في صيغة الأمر «فلتقرأون» و«فاعذرون»، بعد أن استدعته في فعل «اساقط»، تطلق عنان مخيلة القارئ الذي تتكئ على ملاحظته في الربط بين موقفها وموقف الأنبياء موسى وإبراهيم في سورة قرآنية أخرى هي «الشعراء»، حيث واجه الأنبياء الرفض والتنكر، أي العنف والحذف، وحيث تتكرر الصياغة نفسها «أطيعون» «تشعرون»، وحيث ترد الآية المعروفة، آية الشعراء الذين يتبعهم الغاوون. وقبل الانتقال إلى آية الشعراء يحسن أن نتنبه إلى أن استدعاء مريم عليها السلام يستدعي المرأة الضحية، المرأة التي أنكر أهلها ما حصل لها. وهذا إيغال في السياق القرآني الذي يعمق الاحتجاج الأنثوي. أما الحذف فالأرجح أنه ليس حذف الكلمات لتقف دون القصد أو دون الذي تنوي، وإنما هو حذف الإنسان نفسه لا سيما الأنثى في مجتمع تطغى فيه الذكورية.
في ما يتعلق بالاستدعاء الضمني لآية الشعراء نحن أمام ازدواجية أو ربما تضارب دلالي بين موقفين: موقف الشاعر المتماهي مع دور المرأة / الضحية، ولكن المحقة والنبي الداعي إلى الرؤية الصحيحة، من ناحية، وموقف الشاعر الذي يتبعه الغاوون ويهيم في كل وادٍ، من ناحية أخرى. ومع أن الدلالة الثانية التي تشكك في دور الشعراء قد لا تكون مقصودة فإن الأرجح أن تكون حاضرة في ذهن من ترد السورة في ذهنه ومقلقة من ثم لاستقرار الدلالة الإيجابية التي تسعى القصيدة إلى ترسيخها. ومن الأرجح أيضًا أن الشاعرة أرادت استدعاء الدلالة الأخرى، دلالة التنكر لصاحب الرؤية الصحيحة من خلال صيغة «فلتقرأون» التي تنتشر في أجزاء القصيدة وتنتهي بها معظم مقاطعها. تلك الدلالة الموحى بها تشكل جزءًا من الأغنيات المنطفئة في قول الشاعرة:
تغالبني الأغنيات التي
انطفأت دونما كنت أنوي،
كمن يستعيض بكف تعض
على شارد الومضات التي أذنت للشهادة بالصدق
حينًا من الوقت، أو بعض حين.
لا شك أننا أمام نص غني، وغناه ناتج جزئيًا عن تلك الدلالات الغائبة، التي غيبها الانطفاء أو الصمت، والتي ندرك مع ذلك أنها لم تغب تمامًا وإنما توارت مثل جمر الرماد إذ ينتظر من ينفخ فيه ليستبين اللهب. إنها الومضات الشاردة التي تمنح الشهادة صدقها ربما أكثر مما تمنحها إياه، أي تمنح الصدق، الومضات الحاضرة. وغني عن القول أن تلك الومضات ليست مما يسهل التقاطه لأي قارئ، بل هي تستدعي قارئًا مدربًا من ناحية، ومنتميًا إلى السياق الثقافي ذاته أو عارفًا به. فكثير من قيمة النص يعتمد على تلقي ذلك القارئ وقدرته على التقاط ليس ما قيل بقدر ما هو ما لم يقل.
وهنا نلمس الحاجة إلى تجاوز نظرية استجابة القارئ بالنظر إلى ما تدعونا إليه ضغوط الاضطهاد والحاجة إلى قارئ خاص مسلح بمعرفة السياق الذي ولد فيه النص وقادر من ثم على القراءة بين الأسطر أو ما وراءها.



«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)
الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)
TT

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)
الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي»، بدولة قطر، مساء الثلاثاء، الفائزين في فئات الدورة العاشرة، وذلك خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد آل ثاني الممثل الشخصي لأمير البلاد، وشخصيات بارزة، وأعضاء البعثات الدبلوماسية، ونخبة من الباحثين والعاملين بمجال الترجمة.

وتهدف الجائزة إلى تكريم المترجمين وتقدير دورهم في تمتين أواصر الصداقة والتعاون بين شعوب العالم، وتقدير دورهم عربياً وعالمياً في مد جسور التواصل بين الأمم، ومكافأة التميز في هذا المجال، وتشجيع الإبداع، وترسيخ القيم السامية، وإشاعة التنوع، والتعددية والانفتاح.

الشيخ ثاني بن حمد لدى حضوره حفل تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

كما تطمح إلى تأصيل ثقافة المعرفة والحوار، ونشر الثقافة العربية والإسلامية، وتنمية التفاهم الدولي، وتشجيع عمليات المثاقفة الناضجة بين اللغة العربية وبقية لغات العالم عبر فعاليات الترجمة والتعريب، ويبلغ مجمل قيمة الجائزة في مختلف فئاتها مليوني دولار أميركي.

وقال الدكتور حسن النعمة، أمين عام الجائزة، إنها «تساهم في تعزيز قيم إنسانية حضارةً وأدباً وعلماً وفناً، اقتداءً بأسلافنا الذي أسهموا في بناء هذه الحضارة وسطروا لنا في أسفار تاريخها أمجاداً ما زلنا نحن اليوم الأبناء نحتفل بل ونتيه مفتخرين بذلك الإسهام الحضاري العربي في التراث الإنساني العالمي».

وأشاد النعمة بالكتاب والعلماء الذين ترجموا وأسهموا في إنجاز هذه الجائزة، وبجهود القائمين عليها «الذين دأبوا على إنجاحها وإخراجها لنا في كل عام لتكون بهجة ومسرة لنا وهدية من هدايا الفكر التي نحن بها حريُّون بأن نرى عالمنا أجمل وأسعد وأبهج وأرقى».

الدكتور حسن النعمة أمين عام الجائزة (الشرق الأوسط)

من جانب آخر، أعربت المترجمة والأكاديمية، ستيفاني دوغول، في كلمة نيابة عن الضيوف وممثلة للمترجمين، عن شكرها لجهود دولة قطر وجائزة الشيخ حمد للترجمة في تكريم المترجمين والمثقفين من كل أنحاء العالم، موجهة التحية لجميع الفائزين، وللغة العربية.

يشار إلى أنه في عام 2024، توصلت الجائزة بمشاركات من 35 دولة حول العالم، تمثل أفراداً ومؤسسات معنية بالترجمة، من بينها 17 دولة عربية. وقد اختيرت اللغة الفرنسية لغة رئيسية ثانية إلى جانب اللغة الإنجليزية، بينما اختيرت الهنغارية والبلوشية والتترية واليوربا في فئة اللغات القليلة الانتشار.

الفائزون بالدورة العاشرة

وفاز بالجائزة هذا العام «فئة الترجمة من اللغة العربية إلى اللغة الفرنسية»، في المركز الثاني رانية سماره عن ترجمة كتاب «نجمة البحر» لإلياس خوري، والثالث إلياس أمْحَرار عن ترجمة كتاب «نكت المحصول في علم الأصول» لأبي بكر ابن العربي، والثالث (مكرر): ستيفاني دوغول عن ترجمة كتاب «سمّ في الهواء» لجبور دويهي.

وعن «فئة الترجمة من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية»، فاز بالمركز الثاني الحُسين بَنُو هاشم عن ترجمة كتاب «الإمبراطورية الخَطابية» لشاييم بيرلمان، والثاني (مكرر) محمد آيت حنا عن ترجمة كتاب «كونت مونت كريستو» لألكسندر دوما، والثالث زياد السيد محمد فروح عن ترجمة كتاب «في نظم القرآن، قراءة في نظم السور الثلاث والثلاثين الأخيرة من القرآن في ضوء منهج التحليل البلاغي» لميشيل كويبرس، والثالث (مكرر): لينا بدر عن ترجمة كتاب «صحراء» لجان ماري غوستاف لوكليزيو.

من ندوة «الترجمة من اللغة العربية وإليها... واقع وآفاق» (الشرق الأوسط)

أما (الجائزة التشجيعية)، فحصل عليها: عبد الواحد العلمي عن ترجمة كتاب «نبي الإسلام» لمحمد حميد الله. بينما فاز في «فئة الترجمة من اللغة العربية إلى اللغة الإنجليزية»، حصلت على المركز الثالث: طاهرة قطب الدين عن ترجمة كتاب «نهج البلاغة» للشريف الرضي. وذهبت الجائزة التشجيعية إلى إميلي درومستا (EMILY DRUMSTA) عن ترجمة المجموعة الشعرية «ثورة على الشمس» لنازك الملائكة.

وفي (فئة الترجمة من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية) حصل على المركز الثاني مصطفى الفقي وحسام صبري عن ترجمة كتاب «دليل أكسفورد للدراسات القرآنية» من تحرير محمد عبد الحليم ومصطفى شاه، والثاني (مكرر): علاء مصري النهر عن ترجمة كتاب «صلاح الدين وسقوط مملكة بيت المقدس» لستانلي لين بول.

وفي «فئة الإنجاز»، في قسم اللغة الفرنسية: (مؤسسة البراق)، و(دار الكتاب الجديد المتحدة)، و«في قسم اللغة الإنجليزية»: (مركز نهوض للدراسات والبحوث)، و(تشارلز بترورث (Charles E. Butterworth)، وفي لغة اليورُبا: شرف الدين باديبو راجي، ومشهود محمود جمبا. وفي «اللغة التترية»: جامعة قازان الإسلامية، و«في قسم اللغة البلوشية»: دار الضامران للنشر، و«في اللغة الهنغارية»: جامعة أوتفوش لوراند، وهيئة مسلمي المجر، وعبد الله عبد العاطي عبد السلام محمد النجار، ونافع معلا.

من ندوة «دور الجائزة في الارتقاء بمعايير جودة الترجمة» (الشرق الأوسط)

عقدٌ من الإنجاز

وعقدت الجائزة في الذكرى العاشرة لتأسيسها ندوة ثقافية وفكرية، جمعت نخبة من أهم العاملين في مجال الترجمة والمثاقفة من اللغة العربية وإليها، تتناول الندوة في (الجلسة الأولى): «الترجمة من اللغة العربية وإليها: واقع وآفاق»، بينما تتناول (الجلسة الثانية): «دور الجائزة في الارتقاء بمعايير جودة الترجمة، وكيفية تطوير هذا الدور».

وخلال مشوارها في عشر سنوات، كرّمت الجائزة مئات العاملين في الترجمة من الأفراد والمؤسسات، في نحو 50 بلداً، لتفتح بذلك آفاقاً واسعة لالتقاء الثقافات، عبر التشجيع على الاهتمام بالترجمة والتعريب، ولتصبح الأكبر عالمياً في الترجمة من اللغة العربية وإليها، حيث اهتمت بها أكثر من 40 لغة، كما بلغت القيمة الإجمالية السنوية لمجموع جوائزها مليوني دولار.

ومنذ تأسيسها، كرمت الجائزة 27 مؤسسة ودار نشر من المؤسسات التي لها دور مهم في الترجمة، و157 مترجماً و30 مترجمة، حيث فاز كثيرون من مختلف اللغات الحية عبر العالم. حتى اللغات التي يتحدث بها بضعة ملايين بلغتها الجائزة وكرمت رواد الترجمة فيها من العربية وإليها. أما اللغات الكبرى في العالم فكان لها نصيب وافر من التكريم، مثل الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والألانية والصينية والكورية واليابانية والتركية والفارسية والروسية.

وشملت الجائزة كذلك ميادين القواميس والمعاجم والجوائز التشجيعية للمترجمين الشباب وللمؤسسات الناشئة ذات الجهد الترجمي، وغطت مجالات الترجمة شتى التخصصات الإنسانية كاللغوية والتاريخية والدينية والأدبية والاجتماعية والجغرافية.

وتتوزع فئاتها على فئتين: «الكتب المفردة»، و«الإنجاز»، تختص الأولى بالترجمات الفردية، سواء من اللغة العربية أو إليها، وذلك ضمن اللغات الرئيسية المنصوص عليها في هذه الفئة. وتقبل الترشيحات من قبل المترشح نفسه، ويمكن أيضاً ترشيح الترجمات من قبل الأفراد أو المؤسسات.

أما الثانية فتختص بتكريم الجهود الطويلة الأمد المبذولة من قبل الأفراد والمؤسسات في مجال الترجمة من اللغة العربية أو إليها، في عدة لغات مختارة كل عام، وتُمنح الجائزة بناء على عدد من الأعمال المنجزة والمساهمة في إثراء التواصل الثقافي والمعرفي.