قلنا في المقال السابق إن أدب الحداثة السعودي في الثمانينات زخر بنصوص تشير إلى ما لم يمكن قوله، أو أنه يقال لكن بطريقة أشبه بالإعجام. قصيدة الشاعرة السعودية خديجة العمري «دون الذي أنوي» من أهم النصوص التي نشرتها الشاعرة، والتي يكاد عنوانها يقول ما تقوله مجموعة الشاعرة السعودية الأخرى فوزية أبو خالد «قراءة في السر لتاريخ الصمت العربي». هنا تعلن خديجة، وهي من الأصوات الشعرية الهامة في مرحلة الثمانينات مع أنها لم تنشر ديوانًا واحدًا، أن ما تقوله في القصيدة «دون» الذي تنوي قوله. ولكنها لا تترك الأمر عند العنوان وإنما تواصله في مقاطع أخرى من القصيدة.
تبدأ القصيدة (المتاحة في مدونة للشاعرة على الإنترنت) بالإحالة على مذكر غامض الهوية: «له الأمر ما وسع العمر»، وقد يكون ذلك المخاطب حبيبًا أو قد يكون وطنًا أو هُما معًا أو غير ذلك. الهم العام في القصيدة يقترح الوطن لكن الإنسان الحبيب حاضر أيضًا، وكلاهما فيما يبدو قادر على إعانة الشاعرة، أو المتحدثة، على التخلص من موروث ترمز له بالغابرين وبالوجع العائلي. إنه الهم الأنثوي إزاء مجتمع وإرث، الهم الذي يدفع إلى ملجأ مشتهى:
أهز إلي بذاكرة اللحظات التي قسمتنا
تساقط في همتي سادتي الحاضرين
وما اختلفوا من يعلق نص الوراثة...
ثمة مفارقة هنا: ما يساقط ليس رطبًا جنيًا، كالذي اساقط على مريم في السورة القرآنية، وإنما هم السادة الحاضرون وهيمنتهم، الأمر الذي يؤكد خطاب الاحتجاج في القصيدة، بل ويمنحه بعدًا مقدسًا لن يلاحظه إلا قارئ يقرع أذنه فعل «اساقط» بدلالات قرآنية ستتعمق لاحقًا.
تعبنا ونحن نؤمن سيرتنا بمذلة عمر
نقلبه في الفراغ...
تقول محتجة، لكن هذا الاحتجاج إزاء ما يحدث ليس سوى البداية:
لكم ما ترون
ولكننا قد شقينا كثيرًا
وثانية قد شقينا
ألا فاعذرون –
مصاب بنصف الخيانة حلمي
إذا شئتم..
بكيل من العنف والحذف فلتقرأون
وإن طاوع الحب ثانية
فاعذرون.
العنف والحذف هما ما تتوقعه الشاعرة من مجتمعها غير المنصف، وهي باستدعاء اللغة القرآنية في صيغة الأمر «فلتقرأون» و«فاعذرون»، بعد أن استدعته في فعل «اساقط»، تطلق عنان مخيلة القارئ الذي تتكئ على ملاحظته في الربط بين موقفها وموقف الأنبياء موسى وإبراهيم في سورة قرآنية أخرى هي «الشعراء»، حيث واجه الأنبياء الرفض والتنكر، أي العنف والحذف، وحيث تتكرر الصياغة نفسها «أطيعون» «تشعرون»، وحيث ترد الآية المعروفة، آية الشعراء الذين يتبعهم الغاوون. وقبل الانتقال إلى آية الشعراء يحسن أن نتنبه إلى أن استدعاء مريم عليها السلام يستدعي المرأة الضحية، المرأة التي أنكر أهلها ما حصل لها. وهذا إيغال في السياق القرآني الذي يعمق الاحتجاج الأنثوي. أما الحذف فالأرجح أنه ليس حذف الكلمات لتقف دون القصد أو دون الذي تنوي، وإنما هو حذف الإنسان نفسه لا سيما الأنثى في مجتمع تطغى فيه الذكورية.
في ما يتعلق بالاستدعاء الضمني لآية الشعراء نحن أمام ازدواجية أو ربما تضارب دلالي بين موقفين: موقف الشاعر المتماهي مع دور المرأة / الضحية، ولكن المحقة والنبي الداعي إلى الرؤية الصحيحة، من ناحية، وموقف الشاعر الذي يتبعه الغاوون ويهيم في كل وادٍ، من ناحية أخرى. ومع أن الدلالة الثانية التي تشكك في دور الشعراء قد لا تكون مقصودة فإن الأرجح أن تكون حاضرة في ذهن من ترد السورة في ذهنه ومقلقة من ثم لاستقرار الدلالة الإيجابية التي تسعى القصيدة إلى ترسيخها. ومن الأرجح أيضًا أن الشاعرة أرادت استدعاء الدلالة الأخرى، دلالة التنكر لصاحب الرؤية الصحيحة من خلال صيغة «فلتقرأون» التي تنتشر في أجزاء القصيدة وتنتهي بها معظم مقاطعها. تلك الدلالة الموحى بها تشكل جزءًا من الأغنيات المنطفئة في قول الشاعرة:
تغالبني الأغنيات التي
انطفأت دونما كنت أنوي،
كمن يستعيض بكف تعض
على شارد الومضات التي أذنت للشهادة بالصدق
حينًا من الوقت، أو بعض حين.
لا شك أننا أمام نص غني، وغناه ناتج جزئيًا عن تلك الدلالات الغائبة، التي غيبها الانطفاء أو الصمت، والتي ندرك مع ذلك أنها لم تغب تمامًا وإنما توارت مثل جمر الرماد إذ ينتظر من ينفخ فيه ليستبين اللهب. إنها الومضات الشاردة التي تمنح الشهادة صدقها ربما أكثر مما تمنحها إياه، أي تمنح الصدق، الومضات الحاضرة. وغني عن القول أن تلك الومضات ليست مما يسهل التقاطه لأي قارئ، بل هي تستدعي قارئًا مدربًا من ناحية، ومنتميًا إلى السياق الثقافي ذاته أو عارفًا به. فكثير من قيمة النص يعتمد على تلقي ذلك القارئ وقدرته على التقاط ليس ما قيل بقدر ما هو ما لم يقل.
وهنا نلمس الحاجة إلى تجاوز نظرية استجابة القارئ بالنظر إلى ما تدعونا إليه ضغوط الاضطهاد والحاجة إلى قارئ خاص مسلح بمعرفة السياق الذي ولد فيه النص وقادر من ثم على القراءة بين الأسطر أو ما وراءها.
صمت الحداثة.. قصيدة دون القصد
الدلالات الغائبة في قصيدة شاعرة سعودية
صمت الحداثة.. قصيدة دون القصد
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة