علم الاجتماع العربي ضد مجتمعه

بين الإسلام والحداثة

علم الاجتماع العربي ضد مجتمعه
TT

علم الاجتماع العربي ضد مجتمعه

علم الاجتماع العربي ضد مجتمعه

أخذ النقاش المتعلق بالإسلام والحداثة حيّزًا مهمًا في أدبيات الفكر العربي المعاصر. وكغيره من الإشكاليات التي طرحتها الدولة الحديثة، تحولت المعالجة العلمية لطبيعة العلاقة القائمة بين الدين وآيديولوجية الحداثة، لمجرد صراع بين الأدبيات القومية العسكرية، والليبرالية التبعية، والإسلامية التراثية. ومن هنا حقّق الصراع الآيديولوجي للتيارات تراكمًا انشطاريًا في الوعي النخبوي، والواقع المجتمعي للدولة القطرية، من دون أن يحقق فهما سلسا لقدرة الإسلام الفائقة على الاستيعاب الحضاري، والتسامح العقدي، والندية القيمية. كذلك أدت العقلية الصدامية الماركسية خصوصًا واليسارية العربية عمومًا، إلى عدم إدراك تاريخ المسلمين باعتباره خبرة مجتمعية، لها تقاليدها المجتمعية ومدركاتها الخاصة القادرة على تجاوز التراث القديم، والحداثة الملتبسة بالعَلمنة. وأنها تختلف مرجعيًا مع آيديولوجية القطع المنهجي، التي روج لها الفلاسفة الغربيون، والتي انتقلت لعلم الاجتماع المعاصر.
من المؤسف فعلاً أن السوسيولوجية العربية المعاصرة، التي تسلط الضوء حاليًا على الدين الإسلامي، وتنامي ظاهرة الإرهاب، تحولت بفعل الآيديولوجية اليسارية المستحكمة في وعي الباحثين، إلى نوع من الحرب المفتوحة على الدين والحداثة معًا. فلم تعد السوسيولوجية العربية قادرة على كشف مسار تطور المجتمع العربي، ولا هي قادرة على تفسير طبيعة مسلكيات ومعيوش فئاته المؤثرة في الدولة، سواءً كانت هذه الفئات نخبًا تجارية اقتصادية، أو دينية، أو سياسية مدنية، أو عسكرية.
ذلك أن مُسَلّمات القطع المنهجي المزعوم، لا تجعلنا أمام فصل تام بين الإسلام والحداثة، وإنما تؤكد أن الحداثة هي المرجعية النهائية ومصدرها تأله البشر، والدين مجرد تماس بين الإله والإنسان. والغريب أن هذه المُسَلّمة تعود لمرجعية علم الكلام الكاثوليكي في تناوله لقضايا الحداثة والدين، واستمرت إلى يومنا. ولقد عبّر عنها المفكرون الكبار تيرل وهيدغر وكانط بأشكال مختلفة، واعتبر بول ريكور في مشروعه حول «هرمينوطيقيا الذات»، بأن «الذات نفسها هي الآخر»، ووصل الأمر بميشال فوكو لتحديد الأنظمة المعرفية إبيستيمولوجا في العقل الغربي، وتقسيمها إلى ثلاث مراحل. العصر القديم، ثم النهضة، وثالثا العصر الحديث، ونحن اليوم نصير حسب فوكو لموت الإنسان.
في ظل هذا التأطير «الشمولي» الحداثي للإنسان، وجد علم الاجتماع العربي نفسه تائها وسط العالم المحسوس والمعيوش خبرة وتاريخًا وعالم مأمول يراد فرضه بأدوات العلم العاجزة تارة، وبالدولة العسكرتارية تارة أخرى. وبينما تسير مدرسة علم الاجتماع العربي في هذا المسار المسدود، تقترح علينا خبرتها المأزومة لتناول الدين والظاهرة الإرهابية، والمشاركة السياسية، وبروز الحراك الشبابي العربي في بيئة أخفقت فيها النخبة، عامة، على إدراك الاتجاهات الجديدة للتحولات الاجتماعية وتقاطعاتها الداخلية، وبتأثيرات الخارج عن المنظومة المجتمعية العربية المعاصرة.
أكثر من ذلك، ظل علم الاجتماع العربي وهو يناقش قضايا الدين والحداثة، غير قادر على تفسير عجز الحداثة على اختراق المجتمع العربي، وبقائها سطحية، تسلطية وأمنية. وفي الغالب لم تنجز غير مؤسسات اجتماعية صورية، وبنية بوليسية دموية، أنتجت بدورها جماعات الإرهاب الديني، في إطار صراع إرادات التطرف في الدولة القطرية العربية المعاصرة.
لقد كانت الرؤية هذه «العلمية» أحد الأسباب الحقيقية للانحراف الديني، ولا يعود ذلك لاستقدام بنية معرفية إبستيمولوجية من الخارج وحسب، بل تحوّل البنية لأداة فعالة لفصل المجتمع عن تاريخه الديني الاجتماعي. ولأن هذا حصل بشكل متفاوت في مصر منذ سيطر الجيش على السلطة في عهد جمال عبد الناصر، وكذلك في العراق وسوريا البعث، وكذلك في تونس منذ بدأ بورقيبة مشروعه الحداثي، ولأن المجتمع العربي لا يعيش في النظام المعرفي المغلق للنخب، فقد كانت ردود فعله الدفاعية هي «استنهاض» واستدعاء العنف الديني ضد العنف الحداثي المعَلمن، والمتسلح بأسلحة الجيش والأمن وبآيديولوجية الحداثة. ولو أمعنّا النظر في مختلف أدبيات علم الاجتماع العربي المعاصر، لوجدناها تعبر عن «مشروع نقدي للمجتمع والدين». غير أن سلطتها المعرفية لم تكتسبها من دراستها للمجتمع العربي وتراثه، وتنوعه وخبرته وكسبه المجتمعي، بل أنها تتسلح بمزاعم، أولها، كونها الفئة العالمة بما وصل إليه الفكر الغربي من تقدم علمي ومعرفي.
والغريب أنها تفعل هذا في حقل علم الاجتماع، مع يقينها أن دراسة المجتمعات لا يكتنفه التعقيد في التباين الحضاري التاريخي. بل أن استجلاب نظريات علم الاجتماع ومفاهيمه، ومناهجه، يجد معارضة داخلية في بنية تشكل هذا العلم نفسه. وذلك لأن علم الاجتماع يدرس الإنسان في محيطه، مستحضرا لتركيبة المجتمع، بل كذلك، والأهم دراسة مرتكزات ما قبل الوعي الجماعي، باعتباره المشترك الرئيس الذي يجمع الجماعة، ويحولها لجماعة جامعة، في دولة معينة.
إن الإسلام في عالم الحداثة اليوم، استطاع أن يبقى صامدًا، وأن ينتقل لعمق الحضارة الغربية الحداثية، ويسمها بطابعه العقدي والثقافي والاجتماعي من خلال الجالية المسلمة في الغرب. وهو ما تطور مع الجيل الرابع، وتحوّل لظاهرة اجتماعية لم تعد منعزلة عن عالم الحداثة الأصلي، ومركز الدولة القطرية الحداثية.
وإذا كانت الأدبيات السوسيولوجية السياسية الغربية تحاول دراسة هذه الظاهرة الجديدة عليها، فإن ذلك يتطلب من النخب العربية تحاشي نقل الأدوات العلمية من سياق لآخر. ذلك أن للإسلام في عالم الارتكاز الحضاري للحداثة فعاليته ونشاطا اجتماعيا يختلف على ما خبره في الشرق من تماهي العقل والدين عبر قرون ممتدة شكلت مدركات عامة جماعية غير قابلة للتقويض حتى ولو استعمل العنف باسم الحداثة ضد المجتمع.
ضمن هذا الإطار يمكننا تفسير سبب التحوّل الاجتماعي في المجتمع التونسي، الذي يعد أول مجتمع من حيث تصدير المقاتلين لتنظيمي «القاعدة» وداعش. فعلى الرغم من قدم فرض مشروع الحداثة المتصلّبة على التونسيين، فإن مساراتها أنتجت الإرهاب والتطرّف الديني. ذلك أن آيديولوجية الحداثة لا تخلق مساومات وتوافقًا اجتماعيًا منسجمًا مع نسيج الوعي الديني المحلي، بل تتجه مباشرة لتفكيك المرجعية الجماعية للجماعة، ما يجعل من رد الفعل حداثيًا وصراعيًا صرفًا، وأن تتلبس بالدين الإسلامي.
إن عدم إدراك مدرسة علم الاجتماع العربي منذ البداية للأسس العلمية لعلم الاجتماع الغربي، حوّلها إلى مدرسة تجرّ الهزائم في ظل عجز بين في تفسير ما يقع في محيطها المجتمعي، وما يقع من تطورات أكاديمية في الغرب نفسه. والأخطر من ذلك تحولها إلى مجرّد أداة آيديولوجية تخدم المؤسسات البحثية الغربية الرأسمالية الخاصة.
إن أغلب ما يُتداول في المجال البحثي العربي اليوم، نجده إما استجابة غير واعية لتحدي الدراسات السوسيولوجية الغربية الخاصة بالإسلام والحداثة والإرهاب، وإما متعلقا بظاهرة التخلف العربي والمشرقي، وإما دراسة القبيلة والعشيرة بمنظور ينتهي لضرورة تفكيكهما باعتبارهما أدوات المجتمع لصد الحداثة.
وحتى من كان يدافع عن «السوسيولوجية الفيبيرية» (نسبى إلى فيبير)، ويعدها النموذج المثالي، سقط في فخ الآيديولوجية الإرشادية المعولمة، واستهلك جهوده التفسيرية في الدفاع عن علمنة يراد لها أن تكون دينية، في وسط عربي ينبذ العلمانية كفلسفة ورؤية للعالم. وبالأحرى، القبول بتأميم الدين ومؤسساته التي صنعتها الدولة التحديثية التسلطية العربية.
ولا يخفى على الباحثين العرب، أن هذا الموقف الآيديولوجي الذي يتبناه علم الاجتماع العربي المعاصر، قد حوّله «لعلم تجارة»، خاضع عموما، للدولة غير الديمقراطية بالداخل، وللمؤسسات الأجنبية للدول الكبرى. ومن هنا فقد استقلاليته في التعبير عن كينونته الحضارية، وقدرته في إبداع مفاهيم ومناهج، قادرة للتصدي للظواهر الاجتماعية، وأهمها: ظاهرة الإرهاب، وانفصال واتصال الدين بالحداثة.
* أستاذ العلوم السياسية جامعة محمد الخامس



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟