10 سنوات على حكم حماس (2 - 4) : غزة: حياة مأساوية ومستقبل غامض يدفع الشباب إلى الانتحار

بلا كهرباء ولا ماء ولا وقود ولا معابر.. مع آفاق غامضة يصلون إلى طريق مسدود

غزاويون يحاولون التغلب على الوضع الاقتصادي الصعب في سوق الأسبوع في القطاع (أ.ف.ب)
غزاويون يحاولون التغلب على الوضع الاقتصادي الصعب في سوق الأسبوع في القطاع (أ.ف.ب)
TT

10 سنوات على حكم حماس (2 - 4) : غزة: حياة مأساوية ومستقبل غامض يدفع الشباب إلى الانتحار

غزاويون يحاولون التغلب على الوضع الاقتصادي الصعب في سوق الأسبوع في القطاع (أ.ف.ب)
غزاويون يحاولون التغلب على الوضع الاقتصادي الصعب في سوق الأسبوع في القطاع (أ.ف.ب)

بعد تفكير طويل لم يتردد الشاب الغزي «محمد. ص» والذي يسكن في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، بتناول كمية من السم لإنهاء حياته التي وصفها بالبائسة ومن دون مستقبل، قبل أن تتدخل مجموعة من المارة الذين شاهدوه وهو يسقط على الأرض مغشيا عليه، لينقلوه على عجل إلى مستشفى الشفاء ما ساهم في إنقاذ حياته.
محاولة محمد البالغ من العمر 29 عاما، والتي تمت في الثالث عشر من شهر ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، لم تكن المحاولة الأولى بل سبقه آخرون ونجحوا في الانتحار ولحقه آخرون كذلك، في تعبير صارخ عن ضنك الحياة التي يعيشها الناس في القطاع الصغير المحاصر.
استمر الأطباء نحو 4 ساعات حتى استطاعوا إنقاذ حياته بعد تناوله للمادة السامة، واستمر نحو 6 ساعات إضافية قابعا في غرفة العناية المركزة وسط مراقبة شديدة من قبل الأطباء لحالته الصحية حتى استطاع استعادة وعيه، فمكث يومين آخرين تحت الرعاية الطبية، ومن ثم عاد إلى حياته.
يقول محمد لـ«الشرق الأوسط» في جلسة «مصارحة»، إنه لن يفعل ذلك ثانية، لكنه حين فعلها كانت الحياة ضغطت عليه بما يكفي. مضيفا: «لم أكن قادرا على تحمل أعبائها الكبيرة والمتراكمة».
وتوفي والد محمد قبل 13 عاما وترك في رقبته عائلة مكونة من 5 أشقاء من الذكور هو أكبرهم، و3 شقيقات أكبرهن تدرس في جامعة الأقصى بغزة، من دون ميراث أو مهنة محددة.
ووسط ظروف حياتية صعبة يعمل محمد في بيع «الملابس الداخلية» و«الأحذية» على مفترقات الطرق بمدينة غزة، حين يتسنى له ذلك، ويحاول الآن مضاعفة ساعات العمل في محاولة منه لسد رمق أسرته، وانضم إليه شقيقه الأصغر ياسر، (26 عاما) في محاولة لكسب المزيد من المال.
وتعيش عائلة محمد في منزل متهالك لا يكاد يصلح للعيش الآدمي، حيث يتكون المنزل من مساحة تقل عن 80 مترا، غير محمي بشكل كامل من الأمطار والهواء والغبار والزواحف.
يختصر الشاب حكايته بالقول: «هذا قدري في الحياة.. ما في مستقبل، ما عندي شيء ممكن أعمله لنفسي، مش ممكن أتزوج وأكون عائلة مثل كثير ناس، كل همي الآن إني أجيب لقمة الأكل لعائلتي مشان يقدروا يعيشوا بس ولو بالقليل وما يحتاجوا أحد».
لكن لم نفهم كيف أن المبلغ الذي يجمعه محمد يوميا يمكن أن يسد رمق أسرة. وقال محمد إنه بعد عمل 12 ساعة يجمع ما مقداره 25 شيقلاً أي 7 دولارات. مضيفًا: «هل عرفتم لماذا حاولت الانتحار.. ليس لأسباب شخصية بل بسبب عجزي عن توفير احتياجات عائلتي وتراجع حالتنا الاقتصادية المزرية في ظل تدهور الأوضاع العامة في قطاع غزة».
ويأمل «محمد» كما الآلاف من سكان قطاع غزة الذين يعيشون في ظروف حياتية قاسية في تحسن الأوضاع وفتح آفاق أمامهم للعمل وتحسين حياتهم أملا في بناء مستقبل واعد. إلا أن ذلك يبدو بعيد المنال في ظل الظروف السياسية التي تنعكس بشكل مباشر على الواقع الاقتصادي والحياتي بغزة، وهو الواقع الذي دفع آخرين إلى محاولة الانتحار.
وتشير إحصائيات حصلت عليها الشرق الأوسط من مراكز حقوقية، إلى أنه سجل منذ بداية العام الحالي 35 محاولة انتحار بطرق متعددة، منها استخدام السلاح الناري وأخرى باستخدام مواد سامة أو الانتحار شنقا.
الجهات الأمنية الفلسطينية في غزة كثيرا ما تقول: إن معدلات الجريمة وحتى محاولات الانتحار طبيعية وليست «ظاهرة» باعتبار أن الدول الأخرى تسجل حالات أكثر، لكن المراكز الحقوقية ترى أن ما يجري خطير للغاية ومؤشر على واقع صعب في القطاع.
وقال الناطق باسم الشرطة أيمن البطنيجي في حديث مع «الشرق الأوسط»: «ليست ظاهرة، في دول أخرى المعدلات مرتفعة للغاية».
وبحسب متابعات الشرطة، فإن غالبية من يقدمون على الانتحار أو المحاولة، يعانون من مشاكل عائلية وضغوط اقتصادية وظروف خاصة مختلفة.
وعلى الرغم من أن القانون يجرم محاولات الانتحار ويعاقب عليها، فإن الأجهزة الأمنية في غزة تعمل بروح القانون، وفق البطنيجي، بسبب ما وصفه بـ«ظروف الناس» مضيفا: «نفضل تقديم العلاج لهم ولقضاياهم بدلا من معاقبتهم قانونيا».
ويرى البطنيجي أن الصدى الذي تحدثه محاولات الانتحار بغزة: «نابع من أننا نعيش في مجتمع محافظ تزعجه مثل هذه القضايا ويتألم لما وقع به قاتل نفسه». مشيرا إلى أهمية تحرك المؤسسات غير الحكومية في ضرورة توفير العلاج النفسي وتنفيذ جلسات إرشادية لتوعية الناس، والاطلاع على ظروفهم ومحاولة علاجها بكافة الطرق الممكنة.
ولكن مع كل هذا الجهد المبذول، تبقى الأرقام مقلقة. ففي يناير (كانون الثاني) الماضي، سجلت حالتا انتحار إحداهما لفتاة، في حين سجل منذ بداية فبراير (شباط) 6 حالات انتحار منها واحدة لفتاة ألقت بنفسها من مكان مرتفع في مدينة غزة، ومن بينها 4 حالات وقعت في غضون 3 أيام، إحداها لشخص أحرق نفسه واثنان أقدما على شنق نفسيهما ورابع ألقى بنفسه من مكان مرتفع، والحالات الثلاث وقعت في أيام (10 - 11 - 12) من الشهر نفسه، في منطقة خانيونس، والرابعة في رفح جنوب قطاع غزة.
وقال المختص النفسي والاجتماعي الدكتور فضل أبو هين، لـ«الشرق الأوسط» «إن حالات الانتحار تنم عن حالة اكتئاب يُصاب بها الفرد نتيجة ظروف حياتية قاسية يمر بها تدفعه إلى إنهاء حياته بطريقة يحرمها الدين ويجرمها المجتمع والقانون فيما يرى المنتحر نفسه بأنه أقدم على الفعل للتخلص مما لا يتحمله من أعباء كبيرة».
وأشار أبو هين إلى أن معدلات الانتحار في الأراضي الفلسطينية ليست بجديدة ولا يمكن مقارنتها بما يحصل في المجتمعات العربية والغربية، لكنه يركز على الأسباب؛ «ومعظمها يعود لأسباب اقتصادية في ظل انغلاق الأفق السياسي وإغلاق المعابر وما خلفته الحروب من آثار نفسية واجتماعية واقتصادية على حياة الفلسطينيين في قطاع غزة».
ويرى أبو هين أن الحصار يولد حالات انتحار، مشيرا إلى حجم ظاهرة هجرة الشبان قبل أحكام إغلاق المنافذ، باعتبار ذلك بديلا محتملا للانتحار كإحدى المشاكل الاجتماعية التي يخلفها الواقع الحالي.
وقال أبو هين مجددا: «الأسباب هي المختلفة». وأضاف: «الانتحار هنا يأتي لأسباب مختلفة عنها في المجتمعات الأخرى، المعاناة والإحباط الشديد وغياب الأفق لمستقبل واضح، مع استمرار انغلاق الأفق السياسي الذي يؤثر على حالة المجتمع بشكل عام، أسباب رئيسية في حالات الانتحار في فلسطين».
ويفسر بالقول: «الأسرة الفلسطينية تنتظر من ابنها أن يبحث عن مستقبله ويبدأ بتأسيس عائلته الخاصة ويعمل على إعالة عائلته الجديدة وكذلك أسرته المكونة من والديه وأشقائه، ولكن كثيرا ما يصطدم الشبان بواقع اقتصادي وسياسي مأساوي يجعله عاجزا عن تقديم الحلول لأسرته فيصبح إرهاقا إضافيا لتلك الأسرة المرهقة بالأساس ويصبح مطالبا بالخروج للبحث عن عمل ويُنظر إليه في الكثير من الأحيان بنظرة التبخيس به وبقدرته والتقليل من شأنه وكل ذلك يؤدي إلى تراكم الوضع النفسي على الشاب ويغلق أمامه أفق الحياة فيفكر بالانتحار ويفعلها».
ويعيش المواطن في غزة إضافة إلى الظروف الاقتصادية الصعبة، ظروفا حياتية صعبه كذلك.
ويمكن القول إن أهل غزة جربوا كل أشكال الحياة البدائية، تحت «الحصار»، بلا كهرباء ولا وقود ولا ماء.
وتغط غزة طيلة 18 ساعة في اليوم في ظلام دامس بسبب انقطاع الكهرباء، وهو ما أدى إلى كوارث «ارتدادية»، مثل توقف المضخات عن ضخ كميات المياه اللازمة للسكان، والمعاناة التي تلاقيها غرف عمليات المستشفيات، ناهيك على انقطاعات متكررة في الغاز والوقود.
كما يعاني الغزيون من ضغط متعلق بالحريات العامة.
ووضعت الحركة الإسلامية في أوقات مختلفة قوانين صارمة تتعلق بالتنزه على شاطئ البحر والسماح للنساء بتعاطي النرجيلة في المطاعم العامة، وطريقة عرض البضائع في المحلات، وتدخلوا في أحيان مختلفة بطريقة قصة الشعر وارتداء الملابس، وهو ما أثار الجدل داخل حماس نفسها.
ويربط الكثير من المراقبين حالات الانتحار بالواقعين السياسي والحياتي، بما في ذلك القوانين الصارمة وتراجع الوضع الاقتصادي، وانتشار البطالة وارتفاع نسبة الفقر.
وشهدت نسب البطالة وحدها ارتفاعا كبيرا وصل إلى نحو 80 في المائة. وفق إحصائيات الهيئة الشعبية لمواجهة الحصار.
وقال المواطن أبو خميس نصر الدين، من سكان بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة، لـ«الشرق الأوسط»: «الحياة هنا صعبة».
ويملك نصر الدين، ورشة صغيرة لأعمال «النجارة» ولكن انقطاع الكهرباء لأكثر من 10 ساعات يوميا يضاعف من الأزمات له في عمله ومواعيده.
وقال نصر الدين «يكفيك أزمة الكهرباء، وهذه تترافق مع أزمات كثيرة بالأساس منها عدم توفر الخشب اللازم لتفصيل غرف النوم أو غيره من الأثاث إلا بأسعار عالية».
ولفت إلى أنه يضطر لشراء الوقود لتشغيل مولد الكهرباء بأسعار عالية كذلك. وقال: «نضطر لأن ندفع أكثر في الخشب، ونحو 30 شيقلا كل يومين، أي ما يعادل نحو (8 دولارات) ثمن وقود بدل كهرباء، ولا يبقى لنا إلا القليل».
وتابع: «نحن نعيش حياة مأساوية جدا، لا كهرباء جيدة ولا مياه صالحة، والحروب تلاحقنا والحصار والانقسام يدمران حياتنا الاجتماعية قبل الاقتصادية، السياسة تنخر في عظام كل منزل بغزة وتنهكه كثيرا».
وبفعل الحصار الموجود على غزة تعاني المصانع وورش العمل بسبب فرض إسرائيل رقابة عالية على البضائع التي تدخل إلى القطاع خشية أن يستفيد منها عناصر حماس المسلحون.
وبعض البضائع ممنوعة أصلا من الدخول كونها تدخل في صناعة السلاح أو بناء الأنفاق.
ولا يأمل الكثير من الغزيين في حل سريع لهذه الأزمات رغم الحديث عن حوارات جادة حصلت مؤخرا بالدوحة لإنهاء الانقسام. والتشاؤم هو السائد بين سكان القطاع، ما يعني بالنسبة لهم مزيدا من تدهور الأوضاع الحياتية.
والمصالحة التي يتطلع لها الغزيون تعني بالنسبة لهم فك الحصار وفتح المعابر (أي التغيير الجذري في الحياة) التي قالت إحصائية لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) إنها تتسم بإضرابات نفسية واجتماعية.
وبحسب تقرير إحصائي لـ«الأونروا» فإن نحو ثلث اللاجئين الفلسطينيين في غزة، والبالغ عددهم 1.2 مليون نسمة، ظهرت لديهم أعراض اضطرابات نفسية واجتماعية. مشيرة إلى أن الحصار المفروض على القطاع، لا يؤثر فقط في النواحي البدنية والاقتصادية والاجتماعية للسكان، لكن يعرضهم أيضا لمستويات عالية من الضغط النفسي والاجتماعي.
وفعلت «الأونروا» 21 مركزا تابعا للوكالة، لاستقبال اللاجئين الذين ظهرت لديهم أعراض اضطرابات نفسية واجتماعية في القطاع، وبدأت بتشغيل 31 مشروعا تجريبيا من أجل دمج الرعاية الصحية النفسية والدعم النفسي الاجتماعي ضمن خدمات الرعاية الصحية.
وحول تلك الحلول المبتكرة التي يمكن أن تسهم في التقليل من محاولات انتحار الشبان (وهم الفئة الأكبر من المقدمين على الانتحار بغزة)، يرى المختص النفسي والاجتماعي أبو هين أن المشاكل الحالية في قطاع غزة والتي تسهم بتفكير الشبان بالخلاص من الأعباء الملقاة عليهم بالانتحار أكبر بكثير من قدرة المؤسسات الدولية أو المحلية ومؤسسات الصحة النفسية لإيجاد حلول عامة لها. مضيفا: «قدرة المؤسسات تكمن في إيجاد حلول لمشاكل محددة وليس مشاكل عامة يتأثر بها غالبية الفلسطينيين في غزة».
ورأى أبو هين أن «الاحتلال الإسرائيلي يتحمل المسؤولية الأولى عن واقع الحال في الأراضي الفلسطينية وأنه يعمل منذ زمن طويل على خلخلة المجتمع، لكنه استدرك أهمية تحميل المسؤولية للساسة في فلسطين وأصحاب الانقسام. كما وصفهم. مشددا على أنهم هم من أوجدوا الحالة القائمة.
وأضاف: «لو أن الحياة سهلة كما قبل والمعابر مفتوحة وفرص العمل متوفرة، فلماذا ينتحر الشبان؟».
ويبقى هذا السؤل معلقا برسم إجابة الحكام في القطاع والضفة.



في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.