السعودية ـ لبنان: احتضان وإنقاذ

روابط اقتصادية وسياسية متينة.. قوضتها سياسة حزب الله ومواقف وزير الخارجية

السعودية ـ لبنان: احتضان وإنقاذ
TT

السعودية ـ لبنان: احتضان وإنقاذ

السعودية ـ لبنان: احتضان وإنقاذ

من السياسة إلى الاقتصاد تحفل العلاقات السعودية - اللبنانية التي يعود تاريخها إلى ما قبل «اتفاق الطائف» الذي كان له الدور الأكبر في إنهاء الحرب الأهلية، بروابط متينة في الحرب والسلم. وتكاد تختصر وصية الملك الراحل عبد العزيز آل سعود لأبنائه بقوله «لبنان وطنكم الثاني»، هذه المسيرة الطويلة التي وأن مرّت بـ«إخفاقات» محدودة في بعض المراحل إنما ليس على مستوى الدولتين، لم تصل إلى ما وصلت إليه اليوم بسبب سياسة لبنان الخارجية وإصرار بعض الأفرقاء وعلى رأسهم «حزب الله» على تحويله ساحة للحرب الإقليمية. ولم يكن قرار المملكة العربية السعودية الأخير بمراجعة العلاقات مع لبنان والتأييد الخليجي له، والذي تمثّل بوقف المساعدات الأمنية والعسكرية، إلا نتيجة لهذا التوجّه، وهو ما كان واضحا في قرار السعودية التي حمّلت حزب الله ووزير الخارجية اللبناني جبران باسيل مسؤوليته.
يصف عضو المكتب السياسي في «تيار المستقبل» راشد فايد العلاقة بين لبنان والمملكة العربية السعودية بـ«علاقة احتضان»، بحيث كانت المملكة تنظر إلى لبنان باعتباره أفضل فرصة للإطلالة إلى العالم العربي، فهي مقهى العرب وأرض ثقافاتهم وتنوع اهتماماتهم على العالم المتقدم». ويضيف في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مما لا شك فيه أن هذه العلاقة كانت دائما تبادلية متكافئة. فاللبنانيون نالوا الكثير من السعودية وهم قدموا لها أيضا». ويؤكد فايد: «لم يحدث مرة أن ساءت العلاقة بين البلدين على الصعيد الرسمي كما هو اليوم. حصل قبل ذلك بعض التوتّر حين كان في لبنان بعض الحركات اليسارية، إنما لم تصل إلى مرحلة إلقاء الأوصاف والمواقف العدوانية التي ترميها اليوم جماعة إيران، حتى إنه وبعد ما يعرف بحرب الـ1967 رفعت في المنطقة الشرقية صورة للملك فيصل بن عبد العزيز فيما رفعت فيما يعرف بالمنطقة الشرقية صورة للرئيس الفرنسي شارل ديغول».
وفي حين لفت فايد إلى «أنّ العالم العربي يتحمّل بعض المسؤولية لناحية ما وصل إليه الوضع اليوم في لبنان، لا، أن التطاول على السعودية بدأ منذ حرب يوليو (تموز) عام 2006 وهي التي أنشأت أطول جسر بري إغاثي للبنان»، يؤكد «أن السعودية محقّة في القرارات التي اتخذتها أخيرا، لا سيما أن كل ما يقوم به حزب الله يؤكد بما لا يقبل الشك هيمنته على مفاصل الدولة واعتماده سياسة التهويل الدائم واستعراض القوة لفرض موقفه على الجميع».
كان القرار السعودي الذي أعلن عنه بداية الأسبوع الماضي بإعادة النظر في علاقاتها مع لبنان ووقف الهبة العسكرية له، والبالغة أربعة مليارات دولار، نظرًا «للمواقف اللبنانية التي لا تنسجم مع العلاقات الأخوية بين البلدين»، قد شكّل مفاجأة في الأوساط اللبنانية التي حملت حزب الله ووزير الخارجية اللبناني جبران باسيل المسؤولية. وأتى هذا القرار بعد المواقف اتخذها باسيل وخرج فيها عن الإجماع العربي، حيث نأى بلبنان عن التضامن مع السعودية وإدانة إيران على خلفية التعدي على البعثات الدبلوماسية السعودية في طهران خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب الأخير في القاهرة، ومؤتمر دول منظمة المؤتمر الإسلامي.
وهنا يتطرق أستاذ التاريخ في الجامعة اللبنانية، الدكتور عبد الرؤوف سنّو، إلى محطات كثيرة مرّ بها لبنان كان للسعودية اليد الطولى في إنقاذه من أزماته بفعل «دبلوماسيتها الوسطية والهادئة»، معتبرا في الوقت عينه أن انكفاء المملكة يعني تقديم لبنان هدية إلى إيران وحزب الله. ويشرح سنّو في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «في فترة الحرب الأهلية بذلت المملكة جهودا لافتة رغم تعثرها في بعض الأحيان إلى أن نجحت في التوصل إلى (اتفاق الطائف) الذي أقر بتوافق دولي ورعاية سعودية، وما كان لينجح لولا دبلوماسية الملك سعود الفيصل بن عبد العزيز، وهو لا يزال لغاية اليوم يثبت أنه لا بديل عنه».
ويلفت سنّو «إلى أنه وبعدما وضعت الحرب أوزارها، وتحديدا في عام 1990 دعمت المملكة رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري في الوصول إلى رئاسة الحكومة وقدمت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي وإعادة إعماره وضخ الرأسمال السعودي حتى وصلت إلى مراحل ومستويات متقدمة في عام 2000».

تحولات ما بعد اغتيال الحريري
لكن ومنذ اغتيال الحريري في 14 فبراير (شباط) عام 2005 الذي نتج عنه تحولات في لبنان على مختلف الصعد، «بدأت السعودية تضغط على سوريا التي لطالما كانت تحاول التلاعب باتفاق الطائف إلى أن خرج الجيش السوري من لبنان، لكن المشكلة أنه ومنذ ذلك الحين بدأ حزب الله يمارس سياسته للتحكم بمفاصل القرار اللبناني» بحسب الدكتور سنّو، «وخير مثال على ذلك ما حصل بين عامي 2007 و2008 حين وصلنا إلى فراغ في رئاسة الجمهورية بعد القرار السوري بالتمديد للرئيس إميل لحود ثلاثة سنوات حتى عام 2007، ومن ثم اجتياح بيروت في 7 مايو (أيار) 2008، وبعد ذلك كان لها الدور في إعادة تصحيح الأمور إلى أن تم انتخاب الرئيس ميشال سليمان في 25 مايو 2008».
كذلك يشير سنّو إلى تسجيل بعض الانكفاء للمملكة في عام 2008 عند تهديد السفير السعودي لدى لبنان علي عواض عسيري حينها، بحيث سحبت بعض الودائع ومنع السعوديون من المجيء إلى لبنان، وقبل ذلك عند اشتداد الحملة من قبل حزب الله واعتصامه المفتوح في وسط بيروت عام 2007 بعد استقالة الوزراء الشيعة من الحكومة على خلفية دعوة الحكومة للطلب من مجلس الأمن الدولي إنشاء محكمة خاصة بلبنان.
ويجد الأكاديمي اللبناني أن البيان الوزاري الذي صدر عن الحكومة بعد اتخاذ السعودية قرارها بوقف المساعدات العسكرية للبنان، كان «مفخخا» لغويا من قبل حزب الله من خلال عبارة «التضامن في القضايا المشتركة»، وهو ما قد يترك الباب مفتوحا أمام التمادي في سياسته.
من جانب آخر، في كتابه «السعودية للبنان، قلوب وسواعد»، يشير الإعلامي منير الحافي إلى أنّه بعد اغتيال الحريري، برزت مرحلتان، «مرحلة حرب تموز»، والمرحلة التي تلتها من اشتداد الخلاف بين «الإخوة الأعداء». موضحا: «في الأولى وقفت المملكة داعمًا قويًا سياسيا واقتصاديا للبنان»، مذكرا بما قاله حينها خادم الحرمين الشريفين عبد الله بن عبد العزيز آل سعود: «إن دعم لبنان واجب علينا جميعًا، ومن يقصِّر في دعم لبنان فهو مقصِّر في حقّ نفسه وعروبته وإنسانيته»، وفي الثانية عملت لتقريب وجهات النظر بين أبناء البلد الواحد، وهنا تجلّى بوضوح «صبر أيوب» في الدور الذي قام به سفير المملكة عبد العزيز خوجة تنفيذًا لتوجهات خادم الحرمين الشريفين في العمل الجاد والسعي والاتصال لتقريب الأفكار المتباعدة.
والجدير بالذكر، أن السعودية ومنذ اليوم الأول لاندلاع «حرب تموز»، وقفت إلى جانب لبنان، وقد سارعت بعد عشرة أيام إلى وضع مليار دولار وديعة في مصرف لبنان، وقدمت هبة بقيمة 500 مليون دولار للمساهمة في إعادة الإعمار كما أرسلت 50 مليونا للمساعدات الإنسانية، كذلك تولت مهمة دفع كل الرسوم العائدة إلى تلاميذ المدارس الرسمية، وهو مبلغ يقدر بنحو 20 مليون دولار، وتبنت إعادة بناء 29 مدينة وقرية وبلدة.
وفي جدول قدمه رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة كرد منه على أمين عام حزب الله حسن نصر الله الذي نسب الأولوية في الإعمار لدولة إيران، أكد أنه ومن أصل المبالغ المالية التي قدمت للمشاريع الإنمائية والتربوية والأمنية والتي بلغ مجموعها 1186 مليون دولار أميركي، فقد بلغت حصة أو مساهمة المملكة العربية السعودية نحو 746 مليون دولار أميركي، أي ما يوازي نحو 63 في المائة من هذا المجموع.

علاقة تاريخية
وتاريخيا، كانت بداية العلاقات بين البلدين هو ما أرساه الرئيس كميل شمعون أول الرؤساء اللبنانيين الذي زار المملكة العربية السعودية، بعد تسلمه سدة الحكم عام 1952 على رأس وفد رسمي رفيع، وكان شمعون موضع حفاوة من الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، واتفق البلدان على أهمية الحوار والتفاهم وضرورة التعاون والتعاضد بينهما.
وبعد ذلك، وتحديدا خلال الحرب الأهلية التي بدأت عام 1975، كان للسعودية دور بارز في محاولات عدّة على خط التهدئة، وقد مرّ لبنان قبل ما يعرف بـ«اتفاق الطائف» بحرب بين أبنائه استمرت 15 سنة، وبلغت الأمور ذروتها مع حصول فراغ في سدة رئاسة الجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل، ومن ثم انقسام السلطة التنفيذية إلى حكومتين أولى برئاسة سليم الحص وثانية برئاسة ميشال عون، قبل أن يتفاقم الوضع مع إعلان العماد ميشال عون قائد الجيش بداية حرب التحرير من الوجود السوري في لبنان، فكان أن تداعى العرب إلى عقد قمة لحل الأزمة المتفاقمة في لبنان.
وقد أدى التدهور الأمني في لبنان الذي حدث في أواخر عام 1988 لقيام مؤتمر القمة العربي الطارئ في الدار البيضاء (23 - 26 مايو 1989)، بوضع آلية للوصول إلى تسوية للصراع اللبناني، تمثلت في تشكيل لجنة ثلاثية تضم الملك فهد بن عبد العزيز والملك الحسن الثاني والرئيس الشاذلي بن جديد، تكون مهمتها الأساسية القيام بالاتصالات والإجراءات التي تراها مناسبة بهدف توفير المناخ الملائم لدعوة أعضاء مجلس النواب اللبناني لمناقشة وثيقة الإصلاحات السياسية، وإجراء انتخابات رئاسة الجمهورية وتشكيل حكومة الوفاق الوطني على أن يجري ذلك في غضون فترة أقصاها ستة أشهر.
وفي 16 سبتمبر (أيلول) 1989، أصدرت اللجنة الثلاثية العربية بيان جدة، الذي كان من ضمن قراراته دعوة مجلس النواب اللبناني للاجتماع في 30 سبتمبر 1989، وذلك لإعداد ومناقشة وثيقة الوفاق الوطني، وقد تقرر بعد مشاورات كلف بها الأخضر الإبراهيمي أن يكون مكان الاجتماع مدينة الطائف في المملكة العربية السعودية. وفي الفترة من 30 سبتمبر إلى 22 أكتوبر (تشرين الأول) 1989، تم عقد اجتماع استثنائي لمجلس النواب اللبناني في مدينة الطائف السعودية، وتم إقرار وثيقة الوفاق الوطني اللبناني المعروفة باسم «اتفاق الطائف»، التي أكدت هوية لبنان العربية وجاءت بعدد من الإصلاحات في النظام السياسي اللبناني. صُدِق الاتفاق في جلسة مجلس النواب اللبناني بتاريخ 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989. وهو الذي أصبح فيما بعد بتاريخ 21 سبتمبر 1990 دستورا جديدًا للجمهورية اللبنانية.

القطاع الاقتصادي
وعلى الصعيد الاقتصادي، لا تقل العلاقات السعودية - اللبنانية عن السياسية والدبلوماسية، وهو ما يؤكد عليه رؤوف أبو زكي، رئيس مجلس الأعمال السعودي اللبناني، قائلا: «السعودية احتضنت لبنان سياسيا واقتصاديا منذ اتفاق الطائف وإعادة إعماره بعد الحرب الأهلية وصولا إلى حرب يوليو (تموز) عام 2006، ولم تترك وسيلة من وسائل الدعم إلا وقدمتها إلى لبنان». لكنه يضيف في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «منذ اندلاع الحرب السورية وتورّط بعض الأفرقاء اللبنانيين فيها بدأ هذا الأمر ينعكس على العلاقات السعودية - اللبنانية وما رافقها من توتّر وانقسام لبناني حاد، وتحوّل لبنان إلى مسرح للصراع الإقليمي».
ويضيف أبو زكي: «حركة السياحة والاستثمار شبه متوقفة منذ أكثر من ثلاث سنوات، وبعدما كان الأمر يقتصر على نصائح دول الخليج بعدم مجيء مواطنيها إلى لبنان، ها هو اليوم تطور ووصل إلى حد المنع ما سيؤدي إلى تكريس الوضع السلبي القائم». مضيفا: «المشكلة اليوم هي أنه وإضافة إلى القرار الرسمي أصبح هناك (اشمئزاز) شعبيا من قبل السعودية ودول الخليج».
ثم يوضح: «مع انكفاء حركة الخليج السياسية والاقتصادية والسياحية خسر لبنان الكثير من حجم الإنفاق الذي كان في معظمه يعتمد على الإنفاق الخليجي، خاصة أن أكثر من 30 في المائة من السياح هم من الخليجيين، مع التأكيد أن القيمة هي ليست بالعدد بل بحجم الإنفاق الكبير الذي كان هذا القطاع يعوّل عليه من الخليجيين، إذ إن إنفاق كل سائح خليجي في لبنان يوازي إنفاق نحو 200 سائح أوروبي». ويلفت إلى أنّ الاستثمارات السعودية والخليجية شبه متوقفة في لبنان منذ نحو ثلاث سنوات، متوقعا أن تزيد بعد القرارات الأخيرة في انحسار حركة الاستثمار السعودي والخليجي، وهو الأمر الذي كان له تأثير سلبي على الوضع الاقتصادي والنمو وحد من توفير فرص العمل وزاد من هجرة اللبنانيين إلى الخارج.
ومع إشارة أبو زكي إلى أنّ هناك نحو 500 ألف لبناني يعملون في الخليج، 250 ألفا منهم فقط في السعودية، فإنه يفيد بأنّ التحويلات من اللبنانيين المغتربين الموجودين في الخارج إلى لبنان تصل سنويا إلى 8 مليارات، 65 في المائة منها من الخليج. في المقابل، يوجد في السعودية نحو 500 مؤسسة لبنانية تعمل في السعودية، ويديرها لبنانيون كان لهم دور كبير أيضا في الاقتصاد السعودي، وفق أبو زكي. ومع الإشارة إلى أنّ كل لبناني يعمل في الخليج يعيل ما بين 3 إلى 4 أشخاص أي إن ثلث الشعب اللبناني يستفيد من هذه المداخيل، يدعو أبو زكي المسؤولين اللبنانيين إعادة حساباتهم والأخذ بعين الاعتبار مصالح المواطنين في الخليج. ومن هنا، يجد أبو زكي أن أفضل تعبير يمكن أن يطلق على الدور الذي لعبته المملكة في لبنان هو أنه دور «إنقاذي» فهو أكثر من الرعاية ولا يمتّ إلى الوصاية بصلة، وهو دور يعكس تقدير المملكة لأهمية لبنان في المنطقة وأهمية الحفاظ على استقراره وسلمه الأهلي، لأن السعودية تعلم أن أي أزمات يمرّ بها البلد لا بد أن تؤثر على المنطقة. هذا التكامل في المصالح والاحترام المتبادل كان دومًا وعبر السنين الأساس التاريخي المتين الذي بُنيت عليه العلاقات السعودية اللبنانية، وهو أساس لا بديل منه.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.