الجزائر: «الدولة العصرية» للقطيعة مع «دولة المخابرات»

التطورات في ضوء المراجعة الدستورية

أحمد بن بلة - هواري بومدين - «مجموعة الستة» (الستة التاريخيون: في الصف الأمامي من اليمين إلى الشمال العربي بن مهيدي  وكريم بلقاسم، وفي الصف الخلفي من اليمين  إلى الشمال محمد بوضياف 
وديدوش مراد  ومصطفى بن بولعيد ورابح بيطاط. - عبد العزيز بوتفليقة
أحمد بن بلة - هواري بومدين - «مجموعة الستة» (الستة التاريخيون: في الصف الأمامي من اليمين إلى الشمال العربي بن مهيدي وكريم بلقاسم، وفي الصف الخلفي من اليمين إلى الشمال محمد بوضياف وديدوش مراد ومصطفى بن بولعيد ورابح بيطاط. - عبد العزيز بوتفليقة
TT

الجزائر: «الدولة العصرية» للقطيعة مع «دولة المخابرات»

أحمد بن بلة - هواري بومدين - «مجموعة الستة» (الستة التاريخيون: في الصف الأمامي من اليمين إلى الشمال العربي بن مهيدي  وكريم بلقاسم، وفي الصف الخلفي من اليمين  إلى الشمال محمد بوضياف 
وديدوش مراد  ومصطفى بن بولعيد ورابح بيطاط. - عبد العزيز بوتفليقة
أحمد بن بلة - هواري بومدين - «مجموعة الستة» (الستة التاريخيون: في الصف الأمامي من اليمين إلى الشمال العربي بن مهيدي وكريم بلقاسم، وفي الصف الخلفي من اليمين إلى الشمال محمد بوضياف وديدوش مراد ومصطفى بن بولعيد ورابح بيطاط. - عبد العزيز بوتفليقة

يدور في الجزائر راهنًا حديث عن «تأسيس جمهورية ثانية» وعن «دولة مدنية» و«مناخ جديد تسوده الحريات»، وذلك في ضوء التعديل الدستوري الذي صادق عليه البرلمان الجزائري يوم الأحد 7 فبراير (شباط) الحالي، بنسبة تأييد كبيرة فاقت 90 في المائة. والفكرة الرئيسية التي يتداولها المدافعون عن مراجعة الدستور، هي أن الدستور الجديد أحدث قطيعة بين عهد سيطر فيه جهاز المخابرات العسكري على كل مناحي الحياة، وعهد جديد نقيض الأول.

كان أول من أعطى مؤشرات عن تحوَل لافت في الدولة الجزائرية، على صعيد ممارسات نظام الحكم، عمّار سعداني، أمين عام حزب الأغلبية «جبهة التحرير الوطني».. ففي مطلع 2014 هاجم سعداني بحدة رئيس «دائرة الاستعلام والأمن» بوزارة الدفاع الفريق محمد مدين، الشهير بـ«الجنرال توفيق».
كلام سعداني الذي أدلى به لصحيفة إلكترونية محلية، لم يسبقه إليه أحد. ولعل من أخطر ما قال سعداني إن الجنرال الذي كان بعبعًا في البلاد، مسؤول عن اغتيال الرئيس الأسبق الراحل محمد بوضياف عام 1992، ومسؤول عن التقصير في حماية الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة من محاولة الاغتيال التي تعرّض لها في 2007. وكذلك هو مسؤول عن الانشقاقات التي وقعت في أحزاب المعارضة، وعن سجن المئات من الكوادر التي سيرت الشركات العمومية.
ومن ثم، عُدّ أن كلام سعداني بحق «توفيق» يعكس شيئًا ما غير عادي في الدولة؛ ذلك أن الصحف ما كانت تجرؤ أصلاً على ذكر اسم الضابط الكبير، وتعلم أنه حريص على البقاء «وراء الستار». وكان معروفًا عنه أنه لا يظهر إلى العلن أبدًا، ولم يتعرّف الجزائريون على ملامحه إلا يوم عزله في 13 سبتمبر (أيلول) الماضي، بعد 25 سنة من رئاسته الجهاز الأمني القوي.
هجوم سعداني تلته سلسلة تغييرات مهمة في المخابرات التي تعد العمود الفقري للجيش منذ أيام «جيش التحرير الوطني» وصراعه مع الاستعمار الفرنسي. ولقد بدأت بإلغاء «شرطة المخابرات» التي كان سببًا في متابعة مسؤولين بارزين بتهم الفساد، بعضهم مقرب من رئيس الجمهورية. وتوالت التغييرات بتجريد المخابرات من صلاحية تسيير الأمن الرئاسي وأمن الجيش، وإلحاق هذين النشاطين برئاسة أركان الجيش. وبذا انتقل النفوذ في المؤسسة العسكرية من مركزه القديم؛ أي المخابرات ورئيسها، إلى القطاع العسكري العملياتي المولج التعبئة في حالة الحرب، ومنه أضحى قائد أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح، أقوى رجل في الجيش. ومعروف عن صالح شدة ولائه للرئيس بوتفليقة، على عكس «توفيق» الذي عارض ترشحه لولاية رابعة في 2014، ووقف ضد هذه التغييرات.

* الإصلاح الدستوري لتفادي الربيع العربي
بالموازاة مع هذه التطورات، كانت الرئاسة بصدد تنفيذ خطة إصلاحات سياسية، تعهد بها بوتفليقة في ربيع 2011 لتفادي توسع دائرة «الربيع العربي» وشمولها الجزائر؛ إذ وصلت «عدوى» الإطاحة بالأنظمة حينذاك إلى ليبيا، وشعر النظام الجزائري بأن «ساعته» حانت، فسارع إلى إطلاق وعود بتغيير بعض القوانين ذات الصلة بالحريات وممارسة الديمقراطية. وقرّرت الحكومة الترخيص لنحو 20 حزبًا، كانت تعطل نشاطهم بحجة أنه «لا جدوى من إنشاء أحزاب جديدة لوجود أكثر من 60 حزبا في الساحة السياسية».
وتفاءلت الطبقة السياسية خيرًا، وقال نشطاؤها إن بقاء النظام أفضل من «التوجّه إلى المجهول».. فالتغيير في مخيال قطاع واسع من الجزائريين يعني العودة إلى سنوات الإرهاب المدمر، ومجرد استحضار صور آلاف القتلى والخراب في البنية التحتية كفيل برفض أي فكرة تدعو إلى نقل البلاد إلى مرحلة جديدة. وحقًا، استغل موالون للرئيس هذه الحقيقة، واستثمروها في حملة انتخابات الرئاسة في 2014 التي لم يشارك فيها الرئيس رغم ترشحه بسبب المرض، وردّدوا بشكل صريح ما يلي: «ستلقى الجزائر مصير ليبيا في حال عدم التجديد».
لقد استغرقت بلورة الدستور الجزائري الجديد قرابة 5 سنوات، حشد خلالها الرئيس تأييد كل أحزاب «الموالاة» ومئات التنظيمات والجمعيات والنقابات لصالح المسعى، في حين قاطعت مشاورات الدستور كل أحزاب المعارضة، التي قالت إنها «تشتم رائحة ربح الوقت» على أساس أن النظام يجد دائمًا شيئًا يلهي به الجزائريين عندما يكون في مأزق، واتهمته بأنه غير جادٍ في إحداث التغيير.
وفي خضم هذه التطورات السريعة، تم اللجوء إلى قرار وإطلاق فكرة.
«القرار» يتعلق بمنع الجزائريين مزدوجي الجنسية من الوصول إلى المناصب الحساسة في الدولة. وأوحى ذلك بأن بوتفليقة يريد التخلص من أشخاص أصبحوا عبئًا عليه بحكم ارتباط مصالحهم الشخصية مع بلدان غربية، خصوصا فرنسا. ويُشاع في الأوساط السياسية حاليًا، أن التعديل الحكومي المرتقب بعد صدور الدستور الجديد، سيشهد خروج بعض الوزراء الذين يحملون الجنسية الفرنسية إلى جانب الجزائرية. وستتبع ذلك «حملة تطهير» تخص مزدوجي الجنسية في الوظائف الحكومية الكبيرة.
أما «الفكرة» فهي تعيين وزير دفاع مدني، في مستقبل قريب، لأول مرة في الجزائر. وسيكون هذا الوزير مطالبًا بالنزول إلى البرلمان لمناقشة موازنة وزارة الدفاع الضخمة (14 مليار دولار سنويا)، وهو ما لم يفعله شاغل منصب وزير الدفاع منذ الاستقلال، الذي جمع دومًا بين الوزارة ورئاسة الجمهورية.
أول من روج لهذه الفكرة، المستشار بالرئاسة كمال رزاق بارة، الذي قال للإذاعة الحكومية: «إن التوازنات الجديدة في مجتمعنا والتحديات المطروحة أمامنا تفرض أن تكون لمؤسسات مدنية وجمهورية الغلبة على المؤسسة العسكرية في تسيير البلاد». وقصد بذلك أن تدار شؤون السياسة والحكم المدني من طرف مؤسسات مدنية لا الجيش. وأضاف: «ربما سنشهد في المستقبل نزول وزير دفاع مدني إلى البرلمان لشرح ميزانية المؤسسة العسكرية وتبريرها، وهذه المرحلة تؤكد فعلاً إرادة لبناء دولة مدنية».
وعن التغييرات التي أدخلت على الجهاز الأمني، قال بارة: «إصلاح مصالح الأمن يعكس إرادة رئيس الجمهورية في إقامة دولة عصرية، ويندرج في إطار استكمال بناء جزائر المستقبل. يجب على كل واحد في المرحلة المقبلة، أن يؤدي دوره في إطار دولة عصرية، حيث يتم احترام مبدأ التداول على المناصب (..) أما عن تدخل العسكريين في تعيين مدنيين في مناصب المسؤولية، فينبغي أن يضبط ضمن المادة (25) من الدستور، التي تقول إن مهام الجيش هي حماية السيادة والوحدة الوطنية والحدود من المخاطر».
وكان بارة أول مسؤول بارز برئاسة الجمهورية يتحدث، وبشكل واضح، عن التغيير الذي جرى في المخابرات وعن أهداف هذا التغيير. وكلام بارة بهذا الخصوص يفهم منه أن الأمر يتعلق بقطيعة بين فترتين؛ فترة هيمنة المخابرات على الحياة السياسية بقيادة «الجنرال توفيق»، وفترة جديدة تمثل نقيض الأولى.

* التغييرات عززت موقع النظام
خالد شبلي، الباحث في القانون الدستوري والشؤون البرلمانية، يعلّق بخصوص التطوّرات الكبيرة في البلاد، لـ«الشرق الأوسط» قائلاً: «التعديل الدّستوري في الجزائر، وفقًا للقراءة القانونية، يندرج في إطار مواصلة مسار الإصلاحات السياسية؛ فقد جاء فيه أن الهدف من هذا المشروع ملائمة القانون الأسمى للبلاد مع المتطلبات الدّستوريّة التي أفرزها التطور السريع لمجتمعنا، والتحولات العميقة الجارية عبر العالم، وذلك من خلال تعزيز مبدأ الفصل بين السلطات، وتدعيم استقلالية القضاء ودور البرلمان، وتأكيد مكانة المعارضة وحقوقها، وضمان المزيد من الحقوق والحريات للمواطنين. أما من الناحية السياسية، فمن البديهيات المسلم بها في علم السياسة والنّظم السياسية أن أي نظام سياسي في أي بلد ما، يعمل باستمرار لكي يبقى، ويظل في السلطة. وبذلك يكيف نفسه مع مختلف المستجدات. ولا يوجد نظام سياسي في العالم يعمل ضد مصلحته الرامية للبقاء، ولذا فإن هذا التعديل جاء ضمن هذا السياق».
وأضاف شبلي: «مصطلح الدولة المدنية، الذي جرى الحديث عنه كثيرًا في البلدان العربية في الآونة الأخيرة، ومنها الجزائر، بمناسبة التعديل الدستوري، مصطلح غربي بالأساس يقصد به الدولة اللائكية (العلمانية)، على نقيض الدولة الدينية التي كانت مسيطرة على مقاليد الحياة العامة في أوروبا في عصر الظلام، الذي عرفته أوروبا، والذي تزامن مع عصر النهضة الإسلامية في الشرق. أما توظيف هذا المصطلح في الجزائر، فجاء في سياق الإشارة إلى أن الجزائر، حاليًا، في مرحلة جديدة تهدف إلى تجديد الأطر الناظمة للحكم بما يتماشى مع مشروع مجتمع يتبنى طرح تعزيز دولة القانون والمؤسسات. وبصراحة، فإنه طرح سياسي أكثر منه قانونيا، لأنه من الناحية الدستورية في الجزائر، الإسلام هو دين الدولة، وهذا إذا كان المقصود بمشروع الدولة المدنية الدولة اللائكية. أما إذا كان المقصود بالدولة المدنية هو الفصل بين السلطة المدنية والعسكرية، فهذا طرح آخر».
وتابع شبلي: «إذا كان التعديل الدستوري الجديد، يكرّس لبناء جمهورية ثانية في الجزائر، فتجب الإشارة هنا إلى أن مصطلح (الجمهورية الأولى) أو (الثانية) أو (الثالثة)، أو (الرابعة).. مصطلح مأخوذ من التجربة الفرنسية، التي كرّست لهذا المفهوم، حيث ربطت بين التجديد الدستوري للدولة، وقيام الجمهوريات المتعاقبة. وضمن هذا الطرح، فإننا نقول بأننا لسنا أمام (الجمهورية الثانية)، بل أمام بناء (الجمهورية الخامسة)، منذ دستور 1963، إذا ما تمّ الربط بين إقرار الدستور والتجديد الجمهوري.. فالجمهورية الأولى مع دستور 1963، والثانية مع دستور 1976، والثالثة مع دستور 1989، والرابعة مع دستور 1996، والخامسة، حاليا. إذا ما جرى الأخذ بهذا الطرح الفقهي».
ويرى الباحث أن الدستور «ما هو إلا اجتهاد بشري يتطوّر باستمرار من أجل تكريس نظام حكم أكثر فعالية، بما يساهم في تفعيل العقد الاجتماعي القائم بين الحرية والسلطة. لذا يجب على الجميع احترامه والتقيد به، مهما اعترته نقائص أو سلبيات. إن القراءة القانونية للوثيقة الدستورية تخبرنا بأنّ الدستور دستور الشعب الجزائري، الذي أقره ممثلوه في البرلمان، وليس دستور شخص أو فئة معينة. أما القراءة السياسية، فتتلخص في أن الجزائر تسير بخطى ثابتة نحو تداول سلمي وسلس للسلطة، ستفرز تجديد النظام الجمهوري القائم في البلد».

* قفز نحو المجهول!
ولكن بعكس هذا الطرح تماما، يقول حسني عبيدي مدير «مركز الدراسات والأبحاث حول العالم العربي والمتوسط بجنيف» لـ«الشرق الأوسط» موضحًا: «الإصلاحات الدستورية التي أدخلها بوتفليقة لا تحمل من الدستورية إلا الاسم. التعديلات أتت متأخرة بعد انتظار طويل على أن تكون في مستوى تحديات المرحلة وتقلبات المنطقة، غير أنها جاءت مخيبة للآمال، لأنها تفتقر للحد الأدنى للمصداقية الدستورية، بعد تمريرها بطرق ملتوية، وتتهرّب من معضلة الشرعية الدستورية التي يفتقدها النظام. لقد تم التصويت عليها وكأنها لا تهم الشعب الجزائري؛ بل شعبًا افتراضيًا. وهذا الأخير بدوره يعيش في قطيعة مع نسق سياسي لا يمثله ولا يعترف به. من هنا، فإن التعديل الأخير يعد حدثًا عرضيًا. والرئيس نفسه لا يعيره أي اهتمام. إن ما يشغل الرئيس هو تجديد نظامه السلطوي، وتوسيع دائرة المرتزقين وزبناء النظام، وتأمين مساره ومستقبله. وهنا أظهر الرئيس قدرة فائقة في تقزيم أي سلطة مضادة أو مشروع سلطة مضادة في التوقيت السيئ».
وأضاف عبيدي – وهو جزائري – أن «فتح ورشة تخصّ المؤسسة الأمنية استعمله الرئيس للتغطية على الفشل الذريع في الإحاطة بالتحديات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. وقد أنهك هذا التصرف الدولة وجعلها تدور في حلقة مفرغة. أكثر من ذلك، من شأنه أن يضعف مؤسسة أمنية استطاعت أن تحافظ على مقومات الدولة في العشرية السوداء (فترة الإرهاب) وبعدها. إن الزجّ بالمؤسسة الأمنية في صراع البقاء قبل الشروع في إصلاحات سياسية حقيقية، بمرجعية مستمدة من الشرعية المفقودة، قفز نحو المجهول. من هنا، فإن مدنية الدولة التي يصفّق لها النظام، أول من سيعمل على تقويضها هو رأس النظام. في ظل غياب عقد اجتماعي حقيقي، فإن الحديث عن المدنية ترف سياسي. وبالمحصلة، فما يجري في الجزائر من شأنه أن ينقلها إلى عهد يكرّس سراب الاستقرار، بدل تكريس الإصلاح من أجل الاستقرار الحقيقي».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.