آيديولوجية تطبيق الشريعة

قراءة نقدية في كتاب «السياسة الشرعية مدخل لتجديد الخطاب الإسلامي»

آيديولوجية تطبيق الشريعة
TT
20

آيديولوجية تطبيق الشريعة

آيديولوجية تطبيق الشريعة

كتاب «السياسة الشرعية مدخل لتجديد الخطاب الإسلامي» للباحث الأردني الدكتور عبد الله إبراهيم زيد الكيلاني الذي نتناوله هنا بالدراسة النقدية، يستبطن رؤية للعالم، وهي رؤية سابقة عن المنهج. ويبدو أن صاحبه لا يريد أن يُظهر للقارئ في المقدمة، أو في الفصول الأربعة المكونة للدراسة، أنه يدافع عن فكرة مركزية مخفية، وهي «تطبيق الشريعة الإسلامية»، ولذا بث الفكرة بشكل نسقي في البحث كله.
يتسم كتاب «السياسة الشرعية مدخل لتجديد الخطاب الإسلامي» للدكتور عبد الله إبراهيم زيد الكيلاني، وهو عمل بحثي رصين، بجدية لا غبار عليها، واستطاع مؤلفه أن يتجاوز بعض مطبّات الفقه التقليدي الإسلامي المتخلف، كما اتسم بوسطية واعتدال فكري، دعمه بمنهج وخلفية مقصدية تجديدية من داخل مدرسة التأصيل. ولذا ظل وفيًا لهذا المنظور والمقصد، وجعل كل واحد منهما في خدمة الآخر. ولقد أبان الدكتور الكيلاني عن جدية وقدرة كبيرة في هذه القضية. ومن المسائل المثيرة والمفسرة لما أقصده هنا استدعاء الباحث بشكل جيد لما سماه «نظرية العموم» عند العلامة الشاطبي، ليجمع بين النص باعتباره مقولة مرجعية، والقصد باعتباره مآلا يراعي النتائج، ويستحضر مبدأ رفع الحرج، والمصلحة. ومن ذلك، استشهاده بقول العزّ بن عبد السلام «ومن اتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها، وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها إجماع ولا نص ولا قياس خاص، فإن فهم نفس الشرع يُوجبُ ذلك» (ص 57).
غير أن هذا المجهود سرعان ما يدخلنا لدائرة الالتباس الفكري الذي يمثله هذا النموذج من المنظّرين؛ حيث يلجأ الباحث بشكل متكرّر للقياس والرأي المعروف في الفقه التقليدي الإسلامي، ما يحقق استجلابًا لحكم من الماضي على وقائع سياسية معاصرة، في واقع عربي وإسلامي أكثر تعقيدا وتركيبا من حيث الظروف والدوافع، من خبرة الصحابة وما يطلق عليه «الخلافة الراشدة».
ليس هذا وحسب، بل إننا نجد الكاتب يعتمد مصطلح «علم السياسة الشرعية»، وهو ما يذكّرنا بمجهود سيف الدين عبد الفتاح وغيره في الدعوة لـ«علم سياسة إسلامي». وحينما نتتبع هذه الدراسة المتكونة من المقدمة وأربعة فصول، نسجل إخفاق الدكتور الكيلاني، في بيان المراد مما يقصده بعلم السياسة الشرعية، ومما زاد الأمر تعقيدا استعماله بمعان بعيدة عنه، مثل ما هو مقرّر (في الصفحة 15) عندما تطرق الباحث، لأدب السياسة عند الماوردي.
ولدى العودة لطريقة عرض الأفكار في الكتاب، فإن أول ما يسترعي انتباه المطلع على كتاب السياسة الشرعية مدخل لتجديد الخطاب الإسلامي، هو كثرة التعريفات. ومن ذلك تعريفه السياسة الشرعية بكونها «خطة لتشريع الأحكام الفقهية فيما لا نص فيه، وتطبيق الأحكام فيما فيه نص»، وهذا الاختزال الآيديولوجي لمفهوم السياسة، يراد به خدمة الفكرة المركزية المتمحوِرة حول تطبيق الشريعة، باعتبارها نواة ماهية الشرعية السياسية وعلة وجودها.
وهي كذلك -حسب صاحب الكتاب- تستند على مرتكزات من أهمها: «فهم النص وفق المنهج الشرعي ولا يقتصر المنهج الشرعي في المعنى القاموسي للفظ، بل يفهم النص على ضوء حكمته وعلته، طبقا لأساليب اللغة العربية، كما أن من مرتكزات السياسة الشرعية مراعاة فهم النصوص الجزئية بما لا يهدر المقاصد الكلية، إضافة إلى فهم الواقع الاجتماعي. ومن ثم وضع التدابير التي يتم بها تنظيم شؤون الأمة، ومرافقتها بما يتفق وروح الشريعة، وأصولها الكلية، ولو لم يرد فيها شيء من النصوص التفصيلية الجزئية الواردة في الكتاب والسنة».
وبعد أن يستعمل الباحث الأردني هذه التعاريف في تحليله ودفاعه عن «السياسة الشرعية»، وضرورتها في الواقع السياسي العربي المعاصر، يعود بنا من جديد ليصكّ تعاريف جديدة لغرض جديد، مرتبط بفكرة مركزية غير معلنة (تطبيق الشريعة). فالسياسة الشرعية تعني السياسة التشريعية: «وهي تدبير شؤون الأمة، وتنظيم مرافقها بما يتفق وروح الشريعة، وأصولها الكلية، ولو لم يرد فيه شيء من النصوص التفصيلية الجزئية الواردة في الكتاب والسنة». ويضيف أن هذه الماهية تتجاوز الفقه الجنائي (الحدود)، وتتجاوز النص الأصلي، ليقصد بها ما وافق الشرع، وما لم يخالف الشرع، كما ذهب إلى ذلك ابن القيم الجوزية. بمعنى أن السياسة الشرعية هي تدبير الشأن العام، أو تدبير الاجتماع الإنساني.
وبناءً عليه، وبخلفية رجل القانون، يخلص الدكتور الكيلاني السياسة التشريعية في كونها «خططًا تشريعية عامة ينبسط ظلها على التشريع كله، تقوم على المواءمة والتوفيق بين مصلحة الأصل من النصوص، وما يقتضيه إصلاح الواقع بظروفه الملابسة، أو الإتيان بحكم مناسب تجتهد فيه، يؤثر في معالجة الواقع»، الفقه السياسي يدور مدار المصلحة.
بالعودة للمعلن والظاهر، يؤكد الباحث في كتابه، أن دراسته هذه تأتي لتلقي مزيدًا من الضوء «على المعالجات الشمولية، وذلك بغرض تحليل تطبيقات الرسول (صلى الله عليه وسلم) والصحابة الكرام، ونماذج من فهم علماء الإسلام عبر التاريخ، وبيان كيف استندت تلك المعالجات إلى منهج شمولي فَهِم الواقع، فأدرك الحكم المناسب للواقع».
وفي الوقت الذي يعتبر «السياسة الشرعية» أداة الفقيه لتقديم المعالجات الفقهية التي يتصدّى لها المجتهد اليوم يرى أن السياسي يهمه النجاح. وبما أن السياسات عند الباحث هي أداة تنفيذ الأفكار، فإن صاحب «كتاب السياسة الشرعية» يهدف للجمع بين مهمة، الفقيه الناظر لصحة تطبيق القانون والسياسي الساعي للنصر، ويعتبر هذا الجمع مدخلا لتجديد الخطاب الإسلامي. وبالنسبة للباحث فالسياسة تستند إلى مرتكزات من أهمها: أولا، الفهم المقاصدي للنص. وثانيا، فهم النصوص على ضوء العموم المعنوي لا العموم اللغوي فحسب.
في الخبرة العربية الإسلامية لم يكن التنظير السياسي غائبًا في مجال الفقه والفكر الديني عمومًا لكنه قليل. ولم تكن الأدبيات متخصّصة في مجال السياسة الشرعية، بل كانت ذات صلة بأدباء وفلاسفة (الفارابي وابن سينا، تمثّلا منهج أرسطو وأفلاطون). في حين تأثر الفقه بشدة بعلم الكلام وجدله، ولذا كانت السياسة الشرعية في عمومها هي مجرد نصائح تهم التنظير للتدبير السلطاني. وبالتالي، غاب الجانب الحديث من علم السياسة، باعتباره علم دراسة السلطة، وليس هناك ما يوازيه في الخبرة التنظيرية الإسلامية القديمة. كذلك غاب الفقه الدستوري المتناول لتنظيم العلاقة بين السلطات في الدولة، لأن الفقه السياسي ركّز على مَن يتولى الإمامة، وكرّس أحادية السلطة واختزالها في شخص الحاكم متغلِّبًا كان، أم مبايَعًا من أهل الحل والعقد.
ومن هنا فإن حضور بعض الأفكار التي يمكن فهمها اليوم وتنسيبها لعلم القانون الدستوري، أو الإداري أو علم السياسة، لا يجب أن يحجب عن الباحثين حقيقة تاريخية هي أن التنظير الإسلامي لم يقصد بناء مثل هذه العلوم، ولا كان واقع الخبرة الإسلامية يسمح للفقيه بإبداع علم سلطة خاص بهذه الخبرة. والكتاب الذي بين أيدينا، وإن حاول استحضار هذه المعطيات، فإنه لم يتنبه لحقيقة كبرى هي ماهية السياسة الشرعية في ظل الدولة الحديثة. ذلك أن علم السياسة الغربي لم يولد إلا في ظل المرجعية العليا العَلمانية لهذه الدولة. وعلم السياسة الشرعية اليوم، لا يجب أن يكون علمًا دفاعيًا يقتات على القياس الفقهي، بل يجب أن ينطلق من قيم الإسلام وكليات القرآن لخلق نظرية جديدة في السلطة، تقطع مع الفقه التقليدي المتخلف، وتتجاوز مادية علم السياسة المعاصر. وبالتأكيد فهذه الغاية لن يصل إليها الفكر الإسلامي المعاصر بتبنيه لـ«أسلمة العلوم» ولا بنظرية التأصيل، لأن نظرية الأسلمة والتأصيل، هي تعبير عن ضيق أفق الفقيه والمفكر، وهذا الضيق ناتج عن معرفة دينية منغلقة تعتبر العلم محدودا في دائرة ما نص عليه الديني نفسه.
وواضحٌ أن الدكتور الكيلاني ملمٌّ بقضية الاجتهاد والإبداع، لكنه استعملها بشكل متواضع، لتجاوز الأدبيات السياسية للخبرة العربية التقليدية. ولم ينظر إلى تجاوز النظرية الغربية التي عمّمت تجربة الدولة القُطرية الحديثة على الأمة الإسلامية. والباحث وهو يدعو لفقه الواقع، استحضره في السياسة التشريعية المدنية المتعلقة بالإرث والأحوال الشخصية، والمشاركة السياسية في بلاد الغرب (ص 28) بشكل اجتهادي بارز. لكنه في مجال السياسات العمومية، ظل دفاعيًا، بل نهج في بعض الأحيان منهج الأدب السلطاني الاستبدادي. ومن ذلك تناوله بشكل تدبيري ما أطلق عليه مجالات تطبيق السياسة الشرعية في «الاقتصاد» (ص 45 وما بعدها).
وعلى الرغم من أن صاحب الدراسة، دافع عن مقاصد الشريعة ونجح في توسيع مفهوم الشورى، ودافع عن اعتماد الأغلبية والترجيح بها، مستندا بذلك على أطروحة عالم المقاصد الدكتور أحمد الريسوني، فإنه لم يذهب في ذلك لأبعد الحدود في التنظير لمأسسة السلطة والخروج من دائرة الحاكم الفرد، التي أفرزها التاريخ القَبَلي للسلطة. ولذلك تراه يتحدث عن ولي الأمر ويمنحه حقوقا في السياسة الشرعية، في المجال التشريعي والتنظيمي، وتجنَّبَ الخوض في علاقة السياسة القضائية بولي الأمر.
ولقد كان على الباحث أن يتجه لأصل العملية السياسية والسلطة في الإسلام، وهي الأمة. ويبدو أن اختياره في السياسة الشرعية، اتجه صوب مناقشة «السلطة» السياسية، التي اختزلها تارة في الفقيه، وتارة في الإمام، وتارة أخرى في أهل الحل والعقد. وكل هذه المنطلقات تكرّس التأصيل الديني للاستبداد السياسي، وتؤدي للاحتراب الأهلي حول السلطة.
ثم أن قلة اهتمام الكاتب بمصدر السلطة، جعل من بحثه تنظيرا وشرعنة لتأسيس سلطة فوقية لا تستمد شرعيتها من الأمة، أو الأمة الشعب في الدولة القُطرية المعاصرة، وبالتالي نسف دفاعه عن الديمقراطية والأغلبية. أضف إلى ذلك أن صاحب الكتاب، لم يتطرق لمسألة في غاية الأهمية وهي علاقة السياسة الشرعية بمنظومة الدولة الحديثة. وخصوصا جانب المأسسة التي تشكل تجربة خارج الخبرة العربية الإسلامية. فالسلطة لم تعد بيد الفقيه ولا الإمام أو الخليفة، بل موزعة على مؤسسات متشابكة ومركبة، تكون الدولة.
في مطلق الأحوال، يمكن اعتبار كتاب «السياسة الشرعية مدخل لتجديد الخطاب الإسلامي» للدكتور عبد الله إبراهيم زيد الكيلاني، نموذجا بارزا للعودة الملتبسة فكريًا لتناول السلطة السياسية من زاوية فقهية. وهو على الرغم من خلفيته المقاصدية ومنطلقه المعتدل والوسطي، دافع عن فردانية السلطة واستبدادية الحاكم، كما نظّر للفقه التقليدي السلطاني باسم الإسلام.
* أستاذ العلوم السياسية جامعة محمد الخامس – الرباط



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT
20

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.