آيديولوجية تطبيق الشريعة

قراءة نقدية في كتاب «السياسة الشرعية مدخل لتجديد الخطاب الإسلامي»

آيديولوجية تطبيق الشريعة
TT
20

آيديولوجية تطبيق الشريعة

آيديولوجية تطبيق الشريعة

كتاب «السياسة الشرعية مدخل لتجديد الخطاب الإسلامي» للباحث الأردني الدكتور عبد الله إبراهيم زيد الكيلاني الذي نتناوله هنا بالدراسة النقدية، يستبطن رؤية للعالم، وهي رؤية سابقة عن المنهج. ويبدو أن صاحبه لا يريد أن يُظهر للقارئ في المقدمة، أو في الفصول الأربعة المكونة للدراسة، أنه يدافع عن فكرة مركزية مخفية، وهي «تطبيق الشريعة الإسلامية»، ولذا بث الفكرة بشكل نسقي في البحث كله.
يتسم كتاب «السياسة الشرعية مدخل لتجديد الخطاب الإسلامي» للدكتور عبد الله إبراهيم زيد الكيلاني، وهو عمل بحثي رصين، بجدية لا غبار عليها، واستطاع مؤلفه أن يتجاوز بعض مطبّات الفقه التقليدي الإسلامي المتخلف، كما اتسم بوسطية واعتدال فكري، دعمه بمنهج وخلفية مقصدية تجديدية من داخل مدرسة التأصيل. ولذا ظل وفيًا لهذا المنظور والمقصد، وجعل كل واحد منهما في خدمة الآخر. ولقد أبان الدكتور الكيلاني عن جدية وقدرة كبيرة في هذه القضية. ومن المسائل المثيرة والمفسرة لما أقصده هنا استدعاء الباحث بشكل جيد لما سماه «نظرية العموم» عند العلامة الشاطبي، ليجمع بين النص باعتباره مقولة مرجعية، والقصد باعتباره مآلا يراعي النتائج، ويستحضر مبدأ رفع الحرج، والمصلحة. ومن ذلك، استشهاده بقول العزّ بن عبد السلام «ومن اتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها، وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها إجماع ولا نص ولا قياس خاص، فإن فهم نفس الشرع يُوجبُ ذلك» (ص 57).
غير أن هذا المجهود سرعان ما يدخلنا لدائرة الالتباس الفكري الذي يمثله هذا النموذج من المنظّرين؛ حيث يلجأ الباحث بشكل متكرّر للقياس والرأي المعروف في الفقه التقليدي الإسلامي، ما يحقق استجلابًا لحكم من الماضي على وقائع سياسية معاصرة، في واقع عربي وإسلامي أكثر تعقيدا وتركيبا من حيث الظروف والدوافع، من خبرة الصحابة وما يطلق عليه «الخلافة الراشدة».
ليس هذا وحسب، بل إننا نجد الكاتب يعتمد مصطلح «علم السياسة الشرعية»، وهو ما يذكّرنا بمجهود سيف الدين عبد الفتاح وغيره في الدعوة لـ«علم سياسة إسلامي». وحينما نتتبع هذه الدراسة المتكونة من المقدمة وأربعة فصول، نسجل إخفاق الدكتور الكيلاني، في بيان المراد مما يقصده بعلم السياسة الشرعية، ومما زاد الأمر تعقيدا استعماله بمعان بعيدة عنه، مثل ما هو مقرّر (في الصفحة 15) عندما تطرق الباحث، لأدب السياسة عند الماوردي.
ولدى العودة لطريقة عرض الأفكار في الكتاب، فإن أول ما يسترعي انتباه المطلع على كتاب السياسة الشرعية مدخل لتجديد الخطاب الإسلامي، هو كثرة التعريفات. ومن ذلك تعريفه السياسة الشرعية بكونها «خطة لتشريع الأحكام الفقهية فيما لا نص فيه، وتطبيق الأحكام فيما فيه نص»، وهذا الاختزال الآيديولوجي لمفهوم السياسة، يراد به خدمة الفكرة المركزية المتمحوِرة حول تطبيق الشريعة، باعتبارها نواة ماهية الشرعية السياسية وعلة وجودها.
وهي كذلك -حسب صاحب الكتاب- تستند على مرتكزات من أهمها: «فهم النص وفق المنهج الشرعي ولا يقتصر المنهج الشرعي في المعنى القاموسي للفظ، بل يفهم النص على ضوء حكمته وعلته، طبقا لأساليب اللغة العربية، كما أن من مرتكزات السياسة الشرعية مراعاة فهم النصوص الجزئية بما لا يهدر المقاصد الكلية، إضافة إلى فهم الواقع الاجتماعي. ومن ثم وضع التدابير التي يتم بها تنظيم شؤون الأمة، ومرافقتها بما يتفق وروح الشريعة، وأصولها الكلية، ولو لم يرد فيها شيء من النصوص التفصيلية الجزئية الواردة في الكتاب والسنة».
وبعد أن يستعمل الباحث الأردني هذه التعاريف في تحليله ودفاعه عن «السياسة الشرعية»، وضرورتها في الواقع السياسي العربي المعاصر، يعود بنا من جديد ليصكّ تعاريف جديدة لغرض جديد، مرتبط بفكرة مركزية غير معلنة (تطبيق الشريعة). فالسياسة الشرعية تعني السياسة التشريعية: «وهي تدبير شؤون الأمة، وتنظيم مرافقها بما يتفق وروح الشريعة، وأصولها الكلية، ولو لم يرد فيه شيء من النصوص التفصيلية الجزئية الواردة في الكتاب والسنة». ويضيف أن هذه الماهية تتجاوز الفقه الجنائي (الحدود)، وتتجاوز النص الأصلي، ليقصد بها ما وافق الشرع، وما لم يخالف الشرع، كما ذهب إلى ذلك ابن القيم الجوزية. بمعنى أن السياسة الشرعية هي تدبير الشأن العام، أو تدبير الاجتماع الإنساني.
وبناءً عليه، وبخلفية رجل القانون، يخلص الدكتور الكيلاني السياسة التشريعية في كونها «خططًا تشريعية عامة ينبسط ظلها على التشريع كله، تقوم على المواءمة والتوفيق بين مصلحة الأصل من النصوص، وما يقتضيه إصلاح الواقع بظروفه الملابسة، أو الإتيان بحكم مناسب تجتهد فيه، يؤثر في معالجة الواقع»، الفقه السياسي يدور مدار المصلحة.
بالعودة للمعلن والظاهر، يؤكد الباحث في كتابه، أن دراسته هذه تأتي لتلقي مزيدًا من الضوء «على المعالجات الشمولية، وذلك بغرض تحليل تطبيقات الرسول (صلى الله عليه وسلم) والصحابة الكرام، ونماذج من فهم علماء الإسلام عبر التاريخ، وبيان كيف استندت تلك المعالجات إلى منهج شمولي فَهِم الواقع، فأدرك الحكم المناسب للواقع».
وفي الوقت الذي يعتبر «السياسة الشرعية» أداة الفقيه لتقديم المعالجات الفقهية التي يتصدّى لها المجتهد اليوم يرى أن السياسي يهمه النجاح. وبما أن السياسات عند الباحث هي أداة تنفيذ الأفكار، فإن صاحب «كتاب السياسة الشرعية» يهدف للجمع بين مهمة، الفقيه الناظر لصحة تطبيق القانون والسياسي الساعي للنصر، ويعتبر هذا الجمع مدخلا لتجديد الخطاب الإسلامي. وبالنسبة للباحث فالسياسة تستند إلى مرتكزات من أهمها: أولا، الفهم المقاصدي للنص. وثانيا، فهم النصوص على ضوء العموم المعنوي لا العموم اللغوي فحسب.
في الخبرة العربية الإسلامية لم يكن التنظير السياسي غائبًا في مجال الفقه والفكر الديني عمومًا لكنه قليل. ولم تكن الأدبيات متخصّصة في مجال السياسة الشرعية، بل كانت ذات صلة بأدباء وفلاسفة (الفارابي وابن سينا، تمثّلا منهج أرسطو وأفلاطون). في حين تأثر الفقه بشدة بعلم الكلام وجدله، ولذا كانت السياسة الشرعية في عمومها هي مجرد نصائح تهم التنظير للتدبير السلطاني. وبالتالي، غاب الجانب الحديث من علم السياسة، باعتباره علم دراسة السلطة، وليس هناك ما يوازيه في الخبرة التنظيرية الإسلامية القديمة. كذلك غاب الفقه الدستوري المتناول لتنظيم العلاقة بين السلطات في الدولة، لأن الفقه السياسي ركّز على مَن يتولى الإمامة، وكرّس أحادية السلطة واختزالها في شخص الحاكم متغلِّبًا كان، أم مبايَعًا من أهل الحل والعقد.
ومن هنا فإن حضور بعض الأفكار التي يمكن فهمها اليوم وتنسيبها لعلم القانون الدستوري، أو الإداري أو علم السياسة، لا يجب أن يحجب عن الباحثين حقيقة تاريخية هي أن التنظير الإسلامي لم يقصد بناء مثل هذه العلوم، ولا كان واقع الخبرة الإسلامية يسمح للفقيه بإبداع علم سلطة خاص بهذه الخبرة. والكتاب الذي بين أيدينا، وإن حاول استحضار هذه المعطيات، فإنه لم يتنبه لحقيقة كبرى هي ماهية السياسة الشرعية في ظل الدولة الحديثة. ذلك أن علم السياسة الغربي لم يولد إلا في ظل المرجعية العليا العَلمانية لهذه الدولة. وعلم السياسة الشرعية اليوم، لا يجب أن يكون علمًا دفاعيًا يقتات على القياس الفقهي، بل يجب أن ينطلق من قيم الإسلام وكليات القرآن لخلق نظرية جديدة في السلطة، تقطع مع الفقه التقليدي المتخلف، وتتجاوز مادية علم السياسة المعاصر. وبالتأكيد فهذه الغاية لن يصل إليها الفكر الإسلامي المعاصر بتبنيه لـ«أسلمة العلوم» ولا بنظرية التأصيل، لأن نظرية الأسلمة والتأصيل، هي تعبير عن ضيق أفق الفقيه والمفكر، وهذا الضيق ناتج عن معرفة دينية منغلقة تعتبر العلم محدودا في دائرة ما نص عليه الديني نفسه.
وواضحٌ أن الدكتور الكيلاني ملمٌّ بقضية الاجتهاد والإبداع، لكنه استعملها بشكل متواضع، لتجاوز الأدبيات السياسية للخبرة العربية التقليدية. ولم ينظر إلى تجاوز النظرية الغربية التي عمّمت تجربة الدولة القُطرية الحديثة على الأمة الإسلامية. والباحث وهو يدعو لفقه الواقع، استحضره في السياسة التشريعية المدنية المتعلقة بالإرث والأحوال الشخصية، والمشاركة السياسية في بلاد الغرب (ص 28) بشكل اجتهادي بارز. لكنه في مجال السياسات العمومية، ظل دفاعيًا، بل نهج في بعض الأحيان منهج الأدب السلطاني الاستبدادي. ومن ذلك تناوله بشكل تدبيري ما أطلق عليه مجالات تطبيق السياسة الشرعية في «الاقتصاد» (ص 45 وما بعدها).
وعلى الرغم من أن صاحب الدراسة، دافع عن مقاصد الشريعة ونجح في توسيع مفهوم الشورى، ودافع عن اعتماد الأغلبية والترجيح بها، مستندا بذلك على أطروحة عالم المقاصد الدكتور أحمد الريسوني، فإنه لم يذهب في ذلك لأبعد الحدود في التنظير لمأسسة السلطة والخروج من دائرة الحاكم الفرد، التي أفرزها التاريخ القَبَلي للسلطة. ولذلك تراه يتحدث عن ولي الأمر ويمنحه حقوقا في السياسة الشرعية، في المجال التشريعي والتنظيمي، وتجنَّبَ الخوض في علاقة السياسة القضائية بولي الأمر.
ولقد كان على الباحث أن يتجه لأصل العملية السياسية والسلطة في الإسلام، وهي الأمة. ويبدو أن اختياره في السياسة الشرعية، اتجه صوب مناقشة «السلطة» السياسية، التي اختزلها تارة في الفقيه، وتارة في الإمام، وتارة أخرى في أهل الحل والعقد. وكل هذه المنطلقات تكرّس التأصيل الديني للاستبداد السياسي، وتؤدي للاحتراب الأهلي حول السلطة.
ثم أن قلة اهتمام الكاتب بمصدر السلطة، جعل من بحثه تنظيرا وشرعنة لتأسيس سلطة فوقية لا تستمد شرعيتها من الأمة، أو الأمة الشعب في الدولة القُطرية المعاصرة، وبالتالي نسف دفاعه عن الديمقراطية والأغلبية. أضف إلى ذلك أن صاحب الكتاب، لم يتطرق لمسألة في غاية الأهمية وهي علاقة السياسة الشرعية بمنظومة الدولة الحديثة. وخصوصا جانب المأسسة التي تشكل تجربة خارج الخبرة العربية الإسلامية. فالسلطة لم تعد بيد الفقيه ولا الإمام أو الخليفة، بل موزعة على مؤسسات متشابكة ومركبة، تكون الدولة.
في مطلق الأحوال، يمكن اعتبار كتاب «السياسة الشرعية مدخل لتجديد الخطاب الإسلامي» للدكتور عبد الله إبراهيم زيد الكيلاني، نموذجا بارزا للعودة الملتبسة فكريًا لتناول السلطة السياسية من زاوية فقهية. وهو على الرغم من خلفيته المقاصدية ومنطلقه المعتدل والوسطي، دافع عن فردانية السلطة واستبدادية الحاكم، كما نظّر للفقه التقليدي السلطاني باسم الإسلام.
* أستاذ العلوم السياسية جامعة محمد الخامس – الرباط



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT
20

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.