إدغار موران: نجوم السينما هم أساطير هذا العصر

أخبارهم تغزو كل وسائل الإعلام وتأثيرهم لا حدود له

غلاف «نجوم السينما»
غلاف «نجوم السينما»
TT

إدغار موران: نجوم السينما هم أساطير هذا العصر

غلاف «نجوم السينما»
غلاف «نجوم السينما»

هم نجوم السينما، إنهم حقل إبداعي تخيلي يهمون الفلسفة على أكثر من صعيد. فهم يملكون القدرة على حمل الإنسان على التفكير والاندهاش. ويهبوننا بفضل خلقهم وابتكارهم، صورا جديدة للحياة، وفرصة تجديد فهمنا لذاتنا وللعالم من حولنا. إنهم يخترقون حياتنا ويصوغون تفكيرنا، بوعي أو من دون وعي منا. أخبارهم تغزو كل وسائل الإعلام، وتأثيرهم لا حدود له. لكن الفيلسوف لن ينظر إليهم نظرة الإنسان العادي. بل سينظر إليهم بشقاء الفلسفة، شقاء يهدف إلى إحراج هؤلاء النجوم، ما دامت الفلسفة تهتم بالفكر وليس بالترفيه. وهذا ما تبين من خلال فحص التمثيل المجازي الأفلاطوني، الذي يلزمنا بالخروج من الكهف مهما كان الثمن. إن الفيلسوف وهو يشاهد نجما سينمائيا، لا يراه كإنسان عادي. فليس لديه المرجع نفسه، وليس له الاهتمام نفسه، ولا المعنى نفسه. لكن في داخله يكمن الإنسان العادي الذي يضحك ببلاهة على منظر مسل. وهو ما يمكن استنتاجه من خلال فيلسوف عشق سحر السينما، وتأمل في قضاياها وإشكالاتها. إنه الفيلسوف الفرنسي، إدغار موران الذي نرافقه من خلال العمل الذي قام به في كتابه نجوم السينما. وهو من ترجمة إبراهيم العريس، مراجعة هدى نعمة، وإصدار المنظمة العربية للترجمة. وفيه ننفذ معه إلى عالم النجوم الخفي، محاولين البحث في الكهف الذي يرسمون فيه صورهم، ويمارسون علينا ديكتاتوريتهم، ويلفوننا بوهمهم.
لم يعد نجوم السينما في نظر موران، مجرد أشخاص عاديين، يضعون القناع الذي يؤدون به الدور الذي يلعبونه، ثم يرمونه ليمضوا إلى حياتهم العادية، وليخلفوا وراءهم ذكرى، هي عبارة عن مشهد، يتذكره المتلقي من حين لآخر، كما كان سائدا في المسرح القديم. بل إن هؤلاء النجوم قد أصبحوا بمثابة أنصاف آلهة، أي نجوما. مخلوقات تدفعنا إلى الحلم عن طريق الاستعراض السينمائي كأساطير حديثة. فهم كائنات تنتسب إلى البشري والإلهي في آن، وتشبه بعض سماتها أبطال الأساطير أو آلهة الأولمب. فقد بنوا لأنفسهم قصورا، وأحاطوها بأسوار بعيدين عن المدينة والضوضاء، كآلهة خالدة بعيدا عن عباد الله الفانين. ما يجعلهم يستثيرون فينا نوعا من العبادة، بل نوعا من الدين، في المساحة الكائنة بين الإيمان والترفيه، كظاهرة جمالية وسحرية ودينية.
النجم في نظر إدغار موران، كالسيد الذي يكرس له المؤمن نفسه. لكن عليه، هو أيضا، أن يكرس نفسه للمؤمن. بل أكثر من هذا، أن المؤمن دائما يريد أن يستهلك إلهه. وهذا ما يظهر في التعلق الشديد للمعجبين بنجمهم، وتتبعهم لدقائق الأمور المتعلقة به. فالمعجب يريد أن يلتهم نجمه، أن يعرف كل شيء عنه، فيحلله ويركبه، ويلتقط كل أخباره، في عملية التهام نهمة. كل معلومة تهمس سرا صغيرا تسمح للقارئ بأن يمتلك جزءا من حميمية النجم. أما الصدى الصحافي، فيستجيب لحاجة إلى المعرفة التقديسية، وزنه، طبقه، لباسه الداخلي، صوره حيث نتمثله ونعبده، توقيعاته. الصورة والتوقيع هما الطوطمان الرئيسان. وكما هو حال الشعوب القديمة، اتجاه الآلهة التي لا تستجيب لتمنياتها، نلاحظ أن المعجبين يصبون لعناتهم واتهاماتهم على النجوم الذين لم يقوموا بواجب الرد أو إسداء النصيحة أو إبداء العزاء. وتتضح هذه العبادة بشكل ملموس، في بعض لحظات الهستيريا الجماعية، كموت فالنتينو أو جيمس دين، أو وصول لولو بريجيدا إلى كان، أو صوفيا لورين إلى باريس. وهي كلها ليست سوى صور لعملية التماهي. بمعنى أن المتفرج يعيش نفسيا، حياة أبطال الفيلم الوهمية، المكثفة، القيمية، والغرامية. بمعنى أنه يتماهى معهم، لينسج أحلامه بواسطتهم. إلا أن هذه الأحلام تتجابه مع الواقع، وتصطدم به. لأن المتفرج لما يعود إلى عالمه، يشعر أنه صغير جدا ووحيد جدا، بينما يرى النجم كبيرا جدا. فإما يحس بوضاعته وينسحب، وإما يستمر في عبادة توقيعات النجم وأشيائه، ليعيش صوفيا في عالم النجوم. لهذا من الطبيعي جدا أن يكون تلميذ في الخامسة عشرة من عمره، قد كتب ما معناه معبودي هو إيرول فلين، ولقد وقعت في غرامه بعنف بعد فيلم دورية عند الفجر. إنني أفكر به في الليل، وأتخيل نفسي معه، وأحلم به. والحقيقة أنه لم يسبق لي أن انتابني مثل هذا الشعور اتجاه ممثلة.
إذا كان كل هذا يحتاج إلى تفسير، فإدغار موران يفسر ذلك ببؤس الحاجة، الحياة الكئيبة، وحياة الشاشة الوهمية هي نتاج هذه الحقيقة، وما النجم سوى عملية إسقاط هذه الحاجة. فقد عمد الإنسان باستمرار، إلى إسقاط رغباته ومخاوفه على الصور. وإلى إسقاط حاجته وتجاوز نفسه في الحياة والموت على صورته الخاصة. فيبدع له قرينا يمتلك في نظره قوى سحرية هائلة. ثم يعود موران لكي يصف كل هذا بالبلاهة. وهي بلاهة تغوص في عمق الإنسان. ففي خلفية نظام النجوم، ليس هناك فقط حماقة المعجبين، وافتقار السينمائيين إلى حس الابتكار، ومؤامرات المنتجين التجارية. هناك أيضا، فؤاد العالم. هناك الحب. تلك البلاهة الأخرى، تلك الإنسانية العميقة الأخرى.
عندما ينتهي موران من تحليل أسطورية النجم، فإنه يعود ليبحث في شروط تكون هذا الإله، والطريقة التي يصنع بها. لأن نجوم السينما في نظره، مصنوعون من طرف نظام يهيئهم ويعدهم، ويكيفهم، ويقترحهم. فالنجم ليس ممثلا يمارس السينما، إنه بالتأكيد شيء آخر. النجم صناعة، يمكن صنعه. وليس هو ممثل المسرح الذي يصعب تعويضه، وتتعسر صناعته. فالطابع المسرحي للممثل، جرى انتزاعه بالموازاة مع تطور تقنيات السينما، التي تتميز بالقدرة الكبيرة على التحرك والمبالغة. اللقطة القريبة، اللقطة الأميركية، اللقطة الكبيرة، جعلت الممثل السينمائي غير مطالب بالتمارين والتدريبات الشاقة المضنية، ما دام يدار باستمرار، في لقطات مشتتة ومجزأة يؤديها. إنه يتبع فقط العلامات التي يرسمها المصور بالطبشور. بل حتى الأحاسيس المعقدة يتم صنعها أوتوماتيكيا. فالديكور والأدوات، تلعب دورا أكبر من الممثل. يوازيه الإسقاط والتماهي والمشاركة العاطفية. ويأتي وضع المتفرج، استرخاء جماليا، ظلمة، حالة تشبه حالة التنويم المغناطيسي، ليساعد على ذلك بدوره، فالمسدس، الكرسي، المنديل، الشجرة، السيارة، تبدو كأشياء تتحدث إلينا. بل تستحوذ على الحياة. إنها تتحدث إلينا. هذا من دون نسيان عمليات المونتاج، والدور الكبير الذي تقوم به، إلى خدع التصوير، زوايا التصوير، سرعة الكاميرا في حركيتها، لعبة الإضاءة.
في ظل كل هذه المحددات، لا يبقى للنجم أي وجود، لأنه يجري صنعه صنعا. يمكن أن يتم تركيبه في أي جزء من أجزائه، بل حتى في أدق تفاصيله. ويمكن حتى استبداله، أو استبدال جزء وتركيبه له. يمكن استبدال صوته بصوت أكثر فعالية، حيث يقول لسلي هوارد: بالإمكان الاستغناء عن الممثلين وإحلال أي شيء مكانهم. ففي السينما، يمثل الأطفال من دون معرفة دورهم. بل نجد حتى بعض الحيوانات، كالكلب زانتانتان، والحصان طرزان، والقردة شيتا، تؤدي دورها بأسلوب طبيعي للغاية، على الرغم من أنها أدوار مؤنسنة، أي اصطناعية للغاية. بل حتى دمى الترنكا، شخصيات ميكي، ودونالد إنجازات والت ديزني، هي حية كالنجوم. بل وقد تفوقهم حياة. ويأتي بعد ذلك، التوليف، والمونتاج الذي يقوم كليا على أواليات الإسقاط والتماهي لدى المتفرج. المونتاج يفترض تلك الإواليات ويلجأ إليها، في الوقت عينه الذي يعجل من وتيرتها، ويضخم من حجمها. ثم تأتي صنائع التبرج كامتداد لصنائع التصوير، لتحول الملامح، في وجه من الوجوه، تبعا للتعبير الذي تتطلبه كل لقطة، حتى يصبح الوجه وكأنه من صنع الفنان. حيث نقول بأن هذه الصورة صنيعة عامل الماكياج، ومصفف الشعر، وصنيعة المصور الذي وفر له ضوءا مأساويا، وصنيعة رجل المونتاج الذي أدام تلك الصورة لفترة تحتملها الضرورة، وأخيرا صنيعة المخرج.
خلاصة الأمر هي أن النجم في نظر إدغار موران، منتج خاص من منتجات الحضارة الرأسمالية، يستجيب في الوقت عينه لحاجات أنثربولوجية عميقة، تعبر عن ذاتها على صعيد الأسطورة والدين، الإله النجم، والنجم السلعة، هما وجهان للواقع ذاته: حاجات الإنسان على مستوى حضارة القرن العشرين الرأسمالية.

* أستاذ الفلسفة والفكر الإسلامي



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!