مهند مبيضين: الربيع العربي كان يحتاج لأساطير كاذبة كي ينجح

قال لـ {الشرق الأوسط}: جماعة «الإخوان» التحفت ثوب الإصلاح للوصول للسلطة

د. مهند مبيضين
د. مهند مبيضين
TT

مهند مبيضين: الربيع العربي كان يحتاج لأساطير كاذبة كي ينجح

د. مهند مبيضين
د. مهند مبيضين

عدّ الدكتور مهند مبيضين، الأستاذ في التاريخ والحضارة، والباحث والمؤلف في الحركات الإسلامية والتاريخ الثقافي والاجتماعي والسياسي، أن مسألة إحياء «دولة الأمة»، أو إلغاء فكرة الدولة القُطرية الماثلة اليوم وتزداد رسوخا، غير واردة، مشددا على أن الدولة الإسلامية التي قدمتها نماذج الإسلام السياسي من أفغانستان إلى السودان، ومشروع الإخوان المسلمين في مصر، أثبتت فشلها.
وأشار في هذا الحوار الذي أجري معه خلال زيارته للرياض ومشاركته في ندوة «حركات الإسلام السياسي»، ضمن الفعاليات الثقافية لمهرجان الجنادرية لهذا العام، (الشهر الماضي) إلى أن واقع الحراك العربي ما زال غير ممنهج، لافتا إلى أن هذا الواقع فرض تحديات على الدول العربية مجتمعة، «أبرزها مهمة استعادة أفرادها ثقة المواطنة، والعدالة الاجتماعية، والحد من الفساد، وهذا يحتاج لمتغير ثقافي يبعث المجتمع من جديد ويؤثر فيه».وهنا نص الحوار:

* كيف نشأت حركات الإسلام السياسي؟
- إن نشأة حركات الإسلام السياسي كانت مرتبطة بزمن ما بعد إلغاء الخلافة الإسلامية في 3 مارس (آذار) 1924، على يد مصطفى كمال أتاتورك.. كان الجدل بعدها على من يكون خليفة للمسلمين، وشعرت النخب العربية بوجوب نصب خليفة، وحصلت بيعات مختلفة لأكثر من زعيم. كان إلغاء الخلافة آخر مظهر يتعلق بمظاهر «دولة الأمة»، وآنذاك بدأت النزعة الوطنية تتكون في الدول العربية الواقعة تحت الانتداب والاستعمار، لكن الحركة الإسلامية المؤسسة لجماعات الإسلام السياسي اليوم، وهي حكرا «الإخوان المسلمين»، التي بدأت عام 1928 على يد حسن البنا، لم تأت في سياق المقاومة، على خلاف ما كان سائدا في الجزائر مثلا في نشاط «جمعية العلماء المسلمين» المقاومة، بل على العكس، فإن جماعة «الإخوان» التحفت ثوب الإصلاح لتجنب الصدام مع السلطة القائمة في مصر ومع الاحتلال البريطاني وبقايا جذوره المتجذرة في السلطة المصرية آنذاك.
* تقول إن حركة «الإخوان» في مصر لا تمتلك رصيدا في مواجهة الاستعمار؟
- كان لافتا في مصر، منبع الحركة الإسلامية (جماعة الإخوان) أن الجماعة نأت أيضا عن مواجهة استبداد الحكم في مصر، على الرغم من أن الحكم آنذاك كان متلحقا بالغرب، ورهن مصر وخيراتها للغرب، ونهب ثروات الشعب، إلا أنه وفي عام 1933، أي بعد خمس سنوات على تأسيسهم الجماعة في مصر، وصف حسن البنا الملك فاروق، الذي كانت كل القوى الوطنية تخوض نضالا ضده، بأنه «ذخرا للإسلام». وبينما كانت شوارع مصر تغلي وتنتفض ضد مهاتراته وإسقاط مصر في أحضان الغرب، وصف البنا فاروق: «إنه ضم القرآن إلى قلبه ومزج به روحه». وبينما كان فاروق يغرق في الملذات ويوصف بأنه زير نساء، فطالب النحاس باشا بالحد من سلطات الملك، معولا على دعم الشعب له، وهو ما حدث، فخرج الشعب يهتف: «الشعب مع النحاس باشا».. إلا أن «الإخوان» أظهروا كل انتهازية واستغلال للفرص كما هم دوما. وفي عام 1938 نادت صحفهم بفاروق خليفة، وفي عام 1942 بميدان عابدين عاهدوا الملك فاروق على البر به والولاء له، ثم أيدوا حملة حكومة الملك فارق عام 1946 عندما شنت اعتقالات ضد الوطنيين من الطلبة والعمال والمثقفين وأغلقت معها عشرات الصحف، وقالوا في صحفهم: «إن ما جرى تحتمه الظروف، وإن سلامة الأمة والمجتمع فوق كل شيء». وهم في ذلك الموقف والموقف التقريري للواقع، يخالفون الشرع وجهاد الكلمة ضد السلطان الجائر، ولا أراهم إلا كما رأى عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله أقرانهم في زمن الاستبداد الحميدي، حين قال إن أخطر أنواع الاستبداد هو علماء الإقرار بالواقع والرافضين إسداء النصح، فهم من يزين للمستبد استبداده.

* الدولة القُطرية والدولة المدنية
* هل نجحت هذه الحركات في إحياء فكرة الدولة الإسلامية بمفهومها التاريخي، وإلغاء فكرة الدولة القُطرية أو الوطنية؟
- الحقيقة الواقعة اليوم أن الدولة القُطرية ماثلة وتزداد رسوخا، وأن مسألة «الدولة - الأمة» غير واردة. والمهم اليوم تقوية عناصر الوحدة الممكنة ثقافيا واقتصاديا، والدولة الإسلامية التي قدمتها نماذج الإسلام السياسي من أفغانستان إلى السودان ومشروع «الإخوان» في مصر، أثبتت فشلها.
* هل وجود الحركات الإسلامية ضرورة للتعددية، أم يتعارض مع مفهوم الدولة المدنية؟
- الدولة المدنية تقوم على تقاسم واضح للأدوار والسلطة والتعاقد والاعتراف بالآخر، وهي دولة تحافظ وتحمي كل أعضاء المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم القومية أو الدينية أو الفكرية. ومن أهم مبادئ الدولة المدنية ألا يخضع أي فرد فيها لانتهاك حقوقه من قبل فرد آخر أو طرف آخر. ومن مبادئ الدولة المدنية الثقة في عمليات التعاقد والتبادل المختلفة، كذلك مبدأ المواطنة الذي يعني أن الفرد لا يُعرف بمهنته أو بدينه أو بإقليمه أو بماله أو بسلطته، وإنما يُعرف تعريفا قانونيا اجتماعيا بأنه مواطن.
* وهل تتعارض تلك المواصفات للدولة المدنية مع تجربة الإسلام السياسي؟
- إذا طبقنا تلك المواصفات للدولة المدنية، التي يطول شرحها، على الكيفيات والطرائق التي حكم بها الإسلاميون عندما وصلوا في نماذج عدة إلى الحكم، فإنهم أبعد الناس عن المفهوم وتطبيقه.. هم قد يقبلون بخيار الدولة المدنية مرحليا، لكي يحصلوا على اطمئنان القوى الوطنية إليهم كما حصل في مصر مع بداية ربيعها الراهن، وفي الأردن في حراكهم المستمر وكذلك في تونس، وإذا تمكنوا مارسوا الغلبة واغتصبوا السلطة وأقصوا الناس، وإذا قالوا إنهم جاءوا بالصناديق، فهم جاءوا بمظلة الدين والتأثير على الناس من خلاله، وهو يتنافى قطعيا مع مفهوم الدولة المدنية التي لا تعرف أحزابا على أساس ديني.
* أين في نظركم نقاط الالتقاء والتعارض عند حركات الإسلام السياسي مع مفهوم الدولة المدنية؟
- هم يريدون الحرية لهم وحدهم ويأبونها على غيرهم. الحركات الإسلامية أجبرت، من خلال الرفض الشعبي لسعيها نحو أسلمة أو أخونة الدولة، على التخلي مرحليا عن بعض الأهداف.. هم يتفقون على أن الشورى أقرب أشكال الديمقراطية، والديمقراطية مختلفة تماما لأنها نتاج قيم وفكر سياسي وضعي وتجربة وتعبير عن أقصى حالات الرأسمالية، أما الشورى فهي نظرة خلاصية كانت في حينها لوأد خلاف الأمة، وهذا يجب أن يسحب على الحديث عن مؤسسات الشورى الحديثة في الدولة الوطنية وهي مؤسسات تعمل في إطار الدولة وليس الحزب.
في هذا الصدد ينبغي التوكيد على أن البنية السياسية الهرمية للحركات والأحزاب السياسية الإسلاموية لا تنسجم والفكر الديمقراطي المدني الحديث؛ إذ جلها ترفل في ثوب بطريركي سلطوي، وهناك أخرى سرية التنظيم، ومع ما يعارض مفاهيم الحكم المدني.
تم تبني أفكار الدولة المدنية عند حركات الإسلام السياسي للهروب من مواجهة المجتمع، في حال وصولهم للسلطة، وقبل القبول بها طرحت شعارات إسلامية بحتة مثل «الإسلام هو الحل» و«استعادة الحياة الإسلامية» وغيرها. وفي حال تمكن الإخوان المسلمين، وهم رأس الإسلام السياسي، نجدهم الأكثر إقصاء واستحواذا على السلطة.

* الربيع وأساطيره
* يعيش العالم العربي واقعا مأزوما، وعدم وضوح.. ما قراءتكم لهذا الواقع؟
- العرب اليوم في حالة مخاض فكرية وسياسية وثقافية، واليوم التنوير العربي الذي حكم التغيرات وأثر سياسيا في حياة العرب طيلة القرنيين الثامن عشر والتاسع عشر، كما هي الحال في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية والحركة السنوسية والحركة المهدية، أو في نشاط الجمعيات العربية في أواخر القرن التاسع عشر أو مع مفتتح القرن العشرين، نجده غائبا، لا بل هو تنوير ميت، بالمعنى التأثيري الذي يخلق واقعا جديدا ويدفع لأجله، وقد أسهمت في موته أسباب كثيرة؛ أولها الانقلابات العسكرية التي بشرت بالتقدمية وطالبت بها، وانتهت بالاستبداد و«القائد الضرورة». والتنوير مات لأن فئة ما قالت إنها تحتكر الإسلام وتدعي أنها الجماعة المؤمنة الموكول إليها هدف استعادة الإسلام والحكم به، وهم جماعات الإسلام السياسي.
نحن اليوم نشهد غلبة السياسي على الثقافي، ونشهد تحديات جديدة، على رأسها تحدي الطاقة والبطالة والفقر والتنمية، ولأن الدولة ظلت تصر على أن تكون الراعي الوحيد للمجتمع، فإنها اليوم تواجه مشكلة اعتبارها مؤسسة حمائية والراعي الوحيد للفرد، ولهذا كلما أرادات التحلل من دورها، ثارت ثورة الناس على ذلك التوجه.
* ماذا بشأن الحراك الأخير الذي اصطلح عليه (الربيع العربي) كيف تراه؟
- واقع الحراك العربي، فما زال غير ممنهج، وصوت الناس الغلابة والمساكين يستثمر أحيانا من قبل قوى سياسية ورجال أعمال ونخب تبحث عن مكاسب وتموضع سياسي محدد أو وضعية دينية في لبوس من التشدد، وهذا الواقع فرض تحديات على الدول العربية مجتمعة وهي مهمة استعادة أفرادها وبناء ثقافة المواطنة والعدالة الاجتماعية والحد من الفساد. لكن ذلك يحتاج لمتغير ثقافي يبعث المجتمع من جديد ويؤثر فيه.

* البوعزيزي.. قادح التاريخ
* كيف تقرأ مخرجات «الربيع العربي»، وما الهزات على المستوى الفكري والثقافي التي أنتجتها التحولات السياسية في الوطن العربي؟
- الربيع العربي كان في أسئلته الأولى مفتاحا لإشاعة ثقافة الحرية من جديد، لكنه فيما بعد نكص عن أهدافه، صحيح أن له فضلا في تثبيت عودة الدولة العربية لرعاية مواطنيها وضبط إنفاقها وتخفيف الفساد وسماع أصوات الناس، وصحيح أنه كان مناسبة لظهور فاعلين جدد في المجتمع وممثلين عن الأطراف، لكنه كان سيظهر عجزا مجتمعيا وثقافيا وسياسيا، إذ أنه أظهر بأن الناس لم ينتظموا بعد على أساس المصالح والأفكار. لقد أثبت الربيع عجز الأحزاب عن خلق دوائر تأثير، لذلك صعدت مقولات ديمقراطية الميادين وديمقراطية الأقدام، لأن الديمقراطية غير موجودة كسلوك.
الربيع كان يحتاج لأساطير كاذبة أحيانا لكي ينجح ويعتاش عليها، فمحمد البوعزيزي مثلا لم يكن متعطلا عن العمل ولم يكن من أصحاب الشهادات والصورة التي نشرت له وهو يحرق نفسه ليست له، والناس لم يروه، وقبل البوعزيزي هناك حالات كثيرة سبقته بالانتحار، وهو فعلا أساء لعاملة البلدية التي قيل بأنها ضربته، والعائلة استثمرت في ذلك، ورضيت بذلك وتلقت دعما من عدة جهات. أعني أن البوعزيزي كان يمثل ما يسمى قادح التاريخ، أو التغيير، فكل فعل يحتاج لقادح أو شرارة بدء، ومع ذلك، كانت عدوى الربيع التونسي سريعة نحو المشرق، لكنه اليوم يعود إليها ولم ينجح إلا بها، وهذا أمر مؤقت بعد ولم يختبر.
* ألا تشعر أن تونس لديها تميز مختلف؟
- نعم..! ما حصل يؤكد أن تونس لها خصوصيات ثقافية ومبادرات تغيرية، إذ كانت صدرت منها بدايات التنوير والعقلانية منذ ابن خلدون ومرورا بإعلان الدستور أول مرة أو ما سمي عهد الأمان 1857 وهناك أفكار التجديد على يد خير الدين التونسي وهي بلد القيروان المرجعية الفكرية المتنورة، ومن ثم تطور فيها بناء الدولة على أسس مدنية مع الحبيب بورقيبة ومنحت المرأة حقوقا مساوية للرجل. لكن تونس لا يمكن أن تعبر عن نموذج مصر، والثورة التونسية ليست نموذجا للتصدير، ولا أظن أن العقل التونسي السياسي اليوم يفكر بتصدير نموذجه.
* لماذا ظل الهاجس الإسلامي حاضرا في الحراك السياسي العربي، وهل ترون أن التيار الديني سيبقى مستأثرا بحركة الشارع؟
- ليس هاجسا إسلاميا، وخطأ أن ننسب ما تتبناه الحركات الإسلامية أو الإسلام السياسي إلى (الإسلام)، فما جرى هو التقاء مصالح مع الغرب وبحث عن «الدولة الغنيمة». تمكين الإسلام حضاريا أبعد الأهداف عن أصحاب الإسلام السياسي. هل هم مجتهدون في أمور الناس، هل قدموا مشروع نهوض إسلاميا؟ الجواب لا، لقد شهدنا حركات سياسية بثوب أو بشعار إسلامي، يثوي بالماضي ويصر على أن يجعل الماضي طريقا للمستقبل. وشهدنا حركات وجبهات وإمارات وجماعات إسلاموية، لكننا لم نشهد نهضة إسلامية.
أما عن الصوت الأعلى للإسلام السياسي، فلأنهم يستخدمون الإسلام عباءة لهم، ولو سألت أي إسلامي سياسي من حركة الإخوان عن رأيه في مسألة خلق القرآن أو وجوب الإمامة أو في مسألة من مسائل مجلة الأحكام العدلية لما أفادك بشي، ولاكتشفت أي إسلام يبغون.
الجماعات الإسلامية ليست فاعلة، ولا هي حاضرة لأنها تعيش في ظل ما يسمى «العيش اليومي» لأنها تنتظم وتتوغل في المجتمعات من خلال الدين فقط.

* إخوان مصر
* مآلات الحالة المصرية أصبحنا نراها أمامنا.. لكن أين أخطأ الإخوان المسلمون في مصر؟
- نهايات الحالة المصرية كانت متوقعة، تمسك الإخوان بالشارع، وهذا ما قالوه في الأردن حين دعوا لانتخابات البرلمان، وقبل ذلك قالوا في مصر نحن مع ديمقراطية الأقدام، لا.. بل هم يحيلون الفهم الشرعي للديمقراطية وحق الانتخاب بأنه يؤدي في النهاية إلى تطبيق إرادة العامة، ولكنهم حين جاءت عامة مصر وقالت لمرسي «كش ملك» رفض الإخوان ذلك، مع أنهم في الخطاب الطويل الذي سبق عزله، كانوا يحيُونه ويطلبون منه سحق المعارضة الوطنية التي رفضت أسلمة الدولة وأخونتها.
كانت القوى المصرية الوطنية قد ذهبت لمرسي بعد انتخابه وطلبت منه سبع نقاط إن التزم بها كان رئيسا لكل المصريين، ولكنه أبى واستكبر فظل رئيسا لـ«الإخوان» فقط، أو كذلك أُريد له أن يكون، ثم زيّن الاستبداد في عينه فحصن نفسه وقراراته وجعل نفسه فوق القضاء، حتى خرج الناس عليه لأنهم رأوا في الإخوان طلاب سلطة فحسب، ولم يكونوا أصحاب بناء وطني يكفل لمصر استعادة دورها وتأثيرها في المنطقة، إذ أن منظر مرسي وهو يتوسل الدعم الإيراني والروسي كان مذلا لكل المصريين.



رحيل أحمد أبو دهمان سفير الأدب السعودي في البلاط الفرانكفوني

الروائي السعودي أحمد أبو دهمان
الروائي السعودي أحمد أبو دهمان
TT

رحيل أحمد أبو دهمان سفير الأدب السعودي في البلاط الفرانكفوني

الروائي السعودي أحمد أبو دهمان
الروائي السعودي أحمد أبو دهمان

غيّب الموت، مساء الأحد، الكاتب والروائي السعودي المقيم في باريس، أحمد أبو دهمان، عن 76 عاماً، وهو أول كاتب سعودي يؤلف رواية باللغة الفرنسية هي رواية «الحزام» الصادرة عام 2000 عن دار «غاليمار»، التي حققت شهرةً واسعةً وطُبعت 7 طبعات، وتُرجمت إلى 8 لغات، وتمّ نقلها إلى العربية ونشرتها دار «الساقي».

الأمير بدر بن فرحان وزير الثقافة السعودي يهدي وزيرة الثقافة الفرنسية رواية «الحزام» (أرشيف)

اعترافاً بقيمة هذه الرواية، أهدى الأمير بدر بن فرحان وزير الثقافة السعودي في شهر يونيو (حزيران) 2023، ريما عبد المالك، وزيرة الثقافة الفرنسية، رواية «الحزام» للكاتب السعودي أحمد أبو دهمان.

ولد أحمد أبو دهمان في قرية آل خلف في محافظة سراة عبيدة في منطقة عسير، جنوب المملكة، وبعد أن أكمل دراسته الابتدائية في قريته، انتقل إلى أبها لإكمال المرحلة الثانوية، ثم التحق بمعهد تدريب المعلمين بالرياض، وعاد إلى قريته بعد تخرجه ليعمل معلماً مدة ثلاث سنوات. بعدها أكمل تعليمه الجامعي بجامعة الملك سعود بالرياض وتخرج من قسم اللغة العربية بدرجة ممتاز، ثم أصبح معيداً في الجامعة نفسها، وفي عام 1979 التحق بجامعة السوربون في فرنسا وحصل على درجة الماجستير.

غلاف رواية «الحزام»

كتب في الصحافة السعودية، وكان له عمود في صفحة الرأي بجريدة «الرياض» بعنوان «كلام الليل»، وشغل مدير مكتب مؤسسة «اليمامة» الصحافية في باريس، والرئيس التنفيذي لمؤسسة «الحزام للاستشارات الإعلامية»، ومقرها في الرياض.

وفي ندوة أقيمت له، تحدث عن روايته «الحزام»، فقال إنها لا تمثل سيرةً ذاتيةً، «ولكني كتبتها لأروي عن بلادي لابنتي ولزوجتي. فنحن ننتمي لبلد متعدد وفيه تنوع ثقافي».


سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية
TT

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

حين نشر الناقد البريطاني ويليام إمبسون William Empson كتابه المرجعي في النقد الأدبي سبعة أنماط من الغموض Seven Types of Ambiguity عام 1930، كان في الرابعة والعشرين من عمره؛ لكنّه مع ذلك وضع واحداً من أكثر الكتب تأثيراً في النقد الأدبي الحديث. لم يكن إمبسون يتعامل مع الغموض بوصفه عيباً في التعبير بل بعدّه قلب الشعر النابض. رأى أنّ اللغة حين تبلغ أقصى درجاتها الفنية لا توضّح بقدر ما تلمّح، ولا تفسّر بقدر ما تُثير، وأنّ الجمال يكمن في المسافة بين ما يُقال وما يمكن أن يُقال. من هنا جاءت فكرته الجريئة: يمكن تصنيفُ الغموض ذاته في سبعة أنماط، تتدرّج من البسيط إلى المركّب، ومن الغموض اللغوي إلى الغموض الوجودي. جعل إمبسون من الغموض (أو التعقيد بلغة الأدب التقنية) متعة جمالية في ذاته؛ فالقصيدة عنده ليست معادلة لغوية تقود إلى استجابة موحّدة لدى القرّاء بل كائن متعدد الطبقات، وكلُّ قراءة تكشف عن جانب من نسيج ذلك الكائن.

منذ أن قرأتُ كتاب إمبسون لم أُبْطِل التفكير بالكيفية التي نستلهم بها أفكاره وننقلها من الشعر إلى الرواية: اذا كان للغموض الشعري أنماطُهُ السبعة؛ فلماذا لا تكون للمتعة الروائية أيضاً أنماطُها؟ لماذا نظنُّ أنّ مُتعة القراءة حالةٌ واحدة موحّدة في وقتٍ تدلُّنا فيه خبرتُنا على أنّ هذه المتعة طيفٌ واسعٌ من تجارب التلقّي والانفعالات الشخصية؟

لا بأس من مثال تطبيقي حقيقي. أفكّرُ كثيراً في روايات عديدة من أمثال رواية قوس قزح الجاذبية Gravity’s Rainbow التي كتبها الروائي الأميركي توماس بينتشون Thomas Pynchon. هذه الرواية تدور وقائعها في أواخر الحرب العالمية الثانية، وتستكشف موضوعات معقدة مثل جنون العظمة والفساد والتقنية، وتركّز على تصميم صواريخ V-2 الألمانية وتأثيرها. الرواية مشبعة بالغموض؛ لكنّه غموض إبداعي من درجة رفيعة يبدأ من عنوان الرواية ذاتها حيث إنّ مسار الصاروخ يشبه قوس قزح. هذه الرواية غير مترجمة إلى العربية، وكثيراً ما تساءلت: لماذا الإحجامُ عن ترجمتها؟ هل يستشعر المترجمون أنّها تفتقرُ إلى المتعة المفترضة في القراءة الروائية؟ سيكون تعسّفاً خطيراً أن نفترض متعة جمعية في هذه الرواية كما يحصل مثلاً مع روايات دوستويفسكي؛ لكن مع هذا سيجد قليلون ربما متعة عظيمة فيها. سيقودنا الحدسُ إلى أنّ تلك القلّة المخصوصة هي لقرّاء لهم شيء من معرفة بالرياضيات والفيزياء وتواريخ الحروب وتداخلات السلطة وضغوطها. لا يمكن في النهاية التصريحُ بمتعة شاملة مطلقة للعمل الروائي. هذا مدخل يوضّحُ التمايز الحتمي بين أنماط المتعة الروائية بين القرّاء.

*****

منطلقةً من كتاب إمبسون أعلاه، سأحاولُ الإشارة إلى سبعة أنماط من المتعة الروائية، لا بوصفها تصنيفاً نهائياً بل بوصفها خريطة أولى في جغرافيا اللذة السردية.

أولى المتع السردية هي متعة الانغماس. إنّها المتعة الأولى التي يتذوقها القارئ منذ طفولته، حين يفتح كتاباً ويجد نفسه فجأة في مكان آخر.

إنها متعة الغياب الطوعي عن الواقع: أن نذوب في العالم الروائي حتى ننسى أننا نقرأ. في هذه اللحظات لا نكون خارج النص بل داخله، نعيش مع شخصياته ونتنفس هواءه. نقرأ موبي ديك فنشعر برائحة البحر، أو آنا كارينينا فنرتجف أمام قطارها القادم. الانغماس هو نوع من الحلم الواعي، تجربة بين الخيال والوجود، فيها يتحوّل القارئ من متلقٍ إلى مشارك. إنها متعة لا تبحث عن المعنى بقدر ما تبحث عن الإقامة المؤقتة في عالم آخر، موازٍ، بحثاً عن ذلك النسيان الجميل الذي يُعيد إلينا براءة الخيال.

المتعة الثانية هي متعة التركيب. في هذا النمط، القارئ لا يستسلم للنص بل يتحدّاه. إنه القارئ الذي يتعامل مع الرواية كما يتعامل عالم الآثار مع نقش قديم: يحلّلُهُ، يربط بين أجزائه، يبحث عن رموزه ومفاتيحه. هنا تتحوّل اللذة إلى فعل فكري، إلى شغف ببنية السرد لا بوقائعه فقط. روايات مثل اسم الوردة لأومبرتو إيكو، أو قوس قزح الجاذبية لتوماس بينتشون تُجسّد هذا النمط: أعمال تُبنى كإنشاءات فكرية رفيعة يشارك القارئ في رسم خريطتها. المتعة هنا لا تأتي من الحكاية بل من الذكاء البنائي، ومِنْ شعور القارئ أنه شريك في صناعة المعنى، لا مستهلك له فحسب.

النمط الثالث من المتعة الروائية هو متعة الاعتراف. ليست كل الروايات مرآة للعالم؛ فبعضها مرآة للذات. حين نقرأ عملاً مثل الغريب لألبير كامو أو البحث عن الزمن المفقود لبروست، فإننا لا نبحث عن حكاية بقدر ما نبحث عن أنفسنا. الرواية هنا مساحة اعتراف مؤجلة، نرى فيها ما لا نجرؤ على قوله في الحياة اليومية. القارئ في هذا النمط يجد لذّته في التعرّف إلى ذاته عبر الآخر. كل سطر يذكّره بجراحه الصغيرة، وكلُّ شخصية تعيد إليه ظلّه المفقود. إنها المتعة التي تولد من الحميمية، ومن الإحساس بأن النصّ يعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا.

النمط الرابع هو متعة اللغة. في هذا النمط تتراجع الحكاية إلى الخلف وتتقدّم اللغة إلى المقدمة. هنا لا تتجسّدُ المتعة في (ماذا يحدث؟) بل في (كيف يُقال؟). الكاتب لا يسرد فقط بل يعزف بالكلمات. يحوّل الجمل إلى موسيقى. المتعة هنا جمالية خالصة، متعة الإصغاء إلى اللغة وهي تُعيدُ اكتشاف نفسها، وحيث تصبح القراءة نوعاً من الإصغاء اللذيذ لصوت داخلي يحدّثك من غير وسيط.

النمط الخامس هو متعة القلق. ليست كل المتع الروائية مقترنة بطمأنينة راسخة. أحياناً يهبنا الأدب لذة مقلقة كمن ينظر في مرآة تكشف له عما لا يريد أن يراه. روايات مثل 1984 لجورج أورويل أو الطاعون لكامو تمنحنا هذا النمط: متعة القلق المفضي إلى المواجهة، لا الهروب. القلق هنا ليس سلبياً بل لحظة وعي. إنه الارتجاف الجميل أمام الحقيقة، والمتعة التي تنبع من الخطر المعرفي حينما يفتح النص باباً نحو المجهول الأخلاقي أو السياسي أو الوجودي. إنها المتعة التي تُشبه المأساة الإغريقية: الألم الذي يطهّر؛ لأنّ القارئ يخرج منها أكثر معرفة وإن كان أقل راحة.

النمط السادس هو متعة الدهشة. كل قارئ يحمل في داخله توقاً إلى الدهشة، إلى تلك اللحظة التي تتجاوز فيها الرواية كل توقّع. الدهشة ليست مجرد مفاجأة في الحبكة بل توافقٌ خفيٌّ بين ما لم نتوقّعه وما يبدو، رغم ذلك، منطقياً إلى حد الجمال. حين نقرأ رواية المسخ لكافكا ونجد إنساناً يستيقظ ليجد نفسه حشرة، أو ندلف أجواء رواية مائة عام من العزلة لماركيز فنرى الواقع يمتزج بالسحر، ندرك أننا أمام متعة من نوع نادر: متعة أن يُعاد ترتيب العالم في وعينا. الدهشة هي لحظة تولد فيها لغةٌ جديدةٌ للحياة، تجعل القارئ يشعر أنه يرى العالم الذي طال عهده به بعيون جديدة.

النمط السابع هو متعة الغياب. هذه هي المتعة الوحيدة التي لا تحدث في أثناء القراءة بل بعدها. تتحقق هذه المتعة حين نغلق الكتاب، ونكتشف أن شيئاً منه ما زال يعمل فينا بصمت. إنها المتعة التي تنبع من النقص، من الإحساس بأنّ الرواية لم تُغلق العالم بل فتحته على احتمالاته. روايات كثيرة تعيش فينا بهذه الطريقة، وعندما نغادرها في المحطّة الأخيرة، فكلها تترك فينا شيئاً ناقصاً، فراغاً صغيراً يواصل التمدّد فينا ويترك بصمة شاخصة في ذاكرتنا. الغياب هو ذروة المتعة الناضجة: حين نكتشف أنّ القراءة ليست لحظة بل أثر طويل الأمد، وأنّ النص العظيم لا يُقرأ مرة واحدة بل يسكن الذاكرة كوشم لا فكاك من مفاعيله المستقبلية.

*****

ما أودُّ التأكيد عليه أن ليست المتعة الروائية واحدة؛ بل هي مُتعٌ عديدة تتخالف شكلاً وآلية مع تبدّل القارئ والزمن والمزاج. في العادة المتواترة يجد القارئ الشاب لذّته في الانغماس، والمفكّر يجدها في التركيب، والمكلومُ في الاعتراف، والعاشق للجمال في اللغة، والمتوتّر في القلق، والمغامرُ في الدهشة، والحكيم في الغياب. إنها ليست طبقات متنافسة بل مستويات متداخلة. قد نبدأ بالانغماس وننتهي بالغياب، أو نمرّ من بوّابة الدهشة إلى القلق ثم نعود إلى الاعتراف. الرواية الحقيقية لا تُشبِعُنا من الخارج؛ بل تُوقظ فينا القارئ من الداخل. وحين ندرك ذلك نفهم أنّ إمبسون كان محقاً: الجمال يكمن في التعدّد، في الغموض، في أن تكون التجربة الأدبية قابلة لأن تُقرأ بسبعة أنماط على الأقل.

إذا كان الغموض في الشعر هو تعدّد المعنى؛ فإنّ المتعة في الرواية هي تعدّد سبل التلقي. كلاهما دعوة غير مقيّدة للحرية؛ حرية الكاتب في أن يكتب، وحرية القارئ في أن يجد لذّته الخاصة، لا تلك التي أعدّها له المؤلف.

أعظمُ خواص الرواية الحقيقية هي أنها تمنحنا هذا الحق الجميل: أنْ يحبّها كلٌّ منّا بطريقته ووسائله ومقاربته الفكرية الخاصة.


الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»
TT

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

يتناول كتاب «إدراك العالم... الصور النمطية المتبادلة بين الأنا والآخر» للدكتور زهير توفيق، التصورات المتبادلة بين العرب المسلمين والآخرين في العصور الحديثة والوسطى، لا سيما الشرق الفارسي والغرب الكنسي. وقد صدر الكتاب عن «الآن ناشرون وموزعون» بالأردن في 420 صفحة.

يقول المؤلف في المقدمة معرِّفاً بالكتاب: «يُمثِّل هذا الكتاب دراسة استقصائية تاريخية وتحليلية لجدل الأنا والآخر، من خلال رصد التصورات المُتبادَلة بين العرب المسلمين والآخرين في العصور الوسطى والحديثة، كون العرب المسلمين مثَّلوا ذاتاً لتعيين الآخر، وتخيُّله على المستوى الديني والإثني والسياسي؛ خاصةً الفرس والأسود واليهودي والمسيحي، بفرعيه اللاتيني والبيزنطي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كونهم موضوعاً للآخرين؛ أي صورتهم في المخيال الفارسي الشرقي (الشعوبية) والغربي الأوروبي؛ الرومي البيزنطي واللاتيني في القرون الوسطى، وتحولات تلك الصورة في أوروبا العصور الحديثة».

ويرى المؤلف في المقدمة أن نظرة كلا الطرفين للآخر هي ثابتة، فلم «يخرج لا الشرق العربي الإسلامي، ولا الآخر في الشرق والغرب قديماً وحديثاً، عن مُسلَّماته وطرائق تفكيره في فَهْمِ الآخر، فقد بقيت ثوابتُه الحضارية والدينية والإثنية سُلطةً مرجعيةً في فهم الذات والآخر، وتمييز الأنا عن الآخرين من فُرسٍ ويهود وبيزنطيين ولاتين، ومهما تغيَّرت الصورة وتحوَّلت لأسباب داخلية وخارجية، فإن الثابت البنيوي فيها هو الآخرية وعُمق الغيرية؛ أي تصعيد الخلاف والاختلاف، فالذات هي المركز الذي تدور حوله الأطراف، والأفضل والمعيار الأمثل، والآخر أو الآخرون مجرد أطراف، هوامش وبرابرة وكفاراً ومنحرفين، ولا يستحقون أكثر مما تمنحه لهم الذات المتعالية».

ويأتي المدخل التمهيدي للكتاب مستشهداً بالعلاقة بين الأنا والآخر (الشرق والغرب)، على اعتبار أن الشرق حين يُذكر يتبادر إلى الذهن الشرق المسلم على وجه الخصوص، والغرب يُراد به الغرب الأوروبي بالأساس قديماً وحديثاً.

يقول: «تفترض قراءتنا للموضوع استمرار الصور النمطية للعرب والمسلمين، وهي الصور التي تشكَّلت في العصور الوسطى، ودخلت معجم الغرب بشكل نهائي كما هو في الاستشراق السياسي والأنثروبولوجي الحديث (الواعي لذاته) الذي نشأ في نهاية القرن الثامن عشر مع حملة نابليون بونابرت على المشرق العربي سنة 1798م».

وعن وضوح رغائب الغرب من الشرق (المسلم)، يقول: «لم ولن يتلطّف الغرب مع الشرق إلا إذا تواطَأ معه على ذاته، وتماهى في خطاب الغرب ومسيرته ورطانته من خلال نُخبةٍ فكرية وسياسية وكيلة، نجح الغرب في خَلْقِها ورفعها إلى سدَّة السُّلطة، واستمدت مشروعيتها ومرجعية وجودها مِن دعمه المطلق على جميع المستويات، ومقابِل ذاك الدعم سوَّقت خطابه في ثقافتها العالمة والشعبية على حدٍّ سواء، وهذا دليل نجاح الغرب في اختراق الشرق الذي وصل إلى طاعة الوكلاء، وامتثالية التابعين».

ويفصِّل المؤلف القول حول أعلام الغرب البارزين الذين تبنوا أفكاراً تنويرية، ومنهم جيبون: «يبدو جيبون منسجماً مع التنوير، ويقدم رؤية مستقلة نقدية خاصة لأحكام الغرب المتحاملة والسلبية عن الإسلام حتى ذلك الوقت، ففي عرضه لأخلاق العرب ودياناتهم قبل الإسلام يقول: (غير أنه في الدولة العربية، وهي أكثر بساطة [من الرومان واليونان] فإن الأمة حرة لأن كل فرد من أبنائها يستنكف أن يُطأطئ الرأس في خضوع وذلة لإرادة سيد ما، ولقد حصَّن العربي نفسه بفضائل صارمة من الشجاعة والصبر والاعتدال، ودفعه حبه للاستقلال إلى ممارسة عادة ضبط النفس، وحفظته خشية العار من أن يذل بالخوف من الألم والخطر والموت، وإن رجاحة عقل العربي وضبط نفسه واضحان في مظهره الخارجي)».