«بوكو حرام».. النشأة والصعود والتحولات

الداعشية في أفريقيا

مسلحو بوكو حرام خلفوا الخراب والدمار في ولاية برنو شمال شرق نيجيريا (أ. ف. ب)
مسلحو بوكو حرام خلفوا الخراب والدمار في ولاية برنو شمال شرق نيجيريا (أ. ف. ب)
TT

«بوكو حرام».. النشأة والصعود والتحولات

مسلحو بوكو حرام خلفوا الخراب والدمار في ولاية برنو شمال شرق نيجيريا (أ. ف. ب)
مسلحو بوكو حرام خلفوا الخراب والدمار في ولاية برنو شمال شرق نيجيريا (أ. ف. ب)

يذكرنا اسمها الشائع «بوكو حرام» الذي يعني بلغة الهوسا «تحريم التعليم الغربي» بحركتي «طالبان أفغانستان وباكستان» اللتين قامتا على التعليم الديني ورفض التعليم النظامي. كما يذكرنا اسمها وموقفها ذلك، بكتاب المنظّر المتشدد «أبو محمد المقدسي» بعنوان «إعداد القادة الفوارس بهجر فساد المدارس»، وغيره من منظري التطرف باسم «الجهاد»، الذين نحوا هذا النحو من تحريم التعليم الغربي والمدني. أما اسمها الرسمي فهو أكثر دلالة على هذا الانتماء، فهي حسبما سماها مؤسسها ويدعوها تابعوها «جماعة السنة للدعوة والجهاد»، وهو ما يذكرنا بأسماء تنظيمات شبيهة كـ«القاعدة في المغرب العربي» التي كان اسمها قبل مبايعتها «القاعدة» عام 2007 هو «الدعوة السلفية للدعوة والقتال» و«جيش أهل السنة في العراق»، الذي أسسه زعيم «داعش» الحالي أبو بكر البغدادي، الذي يحمل شهادة دكتوراه في علم القراءات من جامعة الموصل، وصار بمقتضاه عضوا في «مجلس شورى المجاهدين» الذي أطّره أبو مصعب الزرقاوي (قتل في يونيو/حزيران 2006) جامعا لمختلف الفصائل المتطرفة في العراق. إنها ليست تسميات واحدة، ولكنها توجهات آيديولوجية وعقدية متطابقة، وتأسيسات للروابط التنظيمية في عولمة التطرف باسم الدين فيما قد يفسر صلابة ما يعرف بتنظيمات التطرف المعولمة، وتمدد البيعات من نيجيريا وغرب أفريقيا، حتى إندونيسيا وشرق آسيا، وأهمية الصراع، في ساحة متاحة للتنافس، على قيادة ما يزعم بأنه «الجهاد العالمي» بين تنظيمي «القاعدة» و«داعش» الذي يبدو أنه قد كسبه الأخير.

أسست حركة «بوكو حرام» في ولاية يوبي بشمال شرقي نيجيريا عام 2002 على يد الداعية الشاب حينئذ محمد يوسف الذي أعدمته الشرطة النيجيرية يوم 30 يوليو (تموز) 2009، والذي يبدو أنه كان معجبا بتجربة تنظيم «القاعدة» في أفغانستان، فسمى قاعدته «أفغانستان» في كناما بالولاية المذكورة قبل تمددها في مختلف ولايات الشمال النيجيري، ومن ثم انطلق من مسجد سمّي بـ«مسجد ابن تيمية» - الذي شهد اعتقاله ومن ثم قتله عام 2009 - كما قتل في مسجد ابن تيمية أيضًا بغزة أيضًا «أبو حفص الأنصاري» زعيم جماعة أنصار الله في غزة، على يد أمن حماس وقواتها في نفس العام.
ولد مؤسس الحركة محمد يوسف عام 1970 ويلقب بـ«الميدغوي» وكنيته «أبو يوسف» في قرية نائية بمنطقة يُونوساري التابعة لولاية يوبه في الشمال النيجيري على الحدود مع جمهورية النيجر. وهو لم يكمل تعليمه النظامي، متجها إلى تعليم ديني غير رسمي أصابه بالغلو، فاتجه لتحريم التعليم الغربي والمطالبة بفصل الجنسين بل والانقلاب على الدولة. وهذا ما دفع كثيرين لتسمية حركته التي لم تلق قبولاً شعبيًا في بداية أمرها بـ«طالبان نيجيريا»، كذلك اشتهر المنتسبون للحركة في ولايتي برنو ويوبي في البداية بلقب «اليوسفيين» نسبة للمؤسس، ولم تشتهر تسمية «بوكو حرام» حسب بعض الباحثين إلا بداية من عام 2009.
كانت بداية محمد يوسف التنظيمية والدعوية مع جماعة الإخوان المسلمين في نيجيريا بقيادة إبراهيم الزكزكي في منتصف الثمانينات، غير أنه رفض ميل زعيمها للتشيّع الإيراني الذي اتسع عام 1994، وحدث انشقاق في جماعة الإخوان في نيجيريا، فانضم جناح منها لزعيمها المتشيّع فيما بعد، واحتفظ جناح آخر بانتمائها الإخواني وتسمت جماعة «التجديد الإسلامي».
أما محمد يوسف فإنه اقترب 1994 من جماعة متشددة تدعى «جماعة إزالة البدعة وإقامة السنة» التي أسسها الشيخ أبو بكر جومى، الذي شغل منصب كبير القضاة في الشمال النيجيري خلال عقد في السبعينات من القرن الماضي، غير أن «أبو يوسف» محمد يوسف ظل على ميله وتوجهه للحاكمية التي تعمقت وازداد تشدده. وما لبث محمد يوسف بعدها أن انفصل عنه بعد انحرافاته الجزئية لهذا السبب مع خط الجماعة، وسيطر على ما بيديه من مساجد مؤسسًا ومعلنًا جماعته الجديدة تحت اسم «جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد» عام 2002، التي عرفت فيما بعد بـحركة «بوكو حرام».
هذا التطور في حياة وفكر محمد يوسف يشبه تماما تطور «الصحوية» أو «القطبية» أو «السرورية» في منطقة الخليج العربي التي خرج من بطنها تنظيم «القاعدة» وأخواته فيما بعد.
كذلك يتشابه هذا التطور في مسار «بوكو حرام» ضمن الإطار السياسي والاجتماعي الحاكم، حيث تكون فكرة «الجهاد العالمي» و«عالمية المواجهة» مبدأ ودافعا رئيسا. ولقد رأى محمد يوسف، كما رأى أسامة بن لادن وغيره، في تطبيق الشريعة المعلن تطبيقًا ناقصًا، بعدما أقرّت ثلث الولايات النيجيرية الـ36 عام 2001 وطبّقت الشريعة الإسلامية في العقد الماضي، وكانت مطالبة «بوكو حرام» بتوسيع نطاق تطبيق الشريعة.
* الأسس الفكرية لـ«بوكو حرام»
حسب مانفيستو، أو بيان، «بوكو حرام» الذي وضعه مؤسسها محمد يوسف، والمعنون «هذه عقيدتنا ومنهاج دعوتنا»، يتضح أن مبادئها نفس مبادئ الجماعات المتطرفة المدعية الجهاد مثل تنظيمي «داعش» و«القاعدة»، حيث تقوم على الأسس التالية:
1 - الحاكمية، وتكفير الحكم الوضعي والديمقراطية واعتبارها أديانا مخالفة للإسلام وخروجا منه.
2 - اعتقاد الفرقة الناجية وأنهم الطائفة المنصورة المبشّر بها في نبوءات آخر الزمان.
3 - تحريم التعليم الغربي من المدارس إلى الجامعة.
4 - ضرورة إقامة «الدولة الإسلامية» والبيعة للإمام.
5 - الولاء والبراء ومعاداة المخالفين، سواء من المستغربين أو من الاتجاهات المذهبية الأخرى كالصوفية والتشيّع.
6 - نجح محمد يوسف، مؤسس الحركة، في ربط حركته بتاريخ التجارب الإسلامية والتوسع الإسلامي في أفريقيا، وخاصة تجربة الشيخ عثمان دان فوديو الذي أسس دولة إسلامية في نيجيريا في أوائل القرن التاسع عشر، وعرف بتطبيقه الحدود والولاء والبراء ومواجهة البدع.
ما سبق هي نفس الأسس الفكرية التي تقوم عليها التنظيمات المتشددة والمتطرفة المعولمة في مختلف أنحاء العالم، ما يطرح تساؤلا حول التمدد الراديكالي ودفعه للتحول من خصوصيات الإسلام التاريخي إلى الإسلام الثوري الذي تمثله.
وكانت أولى العمليات المسلحة عام 2003 بعد أن انتشرت جماعته في ولايات الشمال النيجيري الشرقي الخمس، وهي: غومبي وأدماوا وبرنو ويوبي وباوشي، وكذلك في ولايات الشمال والشمال الغربي وهي: كانو وجيغاوا وكاتسينا وسوكوتو وكبي، كما امتد تهديدها لدول الجوار بعد ذلك، وشنت عمليات في النيجر وتشاد والكاميرون.
خلال عام 2009 أظهر محمد يوسف وحركته مفاصلته وحربه على الدولة النيجيرية من خلال ما سماه «الرسالة المفتوحة إلى رجال الحكومة الفيدرالية»، هدّد فيه الدولة، وحدّد لها أربعين يومًا للبدء في إصلاح العلاقة بينها وبين حركته، وإلا فسيبدأ «عملية جهاد» على مدى أوسع لا يعرف مداه. بقيت المؤسسة بعد قتل المؤسس في أعقاب اقتحام مسجد ابن تيمية الذي كان يخطب ويعتصم فيه الزعيم ومئات من حركته. قتل في الاقتحام عدد كبير بينما اعتقل محمد يوسف قبل أن تقتله الشرطة وهو مكتوف اليدين أمام أعين أنصاره وعلى الهواء مباشرة، في بث لمدة خمس دقائق لحوار بينه وبين رجال الأمن انتهى بمقتله.
حسب أليكس ثروتمان Alex Throutman أستاذ الدراسات الأفريقية في جامعة جورجتاون بالولايات المتحدة، ودراسته التي صدرت أخيرا عن معهد بروكينغز في يناير (كانون الثاني) 2016، فإن «بوكو حرام» التي تهدد راهنًا نيجيريا والنيجر وتشاد، قتلت ما لا يقل عن 15 ألف إنسان في هذه البلدان، تقوم على رفض الديمقراطية الغربية واعتبارها كفرا شأن غيرها من الحركات المتطرفة التي ترفع لواء الإسلام والجهاد، وكذلك على رفض التعليم الغربي الذي تراه حرامًا. ولتاريخه تزداد قوة «بوكو حرام» رغم إعلان الحكومة النيجيرية مرات كثيرة، كان آخرها في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أنها قضت عليها تماما، أو مقتل زعيمها الحالي أبو بكر شيكاو (مواليد سنة 1965 تقريبا)، وهو ما ثبت لاحقًا أنه زعم غير صحيح. الحقيقة أن «بوكو حرام» دخلت طورًا جديدًا بعد مقتل مؤسسها، وبايعت قيادتها الجديدة وعلى رأسها أبو بكر شيكاو «القاعدة» في البداية، في 16 أغسطس (آب) 2009، وبدت معه أكثر وحشية والأكثر توسعًا في التكفير والقتل على الهوية وعلى مؤسسات الأمن والدولة، والعمليات الانتحارية، إلا أن شيكاو لم يظهر إلا في يونيو 2010 ردا على إشاعة مقتله من قبل السلطات النيجيرية.
ولقد أحسنت الحركة استغلال الصدامات الطائفية وجرائم التطهير العرقي في مدينة جوس بولاية الهضبة (بلاتو) حيث سقط فيها الكثير من المسلمين، وكان أفظعها في شهر مايو (أيار) في أيام العيد، ما برّر لـ«بوكو حرام» - في أنظار أتباعها - شن الإغارات والتفجيرات ضد المسيحيين، وسقط في هذه الأحداث أكثر من 550 شخصًا على الأقل في قرابة 115 هجومًا حسب الكثير من التقارير.
وفي 8 مارس (آذار) 2015 بايعت «بوكو حرام» تنظيم داعش في بيان صوتي بُث عبر حساب الحركة على تويتر، على لسان زعيمها أبوبكر شيكاو، الذي أعلن بيعته والتزامه بالسمع والطاعة في العسر واليسر.
ولا شك أن التحول لبيعة «داعش» أعطى زخما أكبر للتنظيم المتمدد في نيجيريا ودول الجوار، وسيجد مددا من استقرار «ولاية داعش» في جنوب ليبيا القريبة، وهو ما عبر عنه الرئيس النيجيري محمد بخاري أمام البرلمان الأوروبي في 3 فبراير (شباط) الحالي 2015 بأنها تعد «قنبلة موقوتة» بالنسبة لأفريقيا وكذلك لأوروبا.
بعد أفول «القاعدة» وصحوة «داعش» جاء تحول شيكاو للبيعة لـ«داعش» في مارس 2015 خطوة مشجعة ومهمة جدًا بالنسبة إلى «البغدادي» الذي قبلها مرحبًا أملا في مزيد من التوسع في أفريقيا وسحب البساط من تحت أقدام «القاعدة»، ولكن في المقابل تأمل «بوكو حرام» من هذه البيعة الحصول على المزيد من الدعم المالي واللوجستي والإعلامي الذي يبدو أن شيكاو قادر عليه.
يلح كثير من دارسي «بوكو حرام»، مثل الدكتور حمدي عبد الرحمن وعمر سيتي وثروتمان وغيرهم، على أن الإكراهات الاقتصادية والاجتماعية وهشاشة الدولة والخدمات في نيجيريا ساعدت هذه الحركة المتطرفة على التضخم والحضور الآيديولوجي والمؤثر في شمال نيجيريا والبلدان المجاورة، في مواجهة الحكومة النيجيرية الاتحادية والمكونات من غير المسلمين التي تمثل 40 في المائة من مجموع السكان.
ويظل بين الداخل والخارج وجدليتهما يجتمع تفسيران يكتملان ويتداعمان، في تفسير ظهور مختلف الظواهر والتنظيمات المتطرفة، لكن العامل الآيديولوجي يظل أقوى من سواه، وهو ما يجذب المقاتلين الأجانب من دول الغرب الليبرالي وغيرها، كما أنه من صنع محمد يوسف وجماعته فيما بعد.
ختامًا، فإن ما سبق يطرح علينا سؤالاً أكثر عمقا عن جدوى تقسيمات ما يسمى بـ«الإسلام الأفريقي» ذي الطابع الصوفي، أو «الإسلام الآسيوي» ذي الطابع الروحي والتسامحي، أو «الإسلام الأوروبي» ذي الطابع الليبرالي، إذ تبدو هذه البيئات على تنوعها بيئات قابلة للاختراق والتحول أمام قوة تدفق آيديولوجيا التطرف وهجومها دون صد، وليس أدل على ذلك من حالة كـ«بوكو حرام» الداعشية الأفريقية التي صعدت في بيئة صوفية، بينما يتجاوز عدد المقاتلين الأوروبيين في «داعش» في سوريا والعراق ما لا يقل عن خمسة آلاف مقاتل، ما يمثل ما بين 20 إلى 30 في المائة من المقاتلين الأجانب عموما، حسب تقرير سوفان غروب في ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
مراجع:
- د حمدي عبد الرحمن: تحولات الخطاب الإسلامي في أفريقيا، ط1 مركز الأهرام للنشر سنة 2015.
- Alex Throutman، The Disease unbelief; Bolo Haram’s religious and political worldview، Brookings analysis paper in 22 January 2016.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟