فائق بطي

فائق بطي
TT

فائق بطي

فائق بطي

لن أقول هنا إنك كنت عميد الصحافة العراقية ومؤرخها الوحيد، فسأعيد ما يقوله الآخرون جميعا، كما أعرف أن وجهك سيزداد احمرارًا، وأنك ستحني رأسك خجلاً من هذه الحقيقة، التي تصر على اعتبارها إطراء. ولن أتحدث عن كتبك وموسوعاتك، فهي هناك فوق رفوف المكتبات. ولا أريد أن أدعي أني لا أصدق موتك، فقد رأيت بعيني قبل ثلاثة أيام فقط كوم التراب ينهال على جسدك النحيل، الذي كان طويلا وأنيقا أناقة أي أرستقراطي إنجليزي. ولن أقول أيضًا إني بكيت عليك كصديق فقط. سأكذب عليك أمام الموت على الرغم من كل الدين الذي لك علي، والذي لا أعرف كيف أرده فأنت لن تعود لأخذه (هل صار الأمر شخصيًا؟ فليكن. ما الضير في ذلك؟) لكن هل كنت تنتظر رد دين من أحد، سواء من تلاميذك الكثر، الذين علمتهم كل شيء، أم من الصحافة التي تصوفت لها، ومن الوطن الذي تشرّبته صغيرا، لكنه نفاك في شيخوختك، وحتى إنه أنكر عليك قبرا؟
لقد ذكرتني، وأنا أراك ممددا لا حول لك، بذلك الحلم الذي خبا. شعرت كأن جزءا منه يدفن معك. عدت بعيدا.. بعيدا جدا عن جسدك لذلك الوطن الذي يضيع، أو ضاع.. وبكيت. لا خجل في البكاء، فالرجال الذين يبكون طيبون، كما يقول صاحبنا غيته. ثم، على ماذا سيبكي المرء إن لم يكن على ملك ضاع؟ يا للذاكرة الإنسانية العجيبة التي تراجع كل مراحل الحياة في لحظة الموت!
رأيت حقًا قطعة ذهبية من تاريخ العراق، تشع على جانبيك في الحفرة التي ستصير قبرك، هذا القبر الذي ضل طريقه من بغداد إلى لندن.. قطعة ظلت تتوهج منذ أكثر من نصف قرن منذ أن أورثك أبوك روفائيل بطي، ذلك الصحافي والباحث الأدبي الجليل، جريدة «البلاد»، أول جريدة مهنية حقيقية في بلاد ما بين النهرين، وكنت لا تزال طالبا صغيرا في جامعة القاهرة، فقطعت دراستك، وعدت لتدير مدرسة أكبر بكثير من عمرك، بدل أن تكون تلميذًا فيها.
تذكرت ما كتبه الأب أنستاس الكرملي في مجلته «لغة العرب» عن هذا الأب الذي أورثك عراقا واحدًا: «يعرف كتاب العربية الكاتب المقدام رفائيل بطي فقد استحسن في بغداد جريدة سماها (البلاد) وقد لاقت إقبالاً عظيمًا من العراقيين وغيرهم.. حتى يمكن أن يقال عنها إنها توافق جميع الأحزاب والمذاهب والآراء والأديان»، وتذكرت دخوله مجلس النواب مرات كثيرة ممثلاً للمسيحيين، واستيزاره مرتين، وقول الجميع عنه، أعداء وأصدقاء، بأنه «كان مسلمًا بين المسيحيين ومسيحيًا بين المسلمين».
هذا ما ورثته عن أبيك في الخمسينات: عراق واحد، مسلم ومسيحي. وانظر ما فعلوا بالعراق المسلم الآن. قسموه نصفين، نصف ينكر نصفا. شيعة وسنة، وسنة وشيعة. وتذكرت أنك لم ترث شيئًا آخر عن أبيك، سوى مطبعة بالكاد تعمل وأوراق ثمان حوّلها روفائيل بطي إلى عنوان للعراق الحديث.. العراق الذي كان. كانت مهمة عملاقة أمام التلميذ الصغير، الذي كبر فجأة مع عنفوان العراق الذي كان يريد أن يولد ويكبر ويصل إلى مرحلة النضج سريعا، فارتفعت حروف «البلاد» مع ارتفاع عمارة محمد مكية ورفعت الجادرجي، وانتصاب منحوتات جواد سليم، وتعليق لوحات فائق حسن ومحمود صبري على جدران المعارض والبيوت، وانتفاضة قصائد بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة. كان عراقا جديدا يولد.. ثم سريعا عراق يوأد. مؤودة تقتل في المهد. دورة متواصلة يا صديقي، لم تكف يوما عن الدوران والطحن منذ الخمسينات إلى الآن. كم دارت بك هذه الدورة في العراق وفي المنفى؟ رأيتك بأم عيني بداية الثمانينات وأنت تصبغ البيوت في لندن لتعيش، وما توفره تصدر به جريدة صغيرة، أو حتى كراريس، أو حتى مطبعة فقيرة كمطبعة أبيك، لتواصل حلمك الصغير بحرف حر في وطن احتله البعثيون طويلا. ولكي تقترب من هذا الوطن المحتل، ذهبت إلى كردستان لتحرث، وتواصل الحلم. راح البعثيون، وجاء الطائفيون.. ماذا بعد؟ لكنك، أشهد، لم تستيقظ قط من هذا الحلم.. حتى في لحظة موتك، لأنك تعرف أن الأحلام لا تموت.



انطلاق الدورة الـ19 لـ«البابطين الثقافية» بمضاعفة جوائز الفائزين

وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)
وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)
TT

انطلاق الدورة الـ19 لـ«البابطين الثقافية» بمضاعفة جوائز الفائزين

وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)
وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)

كرمّت «مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين الثقافية»، صباح اليوم (الأحد)، الفائزين بجوائز الدورة الـ19 للجائزة، مع انطلاق هذه الدورة التي حملت اسم مؤسس وراعي الجائزة الراحل عبد العزيز سعود البابطين، تخليداً لإرثه الشعري والثقافي.

وأُقيم الاحتفال الذي رعاه أمير الكويت، الشيخ مشعل الأحمد الصباح، في مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي، بحضور (ممثل أمير البلاد) وزير الإعلام والثقافة وزير الدولة لشؤون الشباب عبد الرحمن المطيري، ومشاركة واسعة من الأدباء والمثقفين والسياسيين والدبلوماسيين وأصحاب الفكر من مختلف أنحاء العالم العربي، كما حضر الحفل أعضاء المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.

جانب من حضور دورة الشاعر عبد العزيز سعود البابطين (الشرق الأوسط)

وقال وزير الثقافة والإعلام الكويتي، عبد الرحمن المطيري، في كلمته، إن هذا الملتقى «الذي يحمل في طياته عبق الشعر وأريج الكلمة، ليس مجرد احتفالية عابرة، بل هو تأكيد على أن الثقافة هي الروح التي تحيي الأمم، والجسر الذي يعبر بنا نحو مستقبل زاخر بالتسامح والتعايش والمحبة».

وأضاف: «إن لقاءنا اليوم ليس فقط تكريماً لمن أبدعوا الكلمة وشيَّدوا صروح الأدب، بل هو أيضاً دعوة لاستلهام الإرث الثقافي الكبير الذي تركه لنا الشاعر الراحل عبد العزيز سعود البابطين (رحمه الله)، والذي كان، وسيبقى، قامة ثقافية جمعت بين جمال الكلمة وسمو الرسالة... رسالة تُعبِّر عن القيم التي تجمع بين الحضارات. ومن هنا جاءت مبادراته الرائدة، التي عرَّف من خلالها الشرقَ بالشعر العربي، وقدَّم للغرب بُعدَه الإنساني، جاعلاً من الشعر جسراً يربط القلوب، ومفتاحاً للحوار بين الثقافات».

رئيس مجلس أمناء «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين يلقي كلمته في افتتاح الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)

في حين قال رئيس مجلس أمناء «مؤسسة البابطين الثقافية»، سعود البابطين، إن هذه الدورة تأتي احتفاءً «بالشعر، فن العرب الأول على مر العصور، وتكريماً للمبدعين والفائزين مِنَ الشعراءِ والنقاد، ووفاءً ومحبة لشاعر هذه الدورة (عبد العزيز البابطين) الذي أخلص في رعاية الشعر العربي وخدمة الثقافة العربية بصدق ودأب وتفانٍ طيلة عمره كله، بلا ملل ولا كلل».

وفي خطوة لافتة، قدَّم رئيس مجلس الأمناء، أمين عام المؤسسة السابق، الكاتب عبد العزيز السريع، الذي رافق مؤسس الجائزة منذ نشأتها، ليتحدث عن ذكرياته مع راعي الجائزة الراحل، والخطوات التي قطعها في تذليل العقبات أمام إنشاء المؤسسة التي ترعى التراث الشعري العربي، وتعمل فيما بعد على بناء جسور التواصل بين الثقافات والحضارات.

وأعلن البابطين، في ختام كلمته عن مضاعفة القيمة المالية للجوائز ابتداءً من هذه الدورة، وفي الدورات المقبلة لـ«جائزة عبد العزيز البابطين».

ونيابة عن الفائزين، تحدَّث الأديب والشاعر الكويتي الدكتور خليفة الوقيان، مشيداً بـ«جهود (مؤسسة البابطين الثقافية) في دعمها اللامحدود للفعل والنشاط الثقافي داخل وخارج الكويت».

وأضاف: «في هذا المحفل الثقافي البهيج، يمرُّ في الذاكرة شريط لقاءات تمَّت منذ 3 عقود، كان فيها الفقيد العزيز الصديق عبد العزيز البابطين يحمل دائماً هَمّ تراجع الاهتمام بالشعر، ويضع اللَّبِنات الأولى لإقامة مؤسسة تُعنى بكل ما من شأنه خدمة ذلك الفن العظيم، ثم ينتقل عمل المؤسسة إلى الأفق الدولي، من خلال ما يُعنى بقضية حوار الثقافات والحضارات».

وألقى الشاعر رجا القحطاني قصيدة عنوانها «إشعاع الكويت»، من أشعار الراحل عبد العزيز البابطين.

يُذكر أن فعاليات الدورة الـ19 مستمرة على مدى 3 أيام، بدءاً من مساء الأحد 15 ديسمبر (كانون الأول) إلى مساء الثلاثاء 17 ديسمبر الحالي. وتقدِّم الدورة على مسرح مكتبة البابطين المركزية للشعر العربي 5 جلسات أدبية، تبدأ بجلسة بعنوان «عبد العزيز البابطين... رؤى وشهادات»، تليها 4 جلسات أدبية يعرض المختصون من خلالها 8 أبحاث عن الشاعر عبد العزيز سعود البابطين المحتَفَى به، و3 أمسيات شعرية ينشد فيها 27 شاعراً.

وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)

الفائزون:

* الفائز بالجائزة التكريمية للإبداع الشعري الشاعر الدكتور خليفة الوقيان، وقيمة الجائزة 100 ألف دولار.

* الفائزان بجائزة الإبداع في مجال نقد الشعر «مناصفة»، وقيمتها 80 ألف دولار: الدكتور أحمد بوبكر الجوة من تونس، والدكتور وهب أحمد رومية من سوريا.

* الفائزة بجائزة أفضل ديوان شعر، وقيمتها 40 ألف دولار: الشاعرة لطيفة حساني من الجزائر.

* الفائز بجائزة أفضل قصيدة، وقيمتها 20 ألف دولار: الشاعر عبد المنعم العقبي من مصر.

* الفائز بجائزة أفضل ديوان شعر للشعراء الشباب، وقيمتها 20 ألف دولار: الشاعر جعفر حجاوي من فلسطين.