التحمت تسمية «سينما عربية» بالفخاخ السياسية التي عصفت، منذ سنوات بعيدة، بهذا الجزء من العالم. فأصحاب المبدأ الذي يرى أننا أمّة عربية واحدة وأن إنتاجا من المغرب إنما هو عربي بذات القيم والمفاهيم لأي إنتاج من أي دولة أخرى، يوافقون على أن هناك سينما عربية واحدة ولا بد من جمع الإنتاجات كلها تحت مظلتها.
الآخرون الذين يرون، وعلى نحو أكثر واقعية، أن هناك دولا عربية لكن ليست هناك وحدة عربية في المناهج والمسارات والسياسات، لا يوافقون، بالتالي، على التسمية المذكورة باعتبارها غير موجودة.
لكن، وخير الأمور أوسطها، هناك جوانب صحيحة وأخرى خاطئة في هذا الأمر بحيث لا يمكن الأخذ كليًا بأحد الاتجاهين منفردًا.
الواقع هو أن القيم تختلف والمفاهيم كذلك حتى بين النظم السياسية والاجتماعية المتشابهة. هناك ثقافات بعضها واحد في الأصل وبعضها متعدد تبعًا للمؤثرات والعوامل الخارجية أو المحيطة. لكن حتى ابن الصحراء في بلد خليجي لا يعيش، بالضرورة، الحياة ذاتها التي يعيشها ابن صحراء في الشمال الأفريقي، فما البال بابن المدينة التي تمنحه الكثير من أوجه الاختلاف تبعًا لكل ما تعايشه من ظروف ونظم عمل وتقاليد؟
مقوّمات
واقعيًا أيضًا، فإن السينما العربية هي السينما المنتجة من أي مكان ما بين المغرب وموريتانيا في الغرب والخليج العربي بصفة عامة في الشرق بصرف النظر عن لهجتها ومواضيعها وكل تلك القضايا المختلفة التي قد تتباين في بعض الأحيان من منطقة إلى أخرى كتباين الطبيعة ذاتها٠
أن نقول إن هذا الفيلم من إنتاج جزائري أو مصري أو لبناني أو إماراتي لا يعني أنه ليس فيلمًا عربيًا في قوامه الأشمل. لا يعني أيضًا أنه لا ينتمي إلى مظلة شاملة لا بديل عن تسميتها بالسينما العربية. بتعريف تقني وإنتاجي بحث هو فيلم لبناني أو سوري أو مصري أو عراقي لكنه ينتمي إلى السينما العربية ككل.
إلى ذلك، فإن مشاهدة الكثير من الأفلام العربية في هذه الأيام، باتت تقود إلى رغبة السينمائيين في تداول حكايات تقع في أكثر من بلد أو صالحة لأن تقع في أكثر من مدينة عربية. مثال ذلك ما يأتي عليه فيلم «مؤكد حلال» للجزائري محمود زمّوري، الذي لولا أنه يذكر أن أحداثه تقع في المغرب، لكان من السهل اعتبارها واقعة في الجزائر أو في سواها من الدول.
فيلم محمد خان الأخير «قبل زحمة الخريف» مصري بالكامل، لكن حكايته تستطيع أن تتخذ مكانًا لها في تونس أو في لبنان بقليل من التغيير. ومع أن الفيلم التسجيلي «اكسري الصمت» يتحدّث عن وقائع مغربية تخص ظاهرة الاعتداء على النساء إلا أنه لا يبتعد كثيرًا عن فيلم تونسي سابق حول الموضوع ذاته.
إنها المقوّمات والأسس الشخصية المتأثرة بالقيم والتقاليد ذاتها التي تجعل من عدد غير قليل من الأفلام العربية قادرة على تجاوز حدودها بمجرد اختياراتها من المواضيع المعالجة.
وفي حين أن بعض المنتقدين يؤكدون أنهم يتحدّثون عن أنه لا توجد آليات إنتاجية للسينما العربية لكي نسمّيها سينما عربية. لكن هذا لم يعد جدالاً يتمتع بالكثير من البراهين، فالإنتاج المغربي من الأفلام في كل عام يوازي، عددًا، الإنتاج المصري. والسينما الإماراتية تقود هذا العام الأعمال الخليجية كافة بعدد الأفلام الروائية والتسجيلية الطويلة (نحو عشرة أفلام) لجانب ما أتاحته مؤسستا سند وإنجاز من مساهمات مالية لإنتاجات لسينمائيين عرب من دون تفريق ومن خارج دولة الإمارات.
في الوقت ذاته، تشهد السينما اللبنانية طفرة غير مسبوقة في تاريخها القريب حيث إن هناك أكثر من 10 أفلام روائية وتسجيلية طويلة خرجت من كنفها حتى نهاية العام المنصرم. والسينما الجزائرية أعادت الحركة لعجلة الإنتاجات على نحو ملحوظ.
إلى ذلك، هناك سينمات عربية متعددة ليس فقط بالانتماء المنفرد، بل من خلال الإنتاجات المشتركة بينها. ولعل فيلم المنعطف، للمخرج الأردني رفقي عساف يمكن اعتباره نموذجًا لتلك الشراكة الآخذة بالتزايد والتنوع. ففيلمه الجديد «المنعطف» تضمن تمويلاً إنتاجيًا من مصر والإمارات والأردن (لجانب إسهام فرنسي).
وفي حين أن فيلم «أبدًا لم نكن أولادًا» للمخرج محمود سليمان انطلق للوجود بهمّـة وبموضوع مصريين إلا أن الأموال المسكوبة فيه جاءت من قطر والإمارات ولبنان ومصر. والحال مشابه بالنسبة لفيلم المخرجة الفلسطينية مي المصري «3000 ليلة» إذ جمعت التمويل من جهات متعددة قوامها استثمارات إماراتية وقطرية وفرنسية ولبنانية.
في المقابل، وما هو صحيح أيضًا، أن المسألة يجب ألا تستخدم سياسيا على طريقة خلط الأوراق بحيث تتم إذابة الفروقات الواضحة في الهويات الذاتية والاجتماعية بين كل بلدين، فما بالك بين كل منطقتين. هذا لا ينفع لوصف ما سبق من أعمال تدفعها الضرورات للبحث عن جهات إنتاجية مشتركة كل منها يريد أن يعبّر عن رغبته في دعم السينما العربية والاشتراك مع الجهات الأخرى في مساندتها.
والمسألة ليست سياسية على الإطلاق ولا يمكن لها أن تكون إلا بقدر غير بسيط من الادعاء لأنه إذا ما قبلنا بمنظومات إدارية وسياسية تتحدّث وتتحرك باسم «العالم العربي» من حين لآخر، وإذا كنا نقبل أن نقول إن هناك سينما أوروبية، علما بأن ربع الدول الأوروبية فقط هو الذي ينتج أكثر من ثلاثة أرباع الدول الأخرى، وقبلنا وجود السينما الأميركية اللاتينية، وليس لدينا مشكلة مع تسمية السينمات المنتشرة في القارة الآسيوية تحت راية واحدة هي «السينما الآسيوية»، فلماذا ننكر وجود سينما عربية؟
أما وقد وصل فيلم «ذيب» للأردني - البريطاني ناجي أبو نوّار، لمرحلة الترشيحات النهائية في سباق أوسكار أفضل فيلم أجنبي، فإن السؤال الذي سينطلق بلا ريب، وقد يتكرر أو ينتشر، هو إذا ما كان هذا هو فوز للسينما الأردنية أو هو فوز للسينما العربية.
تبعًا لما سبق، هو فوز للسينما الأردنية بلا ريب. في الوقت ذاته - ومن دون تناقض - هو فوز للسينما العربية أيضًا. وفي كلا الحالتين هو - في الأساس - فوز للفيلم الجيّد الذي من أجله تقام المسابقات الدولية.
القضية الغريبة للسينما العربية
تناقضات مطروحة لأسئلة مستمرة
القضية الغريبة للسينما العربية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة