«سوق الهرج» في بغداد تبيع كل ما هو نادر

«أم كلثوم» غنت فيها عام 1935

بائع أحجار كريمة يفحص أحدها في سوق هرج - أجهزة تسجيل موسيقية قديمة
بائع أحجار كريمة يفحص أحدها في سوق هرج - أجهزة تسجيل موسيقية قديمة
TT

«سوق الهرج» في بغداد تبيع كل ما هو نادر

بائع أحجار كريمة يفحص أحدها في سوق هرج - أجهزة تسجيل موسيقية قديمة
بائع أحجار كريمة يفحص أحدها في سوق هرج - أجهزة تسجيل موسيقية قديمة

من يزور بغداد لا بد له من قضاء ساعات من نهار عطلة الأسبوع في هذه السوق التي يباع فيه كل شيء.. أما غالبية البغداديين فكأنهم على موعد ثابت ومحدد للقاء في (سوق الهرج) منذ صباح كل يوم جمعة وحتى الساعة الثالثة من بعد ظهر اليوم.. فزيارة هذه السوق تحقق أكثر من متعة وهدف.. ومن لا يشتري أي شيء فعلى الأقل يتفرج.
في سوق هرج، أو (الهرج) يعرض للبيع ما يتصوره خيالك من الحاجات، والتحف، والأنتيكات، والأثاث القديم، والمشغولات اليدوية وبأساليب فنية لم تعد متداولة، والأحجار الكريمة، والسبح (المسابح) الغالية، والزجاجيات المصنوعة منذ أكثر من قرن، وأجهزة راديو بدائية، وغرامافون يعمل يدويا، والتسجيلات الموسيقية النادرة، والعملات الورقية والمعدنية والطوابع النادرة، ومكائن الخياطة التي تذكرك بجدتك، والصحون ولوازم المطبخ القديمة، والمسامير، وبقايا أجهزة كهربائية.. وكل الأدوات المستعملة والأشياء القديمة جدًا والتي تكون ذات قيمة تاريخية أثرية، وقد تجد هناك فيها كل نادر وغريب وما لا تجده في غيرها من الأسواق. وفيها كثير من التحف الفنية الراقية ويرتادها الناس لانخفاض أسعار بضائعها.
والهرج مفردة تركية تعني الصخب واللاتنظيم، وهذا ما ينطبق على أسلوب عرض وبيع وحركة الناس فيها. وتعتبر من معالم مدينة بغداد. وتقع قرب ساحة الميدان وسط جانب الرصافة من العاصمة العراقية ويحيط بها القصر العباسي والقشلة التي كانت مركز الحكم العثماني ومعسكر جنودهم قبل أن تتحول إلى مركز الحكومة العراقية، حيث تم هناك تتويج الملك فيصل الأول، وتضم حدائقها أقدم ساعات بغداد (ساعة القشلة) التي وضعت في العهد العثماني. وكان في مكان هذه السوق مسجد تاريخي يعرف بجامع القبلانية، أندرس أثره ولم يبق من الجامع سوى الحجرة المطلة على سوق (المغازجية) والتي تضم رفاتين من علماء بغداد هما: الإمام أحمد القدوري المتوفى عام 428ه، صاحب كتاب (نور الإيضاح)، وهو كتاب في الفقه الحنفي، والإمام محمد الوتري صاحب القصائد الوترية.
وتوجد أسواق تسمى بالاسم نفسه وتشبه سوق هرج في بغداد من حيث الوظيفة في كثير من مدن العراق، حيث يوجد في الموصل سوق شعبية على الشاكلة نفسها.
ويرجع تاريخ بناء سوق هرج ببغداد إلى عهد الدولة العثمانية، حيث شق الوالي العثماني ناظم باشا شارعًا سمي باسم شارع (خليل باشا جادة سي) على اسم خليل باشا حاكم بغداد عام 1910 ثم سمي باسم شارع الرشيد، وسميت السوق باسم سوق الميدان وهي التسمية العربية القديمة لها، وأقدم من التسمية التركية (سوق هرج).
زيارة السوق يجب أن تتم منذ الصباح الباكر ليوم الجمعة من جهة ساحة الميدان، حيث يكون الباعة والمشترون قد بدأوا نشاطهم، ثمة خان ينعطف يمينا لنجد أنفسنا وسط متحف مفتوح لكل ما هو تراثي وقديم من الأثاث الخشبي النادر والزجاجيات الملونة والتحف الفنية الفريدة والتي لا توجد نسخة ثانية لها، وعلينا ألا نتخيل أن الأسعار في هذا الخان أو في المحلات المماثلة في سوق هرج متواضعة، بل هي مرتفعة كون أصحاب هذه المحلات من التجار الأصليين للسوق وتوارثوا المهنة من آبائهم وأجدادهم ويعرفون قيمة ما يعرضوه، كما يعرفون أن الزبون الذي يدخل محلاتهم ويسأل عن البضاعة وسعرها إنما جاء مهتما لشراء هذه الخزانة القديمة أو الصندوق الخشبي الأسود المطعم بالمسامير النحاسية، وما أن يتأكدوا من النيات المخلصة للزبون وبأنه ليس هنا ليعبث بوقتهم أو لأغراض التفرج فقط حتى تبدأ أساليب غوايته بعرض بعض النوادر المخبأة في صناديقهم وكأنهم حواة يخرجون من الصناديق السحرية مقتنيات مدهشة. عليك أن تكون مساوما ذكيا في الأسعار التي يعرضها التاجر ولا تتحرج من أن تقيم البضاعة بنصف السعر المعروض عليك حتى تتفق مع البائع على سعر معقول هو أقل بكثير مما عرض عليك بداية الأمر، مع أن هناك حاجات لا يمكن التفاوض حول سعرها مثل المشغولات والتحف الفضية القديمة والأحجار الكريمة المعروفة.
يوضح أحمد الكرخي، صاحب محل أنتيكات في سوق الهرج قائلا: لـ«الشرق الأوسط» إن «أغلى المعروضات والتي لا يمكن المساومة على أسعارها إلا ضمن نطاق ضيق للغاية هي المشغولات العبرية التي باعتها العوائل اليهودية العراقية بأسعار بسيطة عندما أجبرتهم الحكومة في الخمسينات على ترك العراق إلى إسرائيل»، مشيرا إلى أن «هذه الحاجات صارت نادرة اليوم واليهود في مختلف أنحاء العالم، خاصة يهود العراق، يدفعون أثمانا باهظة من أجل استردادها، ونحن نبحث عن هذه التحف بجهد جهيد وندفع أيضا مبالغ ضخمة وحسب تاريخ وقيمة المعروض». ويذكر بأنه « تم عرض سيف نصله من الذهب الأصلي والسيف من الفضة الخالصة كتب عليه باللغة العبرية ويعود تاريخ صناعته إلى ما يقرب من قرنين وكان سعره أكثر من 300 ألف دولار أميركي ولم أستطع دفع هذا المبلغ، وعند متابعتي لمصيره عرفت أنه تم تهريبه إلى عمان وهناك باعه أفغاني معروف صاحب محل أنتيكات ليهودي عراقي من إسرائيل بمبلغ 750 ألف دولار».
ويتحدث إبراهيم الشيخلي، صاحب محل لبيع الأثاث الخشبي النادر المشغول يدويا في سوق هرج عن «صعوبات الحصول على هذه القطع الفنية الفريدة والتي أصبحت نادرة بالفعل»، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: نحن نشتري هذه القطع من بعض البيوتات البغدادية التي لا تزال تحتفظ بها وارثين إياها عن أجدادهم، وهؤلاء يعرفون قيمة ما يملكون، لهذا نذهب إلى البيوتات ونعاين البضاعة التي نستطيع أن نعرف أصالتها وتاريخ صناعتها ومصدرها والأسطى الذي صنعها من أول نظرة ثم نبدأ نتفاوض على الأسعار، موضحا بأن «الحصار الذي فرض على العراق في أوائل التسعينات وحتى 2003 ولسوء الأوضاع الاقتصادية دفع ذلك كثيرا من العوائل لبيع أثاثهم النادر، كما أن هناك بعض العوائل الشابة تريد أن تجدد أثاثهم واستبدال هذه الأنتيكات بأثاث حديث فتؤول قطعهم الخشبية الفنية إلينا، واليوم عندما بدأت موجة الهجرة إلى الخارج انتعشت تجارتنا».
من ذكريات سوق هرج أن المطربة أم كلثوم كانت قد غنت فيها عام 1935، عندما قدمت إلى بغداد، حيث كانت هناك مسارح ومقاه قديمة مثل مقهى البلدية المشهور والذي اندثر قبل أكثر من عشرين عاما، وتحوي السوق أزقة فيها دور للمطابع الغربية وبيوت للخشب في محلة الحيدرخانة، ومع امتداد سوق السراي، وتبدأ معالم السوق من جامع الحيدرخانة في شارع الرشيد من جهتهِ الشمالية، حيث المقاهي البغدادية التاريخية القديمة مثل مقهى الزهاوي ومقهى حسن عجمي وسوق السراي المتخصصة في بيع الكتب، حتى مطابع الصحف والجرائد العراقية القديمة كصحيفة الأحرار والبلاد وحبزبوز والزمان وغيرها.
بعد الاحتلال الأميركي للعراق في 2003 تعرضت السوق لعدة تخريبات وهجمات منوعة ولكنها صمد وما زال لها روادها، وبقيت هذه السوق في منطقة الميدان تبيع التحف الثمينة، إضافة إلى الأنتيكات النادرة.
عندما تركنا السوق باتجاه شارع المتنبي مرورا بالقشلة العثمانية والسراي الحكومي والأبنية التراثية القريبة من السوق والتي تعرضت للتخريب دون أن تلتفت إليها يد الصيانة والعمران، شعرنا بأننا خرجنا توا من مغارة (علي بابا) المزدهرة بالكنوز النفيسة.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».