(يوميات الفوضى في ليبيا 4 من 5): «داعش ليبيا» يشتري «مرسى بحريًا» قرب حدود تونس ويخزن ترسانة أسلحة في طرابلس

أسس غرفة عمليات في «عين زارة» لتنفيذ عمليات في دول الجوار واستقبل قيادات أفغانية وباكستانية وموريتانية

(يوميات الفوضى في ليبيا 4 من 5): «داعش ليبيا» يشتري «مرسى بحريًا» قرب حدود تونس ويخزن ترسانة أسلحة في طرابلس
TT

(يوميات الفوضى في ليبيا 4 من 5): «داعش ليبيا» يشتري «مرسى بحريًا» قرب حدود تونس ويخزن ترسانة أسلحة في طرابلس

(يوميات الفوضى في ليبيا 4 من 5): «داعش ليبيا» يشتري «مرسى بحريًا» قرب حدود تونس ويخزن ترسانة أسلحة في طرابلس

كان اليوم كله ينذر بأن الأمور ربما لن تكون على ما يرام. تحت السحب السوداء الكثيفة في العاصمة الليبية طرابلس، خرجت سيارة زرقاء اللون. وعند جامع عُقبة أطلق منها مسلحون وابلا من الرصاص على سيارة «دبل كابينة» تابعة للمجلس العسكري المعروف باسم «أبو سليم». إنه واحد من عشرات التجمعات التي تديرها ميليشيات في العاصمة الملغمة بقادة التطرف. هذه هي الأيام الأخيرة من شهر يناير (كانون الثاني)، حيث يتخوف العالم من مصير هذه الدولة التي تحولت سريعا إلى وجهة للتنظيمات المتشددة القادمة من أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا.
كان في سيارة الدورية عدد من أعضاء ميليشيا «أبو سليم»، منهم جلال زميط، وسامي المسلاتي، وخالد المحجوب. وأصيب هذا الأخير برصاصة في كتفه، بينما تمكنت السيارة من الهرب. كانت سرعتها مثل سرعة طائرة، وانطلقت في اتجاه منطقة الهضبة التي يقع فيها سجن كبير يضم العشرات من المساجين الذين كانوا حتى صيف عام 2011 من القيادات التي تدير نظام الحكم بقيادة معمر القذافي.
وفي اليوم الثاني، وفي الجانب الآخر من طرابلس، وصل قيادي أفغاني من القيادات القديمة في تنظيم القاعدة، ويدعى علام الدين زاهر الإسلام، قادما من سوريا. وبدأ يتواصل مع باقي عناصر المتطرفين لكي يبدأ العمل انطلاقا من مقرات تابعة لكل من الجماعة الليبية المقاتلة (تابعة للقاعدة) وأخرى تخص تنظيم داعش في ما يسمى «ولاية طرابلس». كان علام موجودا في ليبيا من قبل، ولديه خبرة مسبقة في العمل مع «ثوار 17 فبراير» ضد قوات القذافي. وهو معروف لدى الكثير من الجماعات المتشددة في عموم البلاد. لقد استمر في العمل في ليبيا أعوام 2011 و2012 وسافر في 2013 للقتال في سوريا، والآن عاد إلى ليبيا، ويتخذ من بلدة صبراتة في غرب طرابلس مقرا له، ويتردد أيضًا على العاصمة.
المشكلة أن الميليشيات، وهي تحاول أن تخلق جبهة موحدة للعمل ضد السلطات الشرعية في البلاد، ولمواجهة أي احتمال لتدخل دولي في ليبيا، يوجد بينها تنافس على النفوذ وعلى القيادة، يؤدي بين وقت وآخر إلى صدام بين عناصر مسلحة من هنا ومن هناك، ويؤدي أيضًا إلى عمليات انتقامية كما حدث من المجهولين الذين كانوا في السيارة الزرقاء.
لقد تحدث قادة غربيون خاصة من الولايات المتحدة الأميركية خلال الأيام القليلة الماضية عن تنامي خطر المتطرفين في ليبيا خاصة تنظيم داعش، وتحدثوا أيضًا عن وصول مقاتلين وقادة من هذا النوع من الجنوب. واطلعت «الشرق الأوسط» على معلومات تفصيلية عن بعض من الوجوه الجديدة التي عبرت بالفعل من الجنوب حتى وصل بعضها أخيرا إلى طرابلس. ومن بين هؤلاء قيادي آخر في تنظيم القاعدة وهو باكستاني الجنسية ويدعى عامر الحق نصير. ودخل عامر الحق من صحراء جنوب غرب ليبيا، أي عبر الحدود مع الجزائر.
لم تكن رحلة دخوله والمجموعة التي معه سهلة. ومن المعروف أن دول الجوار الليبي مثل الجزائر ومصر وتونس، والبلدان الأفريقية الأخرى، تتخذ إجراءات مشددة لمنع عبور المتطرفين والأسلحة. ويقول الباكستاني عامر الحق، وهو جالس بين مستقبليه من المتطرفين في طرابلس، ويروي تفاصيل رحلته، إن الجزائريين هاجموا القافلة التي كان قادما على رأسها. وهو لم يذكر في تلك الجلسة كيف دخل هو ومن معه من باكستانيين إلى الجزائر. لكنه يواصل موضحا أنه قبل أن يجتاز الحدود بسيارات الدفع الرباعي، إلى داخل ليبيا، أطلق الجزائريون النار عليهم، وردوا عليهم بالمثل، في اشتباك على الحدود استمر لعدة ساعات، فسقط عدد ممن كانوا معه، وجرى دفنهم بعد ذلك في الرمال الليبية.
وتوعد عامر الحق، بتنفيذ عمليات ضد السلطات الأمنية الجزائرية بعد أن يلتقط أنفاسه في ليبيا للانتقام لمن قُتلوا من مجموعته، قائلا: «قُتل لنا أخوة نحسبهم (شهداء) في الجنوب، والآن صار الثأر عندنا بحجم الرمال التي دفنوا فيها. سنعود ونقتص».
وعلى كل حال يمكن أن تقول إن ليبيا لم يعد يوجد فيها فروق تذكر بين المسميات التي يحملها قادة المتطرفين. فالرجل الباكستاني عامر الحق، ورغم أنه من تنظيم القاعدة، فإن له قنوات اتصال مع قيادي باكستاني أيضًا، لكنه من «داعش» اسمه معاوية ذاكر الله، ووصل هو الآخر إلى ليبيا أخيرًا.
لا بد من الإشارة إلى أن بعض القيادات الليبية المتشددة ما زال لديها حساسية من تولي هؤلاء الأجانب القيادة في بعض الضواحي. وهنا يبرز الدور الذي يقوم به زعيم داعش في غرب ليبيا، محمد المدهوني، حيث إنه يبدو عليه القدرة على توزيع الأدوار في العاصمة والأدوار العابرة للحدود، خاصة في تونس والجزائر. ومن خلال وثائق اطلعت عليها «الشرق الأوسط» ومقابلات أجرتها مع عدد ممن لهم صلة بقادة المتطرفين في ليبيا، تبين أن هناك نشاطًا أيضًا لزعماء من المتشددين الموريتانيين داخل العاصمة، ويقوم عدد منهم بتسيير دوريات أمنية في طرابلس، تحت إشراف المدهوني نفسه.
ومن بين هؤلاء الموريتانيين رجل يدعى عمارة ولد أحمد، وآخر اسمه علي ولد أحمد، وهما قياديان في داعش، ولكل منهما مجموعة تتواصل مع مجموعة الباكستاني ذاكر الله. وزار الثلاثة المدهوني في مقره في منطقة عين زارة. وأعطى زعيم داعش لـ«علي ولد أحمد» مسؤولية الإشراف على دوريات في عدة شوارع تقع في القسم الغربي من العاصمة. وأصابت مثل هذه التحركات بعض قادة الصف الثاني من المتطرفين الليبيين بالاستفزاز، رغم أن عمليات نقل الأسلحة والبيع والشراء وتنسيق العمليات ضد الجيش الوطني الليبي، وضد حكومات دول الجوار، تسير بين القادة الكبار على قدم وساق.
في مثل هذه الأجواء التي تشبه حالة الحرب يخيم الخوف والذعر على سكان العاصمة، بينما يطلب بعض السياسيين سواء من المقيمين في الخارج أو في المدن الهادئة في الداخل، من سكان طرابلس الثورة ضد الميليشيات المتطرفة في العاصمة. بيد أن الواقع يقول عكس ذلك.. لا يمكن أن تمر من زقاق أو شارع دون أن ترى سيارتين أو ثلاثة تحمل ملثمين مدججين بالأسلحة، ولديهم القدرة على القتل بلا حساب. يقول أحد وجهاء العائلات في جنوب المدينة إن العالم الخارجي، سواء من الليبيين أو الأجانب، ليس لديهم تصور حقيقي عن الأزمة التي تعيشها طرابلس. دعك من نقص الخدمات وانقطاع الكهرباء ونقص مياه الشرب. المشكلة في الحفاظ على نفسك وعلى أهل بيتك من خطر الميليشيات.
في الليل، وبينما تسمع تكتكة الرصاص عبر الشوارع، كانت السماء مظلمة وسيارات الدفع الرباعي تمرق عبر الميادين. وصافرات الإسعاف تدوي من بعيد ثم تنطلق كالريح. يبدو أنه توجد حالة من الغضب بين أحد القيادات الليبية الكبيرة مع قائد من قادة الصف الثاني. هذا يحدث عادة. وهذا يعني «حالة طوارئ مصغرة»؛ ولا حركة. ماذا حدث؟ لقد تصرف مسؤول في كتيبة الأبرار، يدعى خثالة، وتابع لجماعة أنصار الشريعة، دون تنسيق مع المستوى الأعلى منه، وهو رجل يلقب باسم «الشريف»، في الجماعة الليبية المقاتلة.
الشريف كان غاضبًا. قال له: «ما هذا اللعب الذي تقومون به؟ ألم نتفاهم على أن كل عملياتنا يجب أن نتشاور فيها. كيف هذا؟ ماذا تفعلون؟ ويبدو أن العملية المختلف عليها كانت تخص تمرير مجموعة من المتطرفين إلى الحدود لكي يدخلوا إلى الجزائر».
حاول خثالة في خضم الجدل أن يدافع عن نفسه، وقال إن عملية التحرك قامت بها جماعة تابعة لقيادي جزائري يعمل بالقرب من طرابلس اسمه بوجرة. جماعة بوجرة كانت متمركزة قرب منطقة تاورغاء الواقعة إلى الشرق قليلا من العاصمة الليبية. وتقول مصادر المتطرفين إن القيادات الكبيرة في الجماعة المقاتلة أصبحت مضطرة للتنسيق في مسألة العمليات الداخلية والخارجية مع جماعة الإخوان وداعش، وأن تحرك مجموعة بوجرة من تاورغاء دون تنسيق أعطى مؤشرات بأن البعض من الكبار في الجماعة المقاتلة، ربما كانوا يعملون في الخفاء ضد خطط الإخوان وداعش.. «وهذا غير مسموح به لأن الجميع يقف فوق صفيح ساخن»، وفقا لأحد هذه المصادر.
تحرُّك المتطرفين إلى الجزائر يبدو أنه أصبح انطلاقا من مدينة غدامس المجاورة للحدود بين البلدين. طلب الشريف من خثالة أن يأمر مجموعة الجزائري بالتوجه إلى مقره في طرابلس فورا، وهو مقر موجود قرب منطقة الهضبة، وفي المقابل، أمر أيضًا بأن تتحرك مجموعات أخرى من المتطرفين إلى بلدة غدامس، هما «مجموعة العوامي»، و«مجموعة البرعصي». ويظهر من الكلام بين الرجلين أن المطلوب في هذا التوقيت تجهيز عمليات لوجستية للمتطرفين في غدامس، قبل التحرك إلى داخل الجزائر. وتقرر أن يشرف على استقبال مجموعتي «العوامي»، و«البرعصي» قيادي يدعى «العوضي»، في غدامس.
يظل أخطر مقر في الوقت الراهن للمتطرفين في ليبيا هو مقر المدهوني زعيم داعش، والذي أصبح يلقبه الكثير من القيادات الكبيرة في باقي التنظيمات باسم الشيخ. هذا الرجل يتميز بإمكانيات مالية غير محدودة، وهو لا يتردد في شراء أي صفقة أسلحة بأي مبلغ يطلب منه. ولا يفاصل ولا يطلب إنقاص السعر. وآخر صفقة عقدها كانت تضم صواريخ حرارية لديها القدرة على تحويل الدبابة إلى رماد. كما تبين أنه اشترى مرسى بحريًا في مدينة الزاوية الليبية الواقعة على بعد نحو مائة كيلومتر من الحدود مع تونس. وحين جاء القادة من الأفغان والباكستانيين والموريتانيين والجزائريين إلى طرابلس، ذهبوا إلى مقره مباشرة.
مقر المدهوني الواقع في معسكر في منطقة عين زارة، يضم غرفة خاصة لإدارة عمليات إرهابية في تونس وأخرى خاصة بالجزائر. ووفقا لمحاضر تحقيقات أمنية اطلعت عليها «الشرق الأوسط»، فقد جرى التخطيط لتجنيد دواعش في جبل الشعانبي في تونس لتنفيذ تفجيرات في هذه الدولة. وسبق أن شهدت تونس عمليات دامية على يد التنظيم المتطرف نفسه. ومن بين من جرى التنسيق معهم في غرفة عمليات عين زارة، من التونسيين، اثنان الأول يدعى زياد، والثاني جميل.
كما جرت «مباحثات» أخرى في غرفة العمليات الخاصة بتونس، بين المدهوني وتونسي يدعى أبو جريد، وهو قيادي في داعش تونس. وجرى تكليفه بتنفيذ أعمال تخريبية في شارع الحبيب بورقيبة، وفي وسط ميادين العاصمة وفي المدن المهمة.. و«في سوسة والمانستير وصفاقص». وقال له بالنص وفقا لما ورد في تحقيقات تقوم بها أجهزة أمنية مختصة بنشاط المتطرفين في شمال أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط: «لا تبقِ صيدا سهلا في مناطق ضيقة.. اضربوا مصالح الأمن.. فرغوا الشوارع كما تريد الحكومة، فرغوها حتى يسهل اقتناص الأمن، ويسهل الاشتباك.. الحكومة تعلن فرض حظر تجوال، وهذا سيزيد حنق المواطنين عليها».
ومثلما تظهر الخلافات بين قيادات الصفوف الأدنى في التنظيمات المتطرفة في داخل ليبيا، ظهرت أيضًا في تونس التي يبدو من خلال التحقيقات أن أطرافا في حركة النهضة التابعة لجماعة الإخوان، تقوم هي الأخرى بالتعاون مع دواعش تونس.
وقال المدهوني للداعشي التونسي أبو جريد بحسب نص التحقيقات إنه «يوجد خلاف حاد الآن بين إخوان تونس وقصر قرطاج (يقصد السلطات التونسية).. وسوف تنهار حالة التماسك بينهما، وهي منهارة أصلا. جندوا قيادات في الجيش وفي الأمن، كما تفعل حركة النهضة، ولا تثقوا فيها». وفي المقابل اشتكى أبو جريد من «مشكلات تموين وصرف». فأجابه المدهوني: «سيصلك ما تريد بعد أن نرى عمليات نوعية.. أرسلت لكم مليوني دولار، وسلاح، وأخوة من عندي، وهذا يكفي لإثبات أن المحال لكم يستعمل فيما نريده.. تحركوا بكل نظام وبشكل سريع، واهتموا، بالإضافة للمدن التي ذكرتها لك، بالقرى الفقيرة في الجنوب.. نريد شغلا مميزا لسرعة إحداث خلخلة وانهيار كامل قبل أي تدخل فرنسي».
يبدو من القراءة الأولى لنتيجة الجولة التي قامت بها «الشرق الأوسط» أن قيادات داعش تستحوذ على التنسيق على الجبهة التونسية، وقيادات الجماعة الليبية المقاتلة مختصة بتهيئة الجبهة الجزائرية، والقيادات الإخوانية بالجبهة المصرية، لكن كل هؤلاء يعملون بشكل يبدو أنه يزداد تناغما يوميا بعد يوم، رغم الشكوك والضغوط الدولية.
وبينما يظهر أنه توجد صعوبة في إحداث اختراق كبير على الجبهتين المصرية والجزائرية، يبدو أن نشاط المتطرفين في تونس أكبر وأسهل، لعدة أسباب من بينها وجود أعداد كبيرة من التونسيين في ليبيا، وسهولة العبور بين حدود البلدين. توجد أيضًا جماعة متطرفة في تونس جرى ذكرها على لسان أبو جريد أثناء حديثه مع المدهوني، تسمى «جماعة الجيلاني»، لها صلات بداعش ليبيا.
من محطات سوء التفاهم بين داعش تونس وغرفة عمليات المتطرفين في عين زارة، رفض الدوعش التونسيين دخول جماعة الجيلاني إلى العاصمة التونسية، بأوامر من أبو جريد. وهذا أغضب قيادات داعش ليبيا. وقدم أبو جريد الأسباب على أساس أنه يخشى من اعتقال عناصر من مجموعة الجيلاني، وقال وفقا للتحقيقات: «السبب في المنع أن عوان الأمن (الشرطة) منتشرون في العاصمة بشكل كثيف، ويغلقون الطرق، وأن الشعب عامل لجان أمنية ويتعاون مع عوان الأمن، كما أن جماعة النهضة طلبوا تأخير ذلك، لأن الأمور صعبة».
أما المرسى البحري الذي لديه القدرة على استقبال المراكب الصغيرة وأصبح تحت يد داعش في مدينة الزاوية، فقد كان يديره في السابق رجل يكني بأبو عبيدة، وهو من قادة ميليشيات المتطرفين في ليبيا، وكان يشغل منصب رئيس غرفة عمليات الثوار في البلاد. ويحمل المرسى البحري اسم «مرسى جرف الزاوية»، واستقبل في الأيام القليلة الماضية جرافات (مراكب) محملة بالأسلحة. كما استقبل مقاتلين قادمين من تونس. وأثار هذا الأمر حفيظة عدد من القيادات الصغيرة في الجماعة الليبية المقاتلة بسبب انتشار العناصر التونسية في مدينة الزاوية. ويقول أحد المصادر القريبة من أنشطة المتطرفين هنا، إن المرسى يستخدم أيضًا في نقل العناصر وإعادتهم إلى تونس بعد تدريبهم.
ومن قيادات المتطرفين الجزائريين ممن وصلوا إلى ليبيا، رجل يلقبونه هنا بـ«عصيد»، وآخر يسمونه رشوان، ومعروف في تنظيم «جند المقدس». ومن الأسماء الجزائرية التي ظهرت في غرفة عمليات داعش في معسكر عين زارة، رجل يدعى عزيز، وآخر اسمه جلول، وثالث يلقب بالمشغول، ورابع يعرف باسم عبد المهيمن.
ووفقا للمصادر فإن المدهوني يعد هؤلاء من أجل العودة مع آخرين إلى الجزائر عن طريق بلدة غدامس.. وفي آخر حديث بينهما، بحسب نص التحقيقات، قال زعيم داعش الليبي للجزائري عبد المهمين: «اتصل بي أخونا هاني حسن (غير معروف من هو، لكنه يبدو من قيادات المتطرفين الذين يعملون على الجبهة الجزائرية).. يريدكم الالتحاق به غدا صباحا. طلب مني الإذن، وأنا وافقت، فالإخوة هناك (أي في الجزائر) وضعهم ضنك ويحتاجون لنا. غادر الفجر إلى غدامس ومنها لن تغلب في الدخول للجزائر أنت خبير في ذلك».
وبمرور الأيام يبدو التناغم في التنسيق المباشر موجود ما بين الجماعة الليبية المقاتلة والتابعين لها، وبين تنظيم داعش، رغم أن قيادات من جماعة الإخوان، تحاول أن تكون في الصورة، رغم أن الكثير من تصرفاتها غير مطمئنة للتنظيمات الأخرى. فالمدهوني على سبيل المثال قال لدواعش تونس صراحة أنه لا ينبغي الالتفات إلى التنسيق معهم. وحذر منهم. بينما في ليبيا توجد للجماعة علاقات قوية خاصة في مسألة التعاون في تمرير صفقات الأسلحة والمقاتلين، لصالحها ولصالح الآخرين، سواء داخليا أو خارجيا.
رجل محسوب على الجماعة المقاتلة يدعى عبد الغني، وهو قيادي في المجلس العسكري لأبو سليم، يرتبط بعلاقة جيدة مع قادة الإخوان الذين يتركز غالبيتهم في بنغازي في الوقت الراهن. وحين تعرضت الدورية التابعة له في طرابلس لإطلاق النار من السيارة الزرقاء، حامت الشبهات حول تعاون إخواني مع عناصر أميركية يقول المتطرفون أنها عناصر موجودة في طرابلس.
ومع ذلك أصبح عبد الغني يرتبط بعلاقة وثيقة مع المدهوني. وتعاون معه في جلب شحنة أسلحة كانت متجهة من مدينة الزاوية إلى مدينة مصراتة، تتكون من ألغام مضادة للمشاة وقواذف، و18 من الصواريخ الحرارية فرنسية الصنع. كان السمسار، ويدعى «الشوشي» يريد أن يبيع الشحنة لمصراتة بستة ملايين دولار، لكن داعش زاد نصف مليون للحصول على الصفقة عن طريق عبد الغني. وتبلغ قيمة الصواريخ وحدها خمسة ملايين دولار. وجرى نقل الشحنة إلى معسكر عين زارة.
رغم كل شيء، ومع تبادل صفقات السلاح وصفقات المقاتلين، والترتيبات الخطرة، فإن الشكوك في الشارع الميليشياوي الليبي لا تتوقف. وكلما خرجت تقارير من الغرب ضد استمرار حالة الفوضى التي يثيرها المتطرفون في ليبيا، كلما زاد حراك العناصر على الأرض وارتفع صوت إطلاق الرصاص من زوايا الشوارع، وبين يوم وآخر تتقاطع مواقع النفوذ ويشتبك مسلحون من هنا ومن هناك. ويأتي الرد بعد ساعات من خلال عمليات انتقامية مباغتة. وفي الليل، في الجانب الشرقي من العاصمة، وصل أحد قيادات الجماعة الليبية المقاتلة إلى مقر إقامة مسؤول كبير في المؤتمر الوطني، وأبلغه أن يأخذ حذره من جماعة الإخوان.
وقال له إن بعض قيادات الإخوان وهم ينسقون مع الجماعة المقاتلة، يسعون، في الوقت نفسه، لإحياء قنوات التواصل مع الجانب الأميركي تحسبا لما سيأتي في المستقبل.. «الإخوان يريدون حمل تركة طرابلس في حال حدث تدخل أميركي فيها، وهم يخفون عنا ذلك». نفس التحذيرات أبلغها قيادي آخر في الجماعة المقاتلة، لمسؤول المؤتمر الوطني نفسه. قال له إن الإخوان لديهم أيضًا اتصالات مع الإيطاليين. وبعد عملية السيارة الزرقاء نصحه أن يغادر مكتبه ويبقى بين أهله.
وحين جاء الصباح، بدأت نفس القيادات في ترتيب عملية إرسال ثلاثة زوارق محملة بالأسلحة إلى القوات المعارضة لقائد الجيش الوطني الليبي الفريق أول خليفة حفتر. شارك في هذه الترتيبات اثنان من الإخوان أحدهما زعيم للجماعة في بنغازي والثاني يترأس ذراعا سياسية للجماعة في طرابلس. كما شارك في التوجيه بإتمام العملية قيادي في الجماعة الليبية المقاتلة، ورجل غير معروف يلقبونه بـ«الكوافي»، بالإضافة إلى أحد أصحاب الزوارق متخصص في «الهجرة غير الشرعية»، في منطقة قرقارش في طرابلس، اسمه «تيبار». ورغم ما أبداه تيبار من مخاوف من قصفه من الطيران الليبي أو من الطيران الفرنسي، إلا أنه رضخ للأمر.
مع المساء جاء اتصال من المشفى الذي يعالج فيه المحجوب. لقد نزف الكثير من الدم من إصابته في حادث إطلاق النار من السيارة الزرقاء. والمشكلة أنه لم يعد يوجد دم في أي من مستشفيات العاصمة. وجاء الرد من أحد قيادات الميليشيا، قائلا: «ابعث طبيب للسجن ليبحث بين الموقوفين عن فصيلة الدم المطلوبة، ولا يهمك».
يوميات الفوضى في ليبيا (5 من 5): «الشرق الأوسط» ترصد مواقع تخزين «غاز السارين» لدى ميليشيات ليبيا
(يوميات الفوضى في ليبيا 3 من 5): تفاصيل خلافات المال والسلاح بين قادة ميليشيات طرابلس
(يوميات الفوضى في ليبيا 2 من 5): ضواحي بنغازي ملاذ الدواعش بعد هروبهم من ضربات الجيش والصحوات
يوميات الفوضى في ليبيا (1 من 5): «أشباح إجدابيا» يثيرون الفزع في منطقة الهلال النفطي



السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
TT

السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)

لا يُعدّ دوي المدافع ولا انفجارات القذائف أو البراميل الناسفة القادمة، أو حتى الرصاصات العمياء، شيئاً جديداً في السودان، الجديد أنه انتقل من «الهوامش» إلى العاصمة الخرطوم، فاضطرت الحكومة وقيادة الجيش للانتقال إلى عاصمة بديلة تبعد نحو ألف كيلومتر على ساحل البحر الأحمر عند بورتسودان.

كان يُنظر للحروب السابقة على أنها تمرد ضد الدولة، لكن أسبابها تكمن في الصراع بين «المركز» الذي يحتكر كل شيء، و«الهامش» الذي لا يحصل على شيء، وأنها «حرب مطالب وحقوق».

لكن الحرب، خلال حكم الإسلاميين بقيادة الرئيس السابق عمر البشير البلاد، تحولت من حرب مطلبية إلى «حرب دينية» بين الشمال «المسلم»، والجنوب «المسيحي» أو «اللاديني»، وانتهت بـ«فصل جنوب السودان»، وإعلان ميلاد دولة جديدة انضمت للأمم المتحدة، فمن أين تأتي الحروب والعواصف لتدمر السودان؟

يرجع المحللون جذور الحروب السودانية إلى الافتقار لـ«مشروع وطني»، وإلى عدم الاعتراف بالتنوع الإثني والثقافي الناتج عن عدم وجود منظومة سياسية ثقافية اقتصادية موحدة تعترف بهذا التنوع.

ورغم أن الحرب الحالية هي حرب بين جيشين «نظاميين»، لكن جذورها تتصل «بمتلازمة التهميش وعدم الاعتراف بالتنوع»، التي أدت للتمرد الأول قبيل إعلان الاستقلال 1955 بقيادة قوات «أنانيا 1»؛ وهي تسمية محلية لثعبان الكوبرا.

الرئيس السوداني المعزول عمر البشير ملوحاً بعصاه إثناء إلقائه خطاباً في نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور في سبتمبر 2017 (أ.ف.ب)

اتفاق «نيفاشا»

انطفأت الحرب الأولى باتفاق أديس أبابا 1972، لكنها اشتعلت مرة أخرى في عام 1983، تحت راية «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، بقيادة الزعيم الجنوب سوداني الراحل جونق قرنق دمبيور، على أثر إعلان الرئيس الأسبق جعفر النميري «أحكام الشريعة الإسلامية».

وانتقلت من كونها ضد متمردين إلى حرب «جهادية»، جيش الإسلاميين المقاتلين على أساس ديني، ورفعوا رايات الجهاد ضد مَن وُصفوا بـ«أعداء الدين»، فاستمرت الحرب سنوات، وراح ضحيتها أكثر من مليونيْ مواطن.

لم يحقق الجيش ومؤيدوه «المجاهدون» انتصاراً حاسماً، فاضطروا إلى الرضوخ للضغوط الدولية، ووقَّعوا اتفاق سلام في ضاحية نيفاشا الكينية؛ «اتفاق السلام الشامل أو اتفاق نيفاشا».

قضى «نيفاشا» بمنح جنوب السودان «حق تقرير المصير»، وخيّره بين البقاء في السودان الموحد أو الانفصال، وحدد فترة انتقالية قدرها خمس سنوات.

خلال الفترة الانتقالية، شغل زعيم الحركة الشعبية الراحل جونق قرنق دمبيور منصب النائب الأول للرئيس لأيام قلائل، قبل أن يلقى مصرعه في حادثة تفجر المروحية الرئاسية الأوغندية الغامض، ليخلفه نائبه رئيس جنوب السودان الحالي سلفاكير ميارديت.

استفتي شعب جنوب السودان 2010 على الوحدة أو الانفصال، وجاءت النتيجة لصالح الانفصال، فولدت من رحِم الحروب جمهورية جنوب السودان، وخسر السودان ثلث مساحته الجغرافية، وربع عدد سكانه، و75 في المائة من ثرواته وموارده.

انتقلت النيران إلى إقليم دارفور غرب البلاد، وتمردت مجموعات جديدة تحت مزاعم التهميش والاضطهاد باسم «حركة تحرير السودان» في عام 2003.

وأخذت طابعاً «عِرقياً»، بعدما استعانت الحكومة في حربها ضد الحركات المتمردة ذات الأصول الأفريقية، بمجموعات قبلية عُرفت وقتها بمجموعة «الجنجويد» ذات الأصول العربية، ومِن قادتها، للمفارقة، محمد حمدان دقلو «حميدتي»، الذي أصبح قائد ما يُعرف بقوات «الدعم السريع».

راح ضحية حرب دارفور نحو 300 ألف، واتهمت الحكومة، برئاسة عمر البشير، بجرائم تطهير عِرقي وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، أصدرت بموجبها المحكمة الجنائية الدولية مذكرات قبض ضد الرئيس السابق عمر البشير، و3 من معاونيه الكبار وهم في الحكم، لا تزال سارية.

مقاتلون من «حركة تحرير السودان» في دارفور في مارس 2024 (أ.ف.ب)

تبضع بين العواصم

في مايو (أيار) 2006، وقّعت الحكومة الإسلامية اتفاق سلام في مدينة أبوجا مع «حركة تحرير السودان»، لكن الحركة انشقت إلى حركتين، يقود التي وقَّعت اتفاق أبوجا حاكم إقليم دارفور الحالي مني أركو مناوي.

رفض تيار عبد الواحد محمد النور الاتفاق، واعتصم بجبل مرة في وسط دارفور، وواصل الحرب ولا يزال، بينما حصل مناوي على منصب مساعد الرئيس عمر البشير، ثم عاد للتمرد زاعماً أنه كان مجرد «مساعد حلّة»، وليس مساعد رئيس، ومساعد الحلة هو معاون سائقي الشاحنات الذي يُعِدّ الطعام للسائق.

تنقلت المفاوضات مع الحركات الدارفورية المتشظية بين عدة عواصم، ففي يوليو (تموز) 2011 وقَّعت مع بعضها في قطر «وثيقة سلام الدوحة»، ونصت على تقاسم الثروة والسلطة، لكن الحرب لم تتوقف.

ثم وقَّعت حركات مسلَّحة مع الحكومة الانتقالية، في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 اتفاق سلام السودان في جوبا، أبرزها «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي، و«حركة العدل والمساواة» بقيادة جبريل إبراهيم، ونصَّ الاتفاق على تقاسم السلطة والثروة، وبموجبها تولَّى جبريل إبراهيم وزارة المالية، ومني أركو مناوي منصب حاكم إقليم دارفور.

جنود سودانيون من «قوات الدعم السريع» في ولاية شرق النيل بالسودان، يونيو 2019 (أ.ب)

الجنوب الجديد

كأنما لا بد من جنوب ليحاربه الشمال، اشتعلت حرب في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، وهما منطقتان منحهما اتفاق نيفاشا حق المشورة الشعبية، للبقاء في السودان أو الانضمام للجنوب، وعادت إلى الحرب «الحركة الشعبية لتحرير السودان - الشمال».

انشقت الحركة الشعبية الشمالية، التي تُعدّ امتداداً للجنوبية، وتضم مقاتلين سودانيين انحازوا للجنوب إبان الحرب الأهلية، إلى حركتين بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة الحالي مالك عقار، الموقِّع على اتفاق سلام جوبا، بينما بقيت الأخرى، بقيادة عبد العزيز، تسيطر على منطقة كاودا بجنوب كردفان، وتَعُدّها «منطقة محرَّرة»، وتخوض معارك متفرقة ضد الجيش السوداني، ولا تزال.

لم يَسلم شرق السودان من متلازمة الحروب السودانية، فقد كان مرتعاً لحروب المعارضة المسلَّحة ضد حكم البشير في تسعينات القرن الماضي، ونشأت فيه مجموعات مسلَّحة مثل «مؤتمر البجا»، و«الأسود الحرة»، قاتلت هي الأخرى ضد المركز في الخرطوم، قبل أن تُوقِّع اتفاقاً في العاصمة الإريترية عُرف بـ«أسمرا لسلام شرق السودان»، ونال هو الآخر حصة في السلطة والثروة.

أطاح السودانيون بنظام حكم الإسلاميين، بقيادة الرئيس السابق عمر البشير في 11 أبريل (نيسان) 2019، عبر احتجاجات شعبية استمرت أشهراً عدة، وأجبروا قيادة الجيش على تنحية البشير.

ومع ذلك، تواصلت الاحتجاجات والاعتصامات، حتى قرر «المجلس العسكري الانتقالي»، برئاسة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو «حميدتي»، فض الاعتصام باستخدام القوة، ما أسفر عن مقتل المئات من المعتصمين، ما عده كثيرون من «أفظع الجرائم» بحق المدنيين.

واستمر الضغط المدني السلمي، فاضطر العسكريون لتوقيع «وثيقة دستورية» نصّت على شراكة مدنية عسكرية، في أغسطس (آب) 2019، وجرى تشكيل حكومة برئاسة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وتكوين مجلس سيادة انتقالي برئاسة البرهان، ونائبه حميدتي.

البرهان وحميدتي يحضران حفل تخريج عسكري للقوات الخاصة، في الخرطوم في 22 سبتمبر2021 (غيتي)

حرب الجنرالات

في 25 أكتوبر 2021، أطاح قائد الجيش بحكومة حمدوك المدنية، بانقلاب عسكري، واضطر تحت الضغط الشعبي السلمي مرة أخرى، لتوقيع ما عُرف بـ«الاتفاق الإطاري» مع المدنيين، ونص على «حكم مدني» يعود بموجبه الجيش إلى ثكناته، وإزالة أي فرصة لـ«تمكين نظام الإسلاميين».

لكن أنصار النظام السابق أحبطوا «الاتفاق الإطاري»، واستخدموا آليات «الدولة العميقة» في تأجيج الخلافات بين الجيش و«الدعم السريع»، فاشتعلت الحرب.

لم تفلح جهود إزالة التوتر والتحشيد العسكري، وفي صبيحة السبت، منتصف أبريل 2023، فوجئ السودانيون بالرصاص «يلعلع» في جنوب الخرطوم عند «المدينة الرياضية»، معلناً الحرب المستمرة حتى اليوم.

يتهم «الدعم السريع» الجيش بمهاجمة معسكراته على حين غِرة، ويقول إن الجيش حاصر مطار مروي شمال البلاد، وإنه كان يخطط للانقضاض على السلطة، بينما «تسود رواية أخرى» بأن «خلايا الإسلاميين» داخل الجيش هاجمت «الدعم السريع»، ووضعت قيادته أمام الأمر الواقع؛ «الاستسلام أو الحرب».

حسابات خاطئة

كان مخططاً للحرب أن تنتهي في ساعات، أو على أسوأ تقدير أيام معدودات، بحساب التفوق التسليحي للجيش على «الدعم السريع»، لكن الأخير فاجأ الجيش وخاض حرب مدن كان قد تمرَّس عليها، ففرض سيطرته على معظم الوحدات العسكرية للجيش، وأحكم الحصار على البرهان في القيادة العامة، بل سيطر على المقرات الحكومية؛ بما فيها القصر الرئاسي والوزارات.

اضطرت الحكومة للانتقال إلى بورتسودان، واتخاذها عاصمة بديلة بعد سيطرة «الدعم السريع» على الخرطوم، بينما ظل قائد الجيش محاصَراً داخل قيادته لأكثر من ثلاثة أشهر، قبل أن يفلح في الخروج منها وينتقل إلى بورتسودان ليتخذها عاصمة له.

اتسعت سيطرة قوات «الدعم السريع» لتشمل إقليم دارفور، باستثناء مدينة الفاشر، حاضرة ولاية شمال دارفور، ومعظم ولايات الغرب باستثناء بعض حواضرها، ثم استسلمت له ولاية الجزيرة بوسط البلاد، وشملت عملياته ولايات أخرى، وسيطر تقريباً على نحو 70 في المائة من البلاد.

بعد نحو عامين من القتال، استعاد الجيش زمام المبادرة، وحقق تقدماً في بعض المناطق؛ الخرطوم، وأم درمان، والخرطوم بحري، وسنار، لكن «الدعم السريع» لا يزال مسيطراً على مساحات واسعة من البلاد، ويقاتل بشراسة في عدد من محاور القتال، وما زالت الحرب سجالاً.

جنوب الخرطوم مسرحاً دموياً للمعارك بين البرهان وحميدتي (أ.ف.ب)

أسوأ كارثة إنسانية

قتلت الحرب عشرات الآلاف وخلقت «أسوأ أزمة إنسانية في التاريخ»، وفقاً للأمم المتحدة، ونزح أكثر من 11 مليون شخص داخلياً، ولجأ نحو 3 ملايين لبلدان الجوار، ويواجه نحو 25 مليون شخص أكثر من نصف سكان البلاد، البالغ عددهم 45 مليوناً، حالة من «انعدام الأمن الغذائي الحاد».

أطراف الحرب لا يزالون يرفضون العودة للتفاوض، فمنذ فشل «إعلان جدة الإنساني»، فشلت محاولات إعادة الطرفين للتفاوض؛ لتعنُّت الجيش وأنصاره.

سيناريوهات

يرجع عضو مجلس السيادة السابق، ونائب رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية «تقدم» الهادي إدريس، اندلاع الحروب في السودان إلى عدم الاتفاق على «مشروع وطني نهضوي» لحكم البلاد منذ الاستقلال.

ويقول إدريس، لـ«الشرق الأوسط»، إن الأسباب الرئيسية لحروب السودان هي الفشل في إنفاذ برامج تنمية متوازنة، وتحقيق العدالة، وسيادة ثقافة الإفلات من العقاب، وعدم حسم القضايا الاستراتيجية مثل علاقة الدين بالدولة، والهوية الوطنية، وقضية الجيش الواحد وابتعاده عن السياسة.

ويرى إدريس أن العودة إلى «جذور الأزمة» مدخل صحيح لجعل «الحرب الحالية» آخِر الحروب. ويضيف: «علينا معالجة أسباب وجذور الحروب، في الاتفاق المقبل لإيقاف وإنهاء الحروب».

أما القيادي في «التجمع الاتحادي» محمد عبد الحكم فيرى أن جذور الحروب تتمحور حول «التنمية المتوازنة والمواطنة المتوازنة». ويضيف: «يظل عدم معالجة التهميش والتنمية المتوازنة وحفظ حقوق الشعوب، وتغيير الأنظمة الاستبدادية المتسلطة، بحكم ديمقراطي تعددي، أُسّاً لنشوبِ أعتى وأطول الحروب السودانية».

ويرهن عبد الحكم إنهاء الأزمات المتتالية في السودان بإصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية، عن طريق تكوين جيش مهني قومي موحد بـ«عقيدة قتالية» تُلزمه بحماية الدستور والنظام المدني، وتُخضعه للسلطة التشريعية والتنفيذية، وتُعلي قيم المحاسبة وردع محاولات تسييس الجيش.