(يوميات الفوضى في ليبيا 4 من 5): «داعش ليبيا» يشتري «مرسى بحريًا» قرب حدود تونس ويخزن ترسانة أسلحة في طرابلس

أسس غرفة عمليات في «عين زارة» لتنفيذ عمليات في دول الجوار واستقبل قيادات أفغانية وباكستانية وموريتانية

(يوميات الفوضى في ليبيا 4 من 5): «داعش ليبيا» يشتري «مرسى بحريًا» قرب حدود تونس ويخزن ترسانة أسلحة في طرابلس
TT

(يوميات الفوضى في ليبيا 4 من 5): «داعش ليبيا» يشتري «مرسى بحريًا» قرب حدود تونس ويخزن ترسانة أسلحة في طرابلس

(يوميات الفوضى في ليبيا 4 من 5): «داعش ليبيا» يشتري «مرسى بحريًا» قرب حدود تونس ويخزن ترسانة أسلحة في طرابلس

كان اليوم كله ينذر بأن الأمور ربما لن تكون على ما يرام. تحت السحب السوداء الكثيفة في العاصمة الليبية طرابلس، خرجت سيارة زرقاء اللون. وعند جامع عُقبة أطلق منها مسلحون وابلا من الرصاص على سيارة «دبل كابينة» تابعة للمجلس العسكري المعروف باسم «أبو سليم». إنه واحد من عشرات التجمعات التي تديرها ميليشيات في العاصمة الملغمة بقادة التطرف. هذه هي الأيام الأخيرة من شهر يناير (كانون الثاني)، حيث يتخوف العالم من مصير هذه الدولة التي تحولت سريعا إلى وجهة للتنظيمات المتشددة القادمة من أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا.
كان في سيارة الدورية عدد من أعضاء ميليشيا «أبو سليم»، منهم جلال زميط، وسامي المسلاتي، وخالد المحجوب. وأصيب هذا الأخير برصاصة في كتفه، بينما تمكنت السيارة من الهرب. كانت سرعتها مثل سرعة طائرة، وانطلقت في اتجاه منطقة الهضبة التي يقع فيها سجن كبير يضم العشرات من المساجين الذين كانوا حتى صيف عام 2011 من القيادات التي تدير نظام الحكم بقيادة معمر القذافي.
وفي اليوم الثاني، وفي الجانب الآخر من طرابلس، وصل قيادي أفغاني من القيادات القديمة في تنظيم القاعدة، ويدعى علام الدين زاهر الإسلام، قادما من سوريا. وبدأ يتواصل مع باقي عناصر المتطرفين لكي يبدأ العمل انطلاقا من مقرات تابعة لكل من الجماعة الليبية المقاتلة (تابعة للقاعدة) وأخرى تخص تنظيم داعش في ما يسمى «ولاية طرابلس». كان علام موجودا في ليبيا من قبل، ولديه خبرة مسبقة في العمل مع «ثوار 17 فبراير» ضد قوات القذافي. وهو معروف لدى الكثير من الجماعات المتشددة في عموم البلاد. لقد استمر في العمل في ليبيا أعوام 2011 و2012 وسافر في 2013 للقتال في سوريا، والآن عاد إلى ليبيا، ويتخذ من بلدة صبراتة في غرب طرابلس مقرا له، ويتردد أيضًا على العاصمة.
المشكلة أن الميليشيات، وهي تحاول أن تخلق جبهة موحدة للعمل ضد السلطات الشرعية في البلاد، ولمواجهة أي احتمال لتدخل دولي في ليبيا، يوجد بينها تنافس على النفوذ وعلى القيادة، يؤدي بين وقت وآخر إلى صدام بين عناصر مسلحة من هنا ومن هناك، ويؤدي أيضًا إلى عمليات انتقامية كما حدث من المجهولين الذين كانوا في السيارة الزرقاء.
لقد تحدث قادة غربيون خاصة من الولايات المتحدة الأميركية خلال الأيام القليلة الماضية عن تنامي خطر المتطرفين في ليبيا خاصة تنظيم داعش، وتحدثوا أيضًا عن وصول مقاتلين وقادة من هذا النوع من الجنوب. واطلعت «الشرق الأوسط» على معلومات تفصيلية عن بعض من الوجوه الجديدة التي عبرت بالفعل من الجنوب حتى وصل بعضها أخيرا إلى طرابلس. ومن بين هؤلاء قيادي آخر في تنظيم القاعدة وهو باكستاني الجنسية ويدعى عامر الحق نصير. ودخل عامر الحق من صحراء جنوب غرب ليبيا، أي عبر الحدود مع الجزائر.
لم تكن رحلة دخوله والمجموعة التي معه سهلة. ومن المعروف أن دول الجوار الليبي مثل الجزائر ومصر وتونس، والبلدان الأفريقية الأخرى، تتخذ إجراءات مشددة لمنع عبور المتطرفين والأسلحة. ويقول الباكستاني عامر الحق، وهو جالس بين مستقبليه من المتطرفين في طرابلس، ويروي تفاصيل رحلته، إن الجزائريين هاجموا القافلة التي كان قادما على رأسها. وهو لم يذكر في تلك الجلسة كيف دخل هو ومن معه من باكستانيين إلى الجزائر. لكنه يواصل موضحا أنه قبل أن يجتاز الحدود بسيارات الدفع الرباعي، إلى داخل ليبيا، أطلق الجزائريون النار عليهم، وردوا عليهم بالمثل، في اشتباك على الحدود استمر لعدة ساعات، فسقط عدد ممن كانوا معه، وجرى دفنهم بعد ذلك في الرمال الليبية.
وتوعد عامر الحق، بتنفيذ عمليات ضد السلطات الأمنية الجزائرية بعد أن يلتقط أنفاسه في ليبيا للانتقام لمن قُتلوا من مجموعته، قائلا: «قُتل لنا أخوة نحسبهم (شهداء) في الجنوب، والآن صار الثأر عندنا بحجم الرمال التي دفنوا فيها. سنعود ونقتص».
وعلى كل حال يمكن أن تقول إن ليبيا لم يعد يوجد فيها فروق تذكر بين المسميات التي يحملها قادة المتطرفين. فالرجل الباكستاني عامر الحق، ورغم أنه من تنظيم القاعدة، فإن له قنوات اتصال مع قيادي باكستاني أيضًا، لكنه من «داعش» اسمه معاوية ذاكر الله، ووصل هو الآخر إلى ليبيا أخيرًا.
لا بد من الإشارة إلى أن بعض القيادات الليبية المتشددة ما زال لديها حساسية من تولي هؤلاء الأجانب القيادة في بعض الضواحي. وهنا يبرز الدور الذي يقوم به زعيم داعش في غرب ليبيا، محمد المدهوني، حيث إنه يبدو عليه القدرة على توزيع الأدوار في العاصمة والأدوار العابرة للحدود، خاصة في تونس والجزائر. ومن خلال وثائق اطلعت عليها «الشرق الأوسط» ومقابلات أجرتها مع عدد ممن لهم صلة بقادة المتطرفين في ليبيا، تبين أن هناك نشاطًا أيضًا لزعماء من المتشددين الموريتانيين داخل العاصمة، ويقوم عدد منهم بتسيير دوريات أمنية في طرابلس، تحت إشراف المدهوني نفسه.
ومن بين هؤلاء الموريتانيين رجل يدعى عمارة ولد أحمد، وآخر اسمه علي ولد أحمد، وهما قياديان في داعش، ولكل منهما مجموعة تتواصل مع مجموعة الباكستاني ذاكر الله. وزار الثلاثة المدهوني في مقره في منطقة عين زارة. وأعطى زعيم داعش لـ«علي ولد أحمد» مسؤولية الإشراف على دوريات في عدة شوارع تقع في القسم الغربي من العاصمة. وأصابت مثل هذه التحركات بعض قادة الصف الثاني من المتطرفين الليبيين بالاستفزاز، رغم أن عمليات نقل الأسلحة والبيع والشراء وتنسيق العمليات ضد الجيش الوطني الليبي، وضد حكومات دول الجوار، تسير بين القادة الكبار على قدم وساق.
في مثل هذه الأجواء التي تشبه حالة الحرب يخيم الخوف والذعر على سكان العاصمة، بينما يطلب بعض السياسيين سواء من المقيمين في الخارج أو في المدن الهادئة في الداخل، من سكان طرابلس الثورة ضد الميليشيات المتطرفة في العاصمة. بيد أن الواقع يقول عكس ذلك.. لا يمكن أن تمر من زقاق أو شارع دون أن ترى سيارتين أو ثلاثة تحمل ملثمين مدججين بالأسلحة، ولديهم القدرة على القتل بلا حساب. يقول أحد وجهاء العائلات في جنوب المدينة إن العالم الخارجي، سواء من الليبيين أو الأجانب، ليس لديهم تصور حقيقي عن الأزمة التي تعيشها طرابلس. دعك من نقص الخدمات وانقطاع الكهرباء ونقص مياه الشرب. المشكلة في الحفاظ على نفسك وعلى أهل بيتك من خطر الميليشيات.
في الليل، وبينما تسمع تكتكة الرصاص عبر الشوارع، كانت السماء مظلمة وسيارات الدفع الرباعي تمرق عبر الميادين. وصافرات الإسعاف تدوي من بعيد ثم تنطلق كالريح. يبدو أنه توجد حالة من الغضب بين أحد القيادات الليبية الكبيرة مع قائد من قادة الصف الثاني. هذا يحدث عادة. وهذا يعني «حالة طوارئ مصغرة»؛ ولا حركة. ماذا حدث؟ لقد تصرف مسؤول في كتيبة الأبرار، يدعى خثالة، وتابع لجماعة أنصار الشريعة، دون تنسيق مع المستوى الأعلى منه، وهو رجل يلقب باسم «الشريف»، في الجماعة الليبية المقاتلة.
الشريف كان غاضبًا. قال له: «ما هذا اللعب الذي تقومون به؟ ألم نتفاهم على أن كل عملياتنا يجب أن نتشاور فيها. كيف هذا؟ ماذا تفعلون؟ ويبدو أن العملية المختلف عليها كانت تخص تمرير مجموعة من المتطرفين إلى الحدود لكي يدخلوا إلى الجزائر».
حاول خثالة في خضم الجدل أن يدافع عن نفسه، وقال إن عملية التحرك قامت بها جماعة تابعة لقيادي جزائري يعمل بالقرب من طرابلس اسمه بوجرة. جماعة بوجرة كانت متمركزة قرب منطقة تاورغاء الواقعة إلى الشرق قليلا من العاصمة الليبية. وتقول مصادر المتطرفين إن القيادات الكبيرة في الجماعة المقاتلة أصبحت مضطرة للتنسيق في مسألة العمليات الداخلية والخارجية مع جماعة الإخوان وداعش، وأن تحرك مجموعة بوجرة من تاورغاء دون تنسيق أعطى مؤشرات بأن البعض من الكبار في الجماعة المقاتلة، ربما كانوا يعملون في الخفاء ضد خطط الإخوان وداعش.. «وهذا غير مسموح به لأن الجميع يقف فوق صفيح ساخن»، وفقا لأحد هذه المصادر.
تحرُّك المتطرفين إلى الجزائر يبدو أنه أصبح انطلاقا من مدينة غدامس المجاورة للحدود بين البلدين. طلب الشريف من خثالة أن يأمر مجموعة الجزائري بالتوجه إلى مقره في طرابلس فورا، وهو مقر موجود قرب منطقة الهضبة، وفي المقابل، أمر أيضًا بأن تتحرك مجموعات أخرى من المتطرفين إلى بلدة غدامس، هما «مجموعة العوامي»، و«مجموعة البرعصي». ويظهر من الكلام بين الرجلين أن المطلوب في هذا التوقيت تجهيز عمليات لوجستية للمتطرفين في غدامس، قبل التحرك إلى داخل الجزائر. وتقرر أن يشرف على استقبال مجموعتي «العوامي»، و«البرعصي» قيادي يدعى «العوضي»، في غدامس.
يظل أخطر مقر في الوقت الراهن للمتطرفين في ليبيا هو مقر المدهوني زعيم داعش، والذي أصبح يلقبه الكثير من القيادات الكبيرة في باقي التنظيمات باسم الشيخ. هذا الرجل يتميز بإمكانيات مالية غير محدودة، وهو لا يتردد في شراء أي صفقة أسلحة بأي مبلغ يطلب منه. ولا يفاصل ولا يطلب إنقاص السعر. وآخر صفقة عقدها كانت تضم صواريخ حرارية لديها القدرة على تحويل الدبابة إلى رماد. كما تبين أنه اشترى مرسى بحريًا في مدينة الزاوية الليبية الواقعة على بعد نحو مائة كيلومتر من الحدود مع تونس. وحين جاء القادة من الأفغان والباكستانيين والموريتانيين والجزائريين إلى طرابلس، ذهبوا إلى مقره مباشرة.
مقر المدهوني الواقع في معسكر في منطقة عين زارة، يضم غرفة خاصة لإدارة عمليات إرهابية في تونس وأخرى خاصة بالجزائر. ووفقا لمحاضر تحقيقات أمنية اطلعت عليها «الشرق الأوسط»، فقد جرى التخطيط لتجنيد دواعش في جبل الشعانبي في تونس لتنفيذ تفجيرات في هذه الدولة. وسبق أن شهدت تونس عمليات دامية على يد التنظيم المتطرف نفسه. ومن بين من جرى التنسيق معهم في غرفة عمليات عين زارة، من التونسيين، اثنان الأول يدعى زياد، والثاني جميل.
كما جرت «مباحثات» أخرى في غرفة العمليات الخاصة بتونس، بين المدهوني وتونسي يدعى أبو جريد، وهو قيادي في داعش تونس. وجرى تكليفه بتنفيذ أعمال تخريبية في شارع الحبيب بورقيبة، وفي وسط ميادين العاصمة وفي المدن المهمة.. و«في سوسة والمانستير وصفاقص». وقال له بالنص وفقا لما ورد في تحقيقات تقوم بها أجهزة أمنية مختصة بنشاط المتطرفين في شمال أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط: «لا تبقِ صيدا سهلا في مناطق ضيقة.. اضربوا مصالح الأمن.. فرغوا الشوارع كما تريد الحكومة، فرغوها حتى يسهل اقتناص الأمن، ويسهل الاشتباك.. الحكومة تعلن فرض حظر تجوال، وهذا سيزيد حنق المواطنين عليها».
ومثلما تظهر الخلافات بين قيادات الصفوف الأدنى في التنظيمات المتطرفة في داخل ليبيا، ظهرت أيضًا في تونس التي يبدو من خلال التحقيقات أن أطرافا في حركة النهضة التابعة لجماعة الإخوان، تقوم هي الأخرى بالتعاون مع دواعش تونس.
وقال المدهوني للداعشي التونسي أبو جريد بحسب نص التحقيقات إنه «يوجد خلاف حاد الآن بين إخوان تونس وقصر قرطاج (يقصد السلطات التونسية).. وسوف تنهار حالة التماسك بينهما، وهي منهارة أصلا. جندوا قيادات في الجيش وفي الأمن، كما تفعل حركة النهضة، ولا تثقوا فيها». وفي المقابل اشتكى أبو جريد من «مشكلات تموين وصرف». فأجابه المدهوني: «سيصلك ما تريد بعد أن نرى عمليات نوعية.. أرسلت لكم مليوني دولار، وسلاح، وأخوة من عندي، وهذا يكفي لإثبات أن المحال لكم يستعمل فيما نريده.. تحركوا بكل نظام وبشكل سريع، واهتموا، بالإضافة للمدن التي ذكرتها لك، بالقرى الفقيرة في الجنوب.. نريد شغلا مميزا لسرعة إحداث خلخلة وانهيار كامل قبل أي تدخل فرنسي».
يبدو من القراءة الأولى لنتيجة الجولة التي قامت بها «الشرق الأوسط» أن قيادات داعش تستحوذ على التنسيق على الجبهة التونسية، وقيادات الجماعة الليبية المقاتلة مختصة بتهيئة الجبهة الجزائرية، والقيادات الإخوانية بالجبهة المصرية، لكن كل هؤلاء يعملون بشكل يبدو أنه يزداد تناغما يوميا بعد يوم، رغم الشكوك والضغوط الدولية.
وبينما يظهر أنه توجد صعوبة في إحداث اختراق كبير على الجبهتين المصرية والجزائرية، يبدو أن نشاط المتطرفين في تونس أكبر وأسهل، لعدة أسباب من بينها وجود أعداد كبيرة من التونسيين في ليبيا، وسهولة العبور بين حدود البلدين. توجد أيضًا جماعة متطرفة في تونس جرى ذكرها على لسان أبو جريد أثناء حديثه مع المدهوني، تسمى «جماعة الجيلاني»، لها صلات بداعش ليبيا.
من محطات سوء التفاهم بين داعش تونس وغرفة عمليات المتطرفين في عين زارة، رفض الدوعش التونسيين دخول جماعة الجيلاني إلى العاصمة التونسية، بأوامر من أبو جريد. وهذا أغضب قيادات داعش ليبيا. وقدم أبو جريد الأسباب على أساس أنه يخشى من اعتقال عناصر من مجموعة الجيلاني، وقال وفقا للتحقيقات: «السبب في المنع أن عوان الأمن (الشرطة) منتشرون في العاصمة بشكل كثيف، ويغلقون الطرق، وأن الشعب عامل لجان أمنية ويتعاون مع عوان الأمن، كما أن جماعة النهضة طلبوا تأخير ذلك، لأن الأمور صعبة».
أما المرسى البحري الذي لديه القدرة على استقبال المراكب الصغيرة وأصبح تحت يد داعش في مدينة الزاوية، فقد كان يديره في السابق رجل يكني بأبو عبيدة، وهو من قادة ميليشيات المتطرفين في ليبيا، وكان يشغل منصب رئيس غرفة عمليات الثوار في البلاد. ويحمل المرسى البحري اسم «مرسى جرف الزاوية»، واستقبل في الأيام القليلة الماضية جرافات (مراكب) محملة بالأسلحة. كما استقبل مقاتلين قادمين من تونس. وأثار هذا الأمر حفيظة عدد من القيادات الصغيرة في الجماعة الليبية المقاتلة بسبب انتشار العناصر التونسية في مدينة الزاوية. ويقول أحد المصادر القريبة من أنشطة المتطرفين هنا، إن المرسى يستخدم أيضًا في نقل العناصر وإعادتهم إلى تونس بعد تدريبهم.
ومن قيادات المتطرفين الجزائريين ممن وصلوا إلى ليبيا، رجل يلقبونه هنا بـ«عصيد»، وآخر يسمونه رشوان، ومعروف في تنظيم «جند المقدس». ومن الأسماء الجزائرية التي ظهرت في غرفة عمليات داعش في معسكر عين زارة، رجل يدعى عزيز، وآخر اسمه جلول، وثالث يلقب بالمشغول، ورابع يعرف باسم عبد المهيمن.
ووفقا للمصادر فإن المدهوني يعد هؤلاء من أجل العودة مع آخرين إلى الجزائر عن طريق بلدة غدامس.. وفي آخر حديث بينهما، بحسب نص التحقيقات، قال زعيم داعش الليبي للجزائري عبد المهمين: «اتصل بي أخونا هاني حسن (غير معروف من هو، لكنه يبدو من قيادات المتطرفين الذين يعملون على الجبهة الجزائرية).. يريدكم الالتحاق به غدا صباحا. طلب مني الإذن، وأنا وافقت، فالإخوة هناك (أي في الجزائر) وضعهم ضنك ويحتاجون لنا. غادر الفجر إلى غدامس ومنها لن تغلب في الدخول للجزائر أنت خبير في ذلك».
وبمرور الأيام يبدو التناغم في التنسيق المباشر موجود ما بين الجماعة الليبية المقاتلة والتابعين لها، وبين تنظيم داعش، رغم أن قيادات من جماعة الإخوان، تحاول أن تكون في الصورة، رغم أن الكثير من تصرفاتها غير مطمئنة للتنظيمات الأخرى. فالمدهوني على سبيل المثال قال لدواعش تونس صراحة أنه لا ينبغي الالتفات إلى التنسيق معهم. وحذر منهم. بينما في ليبيا توجد للجماعة علاقات قوية خاصة في مسألة التعاون في تمرير صفقات الأسلحة والمقاتلين، لصالحها ولصالح الآخرين، سواء داخليا أو خارجيا.
رجل محسوب على الجماعة المقاتلة يدعى عبد الغني، وهو قيادي في المجلس العسكري لأبو سليم، يرتبط بعلاقة جيدة مع قادة الإخوان الذين يتركز غالبيتهم في بنغازي في الوقت الراهن. وحين تعرضت الدورية التابعة له في طرابلس لإطلاق النار من السيارة الزرقاء، حامت الشبهات حول تعاون إخواني مع عناصر أميركية يقول المتطرفون أنها عناصر موجودة في طرابلس.
ومع ذلك أصبح عبد الغني يرتبط بعلاقة وثيقة مع المدهوني. وتعاون معه في جلب شحنة أسلحة كانت متجهة من مدينة الزاوية إلى مدينة مصراتة، تتكون من ألغام مضادة للمشاة وقواذف، و18 من الصواريخ الحرارية فرنسية الصنع. كان السمسار، ويدعى «الشوشي» يريد أن يبيع الشحنة لمصراتة بستة ملايين دولار، لكن داعش زاد نصف مليون للحصول على الصفقة عن طريق عبد الغني. وتبلغ قيمة الصواريخ وحدها خمسة ملايين دولار. وجرى نقل الشحنة إلى معسكر عين زارة.
رغم كل شيء، ومع تبادل صفقات السلاح وصفقات المقاتلين، والترتيبات الخطرة، فإن الشكوك في الشارع الميليشياوي الليبي لا تتوقف. وكلما خرجت تقارير من الغرب ضد استمرار حالة الفوضى التي يثيرها المتطرفون في ليبيا، كلما زاد حراك العناصر على الأرض وارتفع صوت إطلاق الرصاص من زوايا الشوارع، وبين يوم وآخر تتقاطع مواقع النفوذ ويشتبك مسلحون من هنا ومن هناك. ويأتي الرد بعد ساعات من خلال عمليات انتقامية مباغتة. وفي الليل، في الجانب الشرقي من العاصمة، وصل أحد قيادات الجماعة الليبية المقاتلة إلى مقر إقامة مسؤول كبير في المؤتمر الوطني، وأبلغه أن يأخذ حذره من جماعة الإخوان.
وقال له إن بعض قيادات الإخوان وهم ينسقون مع الجماعة المقاتلة، يسعون، في الوقت نفسه، لإحياء قنوات التواصل مع الجانب الأميركي تحسبا لما سيأتي في المستقبل.. «الإخوان يريدون حمل تركة طرابلس في حال حدث تدخل أميركي فيها، وهم يخفون عنا ذلك». نفس التحذيرات أبلغها قيادي آخر في الجماعة المقاتلة، لمسؤول المؤتمر الوطني نفسه. قال له إن الإخوان لديهم أيضًا اتصالات مع الإيطاليين. وبعد عملية السيارة الزرقاء نصحه أن يغادر مكتبه ويبقى بين أهله.
وحين جاء الصباح، بدأت نفس القيادات في ترتيب عملية إرسال ثلاثة زوارق محملة بالأسلحة إلى القوات المعارضة لقائد الجيش الوطني الليبي الفريق أول خليفة حفتر. شارك في هذه الترتيبات اثنان من الإخوان أحدهما زعيم للجماعة في بنغازي والثاني يترأس ذراعا سياسية للجماعة في طرابلس. كما شارك في التوجيه بإتمام العملية قيادي في الجماعة الليبية المقاتلة، ورجل غير معروف يلقبونه بـ«الكوافي»، بالإضافة إلى أحد أصحاب الزوارق متخصص في «الهجرة غير الشرعية»، في منطقة قرقارش في طرابلس، اسمه «تيبار». ورغم ما أبداه تيبار من مخاوف من قصفه من الطيران الليبي أو من الطيران الفرنسي، إلا أنه رضخ للأمر.
مع المساء جاء اتصال من المشفى الذي يعالج فيه المحجوب. لقد نزف الكثير من الدم من إصابته في حادث إطلاق النار من السيارة الزرقاء. والمشكلة أنه لم يعد يوجد دم في أي من مستشفيات العاصمة. وجاء الرد من أحد قيادات الميليشيا، قائلا: «ابعث طبيب للسجن ليبحث بين الموقوفين عن فصيلة الدم المطلوبة، ولا يهمك».
يوميات الفوضى في ليبيا (5 من 5): «الشرق الأوسط» ترصد مواقع تخزين «غاز السارين» لدى ميليشيات ليبيا
(يوميات الفوضى في ليبيا 3 من 5): تفاصيل خلافات المال والسلاح بين قادة ميليشيات طرابلس
(يوميات الفوضى في ليبيا 2 من 5): ضواحي بنغازي ملاذ الدواعش بعد هروبهم من ضربات الجيش والصحوات
يوميات الفوضى في ليبيا (1 من 5): «أشباح إجدابيا» يثيرون الفزع في منطقة الهلال النفطي



إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
TT

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»

بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.

الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.

وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟

هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً

في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.

ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.

وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».

لافتات في القدس تنادي بعقد صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين في غزة بجانب صورة لزعيم «حماس» يحيى السنوار وأخرى لزعيم «حزب الله» حسن نصر الله اللذين قتلتهما إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر الماضيين (أ.ف.ب)

وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».

ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.

ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.

وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.

وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.

وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».

وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».

انفجار ضخم بعد قصف إسرائيلي لمخيم البريج جنوب غزة (إ.ب.أ)

وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.

تكتيكات «حماس» قبل وبعد

منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».

ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.

وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.

وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».

وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.

وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.

إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.

وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».

لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.

وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.

فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.

خارج التوقعات

بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.

وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».

وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».

لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.

وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.

ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».

وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».

جوع وأزمة غذاء وتدافع على حصص المساعدات الغذائية في خان يونس (رويترز)

جدل عام وتهم جاهزة

هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.

فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.

ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».

وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».

ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.

وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».

وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.

وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.

وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.

ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.

وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».

وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».

ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.

ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.

وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.

صفقات تبادل سابقة

ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.

وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.

ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.

وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.

وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.

وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.

وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.

لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.

ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.