(يوميات الفوضى في ليبيا 3 من 5): تفاصيل خلافات المال والسلاح بين قادة ميليشيات طرابلس

متطرفو ليبيا يبحثون عن مخرج قبل تولي حكومة السراج أعمالها

جانب من دوريات «داعش» الأمنية التي انتشرت بشكل متسارع في أكثر من موقع خلال الفترة الأخيرة داخل ليبيا («الشرق الأوسط»)
جانب من دوريات «داعش» الأمنية التي انتشرت بشكل متسارع في أكثر من موقع خلال الفترة الأخيرة داخل ليبيا («الشرق الأوسط»)
TT

(يوميات الفوضى في ليبيا 3 من 5): تفاصيل خلافات المال والسلاح بين قادة ميليشيات طرابلس

جانب من دوريات «داعش» الأمنية التي انتشرت بشكل متسارع في أكثر من موقع خلال الفترة الأخيرة داخل ليبيا («الشرق الأوسط»)
جانب من دوريات «داعش» الأمنية التي انتشرت بشكل متسارع في أكثر من موقع خلال الفترة الأخيرة داخل ليبيا («الشرق الأوسط»)

في لقاء جرى أواخر الشهر الماضي بين اثنين من كبار قيادات الميليشيات الليبية، تم بحث عملية نقل مليارات الدولارات من أموال المصرف المركزي الليبي إلى مكان آمن خارج العاصمة طرابلس، مع ازدياد نذر الحرب الأهلية بين العناصر المدججة بالأسلحة في المدينة الواقعة على البحر المتوسط. تزامن ذلك مع اختلاط التحالفات بين قيادات من جماعة الإخوان المسلمين و«الجماعة الليبية المقاتلة» وتنظيم «داعش»، مع توجه لتصفية الحسابات واتهامات بـ«التخوين والعمالة» بين قادة من هذه التنظيمات.
الموضوع لا يقتصر على فتح ملفات قديمة تعود لسنوات ما بعد مقتل القذافي، ولكن المثير في الأمر أن بعض الأطراف التي شاركت في حوار الصخيرات ظهر أنها، من خلال مقابلات جرت في العاصمة الليبية، تعمل في الخفاء مع تنظيم «داعش» في غرب ليبيا، والذي يديره رجل يدعى محمد المدهوني، وكشفت «الشرق الأوسط» عن اسمه للمرة الأولى هذا الأسبوع.
انتهى حوار الصخيرات بين عدد من الأطراف الليبية منتصف الشهر الماضي بالإعلان عن مجلس رئاسي برئاسة فايز السراج الذي يفترض أن يكون رئيس «حكومة توافق وطني» مقترحة من الأمم المتحدة، لكن الواقع يبدو أكثر تعقيدا مما يبدو على السطح.
قادة ميليشيات في طرابلس وأعوانهم في عدة مدن أخرى، خصوصا بنغازي ومصراتة، يشعرون بالذعر من قلق المجتمع الدولي من تنامي شوكة المتطرفين وتنظيم «داعش» في هذه البلاد. ومع ذلك يعمل كثير من الأطراف المحلية المتشددة في طرابلس بلا هوادة لتجنب انفراط عقد التحالفات التي استمرت، بشكل غير رسمي، منذ سقوط نظام القذافي في 2011، حتى يومنا هذا.
وفي اللقاء الذي جرى بين عضو في جماعة الإخوان الليبية، وقيادي كبير في المؤتمر الوطني (البرلمان السابق) في طرابلس، طلب الأول من الثاني بصفته مسؤولا وذا نفوذ، العمل سريعا على نقل الأرصدة المالية الموجودة في مصرف ليبيا المركزي إلى خارج طرابلس، واقترح نقلها إلى بلدة زوارة أو مصراتة، بديلا عن العاصمة، قائلا إنه «توجد معلومات مؤكدة عن أن طرابلس تسير بخطى سريعة نحو الفوضى».
ويشغل القيادي الإخواني المولود في بنغازي في مطلع ستينات القرن الماضي، عضوية الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ويشرف على إدارة ميليشيات متطرفة في شرق البلاد، وله هيمنة على عدد من قادة المتطرفين في طرابلس، بما في ذلك «الجماعة الليبية المقاتلة» التابعة لتنظيم القاعدة. بينما ينتمي المسؤول الثاني في طرابلس، إلى بلدة زوارة التي ولد فيها في أواخر الخمسينات، وهو من أصول أمازيغية، وصعد إلى الواجهة السياسية منذ عام 2013 بدعم من كل من حزب العدالة والبناء الليبي التابع لجماعة الإخوان، وكتلة الوفاء التابعة لتنظيم القاعدة والمحسوبة أيضا على «الجماعة المقاتلة».
محاولات كل من الإخوان و«المقاتلة» لاسترضاء الزعيم الجديد لـ«داعش» في غرب البلاد، يبدو أنها تجري بصعوبة بسبب سرعة تنامي قوة المدهوني وحشده للسلاح والمقاتلين في طرابلس والمناطق الشمالية الغربية مثل صبراتة القريبة من الحدود التونسية. وبعد اقتراح مقدم من أحد قادة «الجماعة المقاتلة» لتشكيل تحالف يضم ميليشيات الإخوان وقوات «داعش»، بدا أن عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يشعر بالقلق من نيات محمد المدهوني.
وعلى هذا الأساس بدأ القائد الإخواني مناقشة الأمر مع ابن زوارة في طرابلس. ومما قاله، وفقا لوثائق اطلعت عليها «الشرق الأوسط»، إنه يوجد تغلغل لخلايا «داعش» في العاصمة، بأسلحة وأعداد من المقاتلين يزدادون يوما بعد يوم. وأضاف أن البنك المركزي هدف للتنظيم؛ بل في مقدمة أهدافه. وتابع قائلا إنه في حال عدم التوصل إلى تفاهم مع قيادات التنظيم، وعلى رأسهم المدهوني، «فقد نعجز عن حماية البنك المركزي، خاصة أن أكبر شحنة مالية دخلته منذ أيام».
ومما ظهر من حديث الرجلين أن المسؤول الطرابلسي لم يبدو عليه الحماس لتنفيذ اقتراح القيادي الإخواني، على أساس أن هناك اتصالات مع «الجماعة الليبية المقاتلة» لاحتواء المدهوني وإدخاله في تحالف واحد، وبالتالي «يعمل الجميع معا» و«لن تكون هناك حاجة لنقل أموال المصرف المركزي إلى خارج العاصمة»، وما يمكن أن يثيره ذلك من أقاويل وردود فعل.
وبعد دقائق من الجدل، عاد القيادي الإخواني وأكد على ضرورة اختيار مبدأ السلامة بسبب ضبابية الأيام المقبلة، وشدد على أن «موضوع نقل السيولة إلى خارج العاصمة من المهم إتمامه بسرعة وعدم التهاون فيه».
وتطرق الحديث بينهما إلى حكومة السراج، وبحث إمكانية عملها من عدمه، وتأثير ذلك على الوضع في العاصمة في حال قرر البرلمان الذي يعقد جلساته في طبرق منح الحكومة الجديدة الثقة لمباشرة مهامها. وقال المسؤول الذي يعد من كبار قادة المؤتمر الوطني: «الآن السراج قادم.. ولا نعرف كيف يريد»، فأجابه القيادي الإخواني بشكل حاسم: «دعك من ترهات الصخيرات واشتغل بما قلت لك، ونحن الحكومة».
وتضم طرابلس عشرات الميليشيات التي تمتلك أسلحة من مختلف الأنواع، وكل منها يسيِّر دوريات في مناطق نفوذه في العاصمة، لكن ازدياد قوة جماعة المدهوني، يبدو مثيرا للقلق، ليس فقط لباقي الجماعات في العاصمة، ولكن لأطراف إقليمية ودولية أيضا. والمشكلة أن هذه الأجواء المثيرة للريبة، أدت إلى حرث الأرض وإخراج كثير من الملفات التي كانت مدفونة؛ منذ بداية عمل الحكومات التي هيمن عليها المتطرفون عقب مقتل القذافي، خاصة في ما يتعلق بمصير مليارات الدولارات التي جرى سحبها وإنفاقها من خزينة البنك المركزي، من عام 2012 حتى الآن، وفي ما يتعلق أيضا بخطوط تهريب الأسلحة والمخدرات والمقاتلين عبر حدود دول الجوار والبحر المتوسط.
وقبل أيام قليلة، وبينما يشعر سكان طرابلس بالرعب من تحركات الميليشيات في شوارع المدينة، جرت مشاحنات بين قائد في ما يعرف بـ«لواء الصمود» وهو قائد كذلك في «قوة فجر ليبيا» ومن أبناء مصراتة وفي العقد الخامس من العمر، وآخر يبدو أنه مسؤول استخبارات ليبي مختص بالشؤون المالية، وعلى علاقة ما بالمصرف المركزي الليبي، يدعى مصطفي. وكان الموضوع يدور حول مبالغ مالية كبيرة تخص معاملات مع أطراف تونسية، ومصيرها.
وظهر من كلام مصطفى أنه يخشى من المساءلة مستقبلا عن مصير تتبع هذه الأموال وإلى أين انتهت. وقال: «هل تتذكر مبلغ المائتي مليون دولار التي جرى تخصيصها لتونس.. كان قرضا، وبعدها صار وديعة، وأخيرا أصبح مساعدة لثورة تونس».
وتحدث عن أن هذا التغيير في صفة المبلغ، جاء ضمن مراسلات قال إنها جرت مع أطراف تونسية، وأن الجانب التونسي عدّ المبلغ «مساعدة للثورة التونسية وتقديرا لموقفها معنا في ثورتنا»، مشيرا إلى أن بعض الشخصيات في حكومة السراج هي التي وقفت وراء تغيير صفة المائتي مليون دولار من «قرض ثم وديعة»، إلى «مساعدة للثورة التونسية».
ولم تتمكن «الشرق الأوسط» من الحصول على تعليق في حينه من الجانب التونسي، حيث إن الحديث بين القيادي في «لواء الصمود» الذي يعد قواته للوقوف ضد دخول حكومة السراج إلى العاصمة، ومصطفى، تطرق أيضا إلى مبلغ تصل قيمته إلى مليار دولار. وقال إن «مبلغ المليار دولار سوف يوضع وديعة في تونس، بل ربما وضع بالفعل، بعد الإعلان عن حكومة السراج»، مشيرا إلى أن هذا الأمر يشبه بطريقة أو بأخرى تخصيص ليبيا مبلغ ملياري دولار لمصر، أيام حكم الإخوان، في مقابل تسليمها أحمد قذاف الدم لطرابلس.
وكان ملف الملياري دولار المخصص لجلب قذاف الدم من الملفات التي جرى فتحها مجددا بين قيادات المتطرفين في منتصف الشهر الماضي، أثناء اللحظات الأخيرة لتوقيع اتفاق الصخيرات، وذلك بسبب خوف مسؤول في الرقابة في العاصمة من مساءلته عن الجهة التي انتهت إليها هذه الأموال، حيث تضمن الحديث حول هذا الموضوع بين أحد قيادات «لواء الصمود»، ومسؤول تنفيذي كبير في طرابلس (من مواليد مصراتة، في أواخر الأربعينات من العمر)، أن الأموال لم تسلم بالكامل إلى الطرف المصري، وأن ما خرج من ليبيا من هذا المبلغ، هو فقط 500 مليون دولار، ووصل إلى أحد الشخصيات القوية في مكتب إرشاد الإخوان بمصر (مسجون في الوقت الحالي في جنوب القاهرة)، أما باقي المبلغ، أي 1.5 مليار، فتوزعت بين عدد من قادة الميليشيات الليبيين.
وفي لقاء بين الرجلين، وبعد السلامات والتحيات في الضاحية الغربية من طرابلس، سأل القيادي في «لواء الصمود» المسؤول التنفيذي عما يثيره موظف في هيئة الرقابة عن مصير الأموال التي كانت مخصصة لجلب قذاف الدم أيام حكم الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي، وأخبره أن موظف الرقابة وقع بينه وبين مسؤولين ماليين آخرين «خلاف بشأن الميزانية».
ورد المسؤول التنفيذي قائلا إن موظف الرقابة اتصل به بالفعل حول موضوع هذه الأموال، وإنه أخبر الموظف أنها «كانت ضمن بند العمل السري في ميزانية جهاز المخابرات الليبية أيام حكم الإخوان لليبيا». ويقول أحد الشهود من المسؤولين السابقين في حكومة طرابلس، إن المؤتمر الوطني (البرلمان السابق) حين طلب من رئيس مخابرات إخوان ليبيا، بيانا بهذا المبلغ، رد بقوله إن «هذه المبالغ لا نستطيع أن نصرح بها».
ويرد في الوثائق اسم من يعتقد أنه مسؤول في الاستخبارات، مصطفى، مرة أخرى، والذي يبدو أنه يريد أن يخلي مسؤوليته عن تحركات الأموال الغامضة.. ويقول المسؤول التنفيذي للقيادي في «لواء الصمود» إن مصطفى، الذي كان قد ترقى إلى أن وصل إلى موقع كبير في جهاز مخابرات الإخوان في طرابلس، أخبره أن «رئيس المخابرات لم يكن يستشيره في مثل هذه الأمور، ويتصرف من رأسه».
كما يرد من جديد اسم الإخواني الليبي، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، مقترنا بالملياري دولار المشار إليهما، مع أسماء ثلاثة من قيادات المتطرفين المنتمين إلى «الجماعة الليبية المقاتلة». وتقول إحدى الوثائق إن الإخواني ابن بنغازي «هو الذي كان يقوم بالتنسيق مع مصر أثناء حكم مرسي». لكن حدة المناقشات التي دارت أخيرا بين القائد في «لواء الصمود»، والمسؤول التنفيذي الطرابلسي، ازدادت بمرور الوقت. وقال الأول: «هذا يعني أن الأموال سرقت، ولم نتسلم أحمد قذاف الدم. حسنا.. إذن أين ذهبت هذه الأموال، ولمن أعطوها؟».
كان المسؤول التنفيذي يسعى لتلطيف الأجواء، وأخذ يقرن اسم محدثه بلقب «يا حاج». وكانت هذه المواجهة تجري بينما يوجد أعضاء من المؤتمر الوطني (المنتهية ولايته) في حوار الصخيرات. وقال المسؤول نفسه: «والله يا حاج أرى أن هذا الوقت ليس وقت فتح الموضوع، وأن الأمور مشوشة، ومن الممكن إذا تم فتحه أن يؤثر على جماعتنا في حوار الصخيرات». وهنا رد القيادي في «لواء الصمود»: نعم.. لكن الأموال لا بد أن تعود حتى نجهز بها (لواء الصمود)، والله أنا قاعد أتسول أموال من أجل تشكيل (لواء الصمود)، وبعض التجار محرج وبعضهم خائف».
إثارة قضية إنفاق مليارات الدولارات من أموال الدولة الليبية على أيدي قادة الميليشيات الذين يسيطرون على العاصمة، تسببت في اتساع دائرة الشكوك والخلافات.. هنا أيضا، وفي مقابلة جرت بين اثنين من قادة «الجماعة الليبية المقاتلة»، ممن كانا يحاربان معًا في جبال أفغانستان، تبدو الريبة هي التي تسيطر عليهما، رغم أنهما يعكفان على لمّ شمل المتطرفين في مجلس شورى موحد مع الإخوان و«داعش». على كل حال، تقول الوثائق إن الأول يكني «أبو حازم» ومسؤول عن كثير من المهام الميليشياوية داخل طرابلس وخارجها، والثاني يكني «أبو المنذر»، وله هيمنة على كثير من قادة المتطرفين.
وفي يوم من أيام الشتاء في العاصمة، تحدث «أبو حازم» بلهجة حادة مع «أبو المنذر» رغم أن الأخير أعلى منه رتبة. وقال له غاضبا، بالنص: «أنا لست فوطة يمسحون بها العفن». وأثارت هذه الطريقة في الكلام حفيظة «أبو المنذر»، لكن صاحبه واصل التعبير عن نفاد صبره، على ما يبدو؛ إذ زاد موضحا أن سبب سخطه هو «موضوع أموال قذاف الدم.. أنا لم آخذها كلها، وأنا أقل المجموعة نصيبا». ثم ذكر أسماء من يعتقد أنهم تقاسموا النصيب الأكبر من المبلغ، وهم: عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وشخصية إخوانية أخرى (عينته حكومة الإخوان سفيرا لليبيا في الخارج)، وقيادي إخواني ثالث من مصراتة، بالإضافة إلى مسؤول مصرفي ليبي وقيادي رابع في «الجماعة الليبية المقاتلة».
وحاول «أبو المنذر» تهدئة «أبو حازم»، لكن هذا الأخير واصل تساؤلاته وسط حالة الغضب نفسها: «لماذا الانتقائية في الزج بالأسماء؟». وهنا يتضح، من خلال ما جرى رصده من مقابلات بين الطرفين، أن القائد المشار إليه في «لواء الصمود»، يضغط على «أبو حازم»، لكي يخبره عن مصير الملياري دولار، باعتبار أن «أبو حازم» هو المسؤول في «الجماعة المقاتلة» عن التعاون مع الإخوان في ما يتعلق بالعمليات الخارجية، ومنها عملية استعادة قذاف الدم من مصر في ذلك الوقت.
وفي اللقاء نفسه، لم يقتصر «أبو حازم» على ذكر مبلغ الملياري دولار ومن أخذ، وكم أخذ، لكنه انفجر في وجه «أبو المنذر»، على غير العادة، وقال له أيضا إن هناك شخصيات أخرى حصلت على أموال بالمليارات تحت تسميات جلب أسلحة من الخارج، وإنه لم يصل منها شيء طوال الأعوام الأربعة الماضية.. «فلماذا تسألونني عن الملياري دولار، بينما لا تسألون عمن أخذوا أموالا أكثر منها بكثير». وذكر أن فلانا (كان مسؤولا في الجيش أيام حكم الإخوان لليبيا، ثم عينه الإخوان سفيرا لليبيا في الخارج) أخذ ثلاثة مليارات دولار، وفلانا (عقيد سابق، كان مسؤولا في الجيش أيام الإخوان أيضا) أخذ أربعة مليارات دولار، وفلانا (مسؤول سابق في الجيش أيام الإخوان أيضا) أخذ ثلاثة مليارات دولار.
وأضاف «أبو حازم» أن صرف كل هذه الأموال كان بحجة جلب سلاح ومعدات.. «أين هو هذا السلاح وهذه المعدات التي دخلت ليبيا.. أين السبعة مليارات التي خصصت للجيش، وأين الثلاثة مليارات التي خصصت للشرطة؟».
وفي الوقت الحالي يهدد «أبو حازم» وعدد من قيادات «الجماعة الليبية المقاتلة» بقلب الأمور «رأسا على عقب». ومعظم من هم في واجهة الأحداث يخشون من ملاحقات محلية ودولية في حال استقرت الأمور في البلاد مستقبلا. ويرى الزعماء المعروفون للأوساط العامة أن هناك كثيرا من الشخصيات التي حصلت على نصيب الأسد من الثروة الليبية بعد «ثورة 17 فبراير (شباط)»، وهي تعمل من وراء الكواليس ولا يعرفها أحد وقد تنجو، بينما يتعرض آخرون للمساءلة.
وتذكر وثيقة أخرى غضب قيادي في «الجماعة المقاتلة» لهذا السبب، قائلا لزميل له في «الجماعة» في لقاء بأحد الفنادق التي تطل على كورنيش طرابلس: «أنت تعلم كيف جرى توزيع الأموال. أنا لست خائفا، لكن هم أخذوا الكثير، ويستمتعون بحياتهم، بينما أنا في الواجهة. هم يأكلون، بينما أنا أنظف السفرة. هذا لم أقم به حتى في أيام الجهاد في خارج بلادي (في أفغانستان). هذا عيب.. عيب كبير. والله نقلبها على رؤوسهم». وهدد هذا القيادي أيضا بفتح ملف قال إن اسمه «ملف المائة مليار دولار» التي أوضح أن قيادات من الإخوان ومن «الجماعة المقاتلة» منحتها لعدة دول مقابل ديون دعم «ثورة فبراير».
ويأتي بالتزامن مع المحاولات البائسة لتسوية أموال تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، محاولات أخرى على الزعامة في غرب البلاد، بين قادة المتطرفين، حيث تشهد تلك المنطقة تحولات دراماتيكية في الولاءات والتحالفات. ومن بين حلقات التواصل التي تمكنت «الشرق الأوسط» من الاطلاع على تفاصيلها، محاولات المدهوني زيادة نفوذه في طرابلس لكي يعزز موقفه في حال دخل في تحالف مع باقي المتطرفين سواء من ميليشيات الإخوان أو «الجماعة المقاتلة». وفي لقاء جمعه مع عضو في «المؤتمر الوطني» يبلغ من العمر خمسين عاما، ومحسوب على تنظيمي «المقاتلة» و«القاعدة» في طرابلس وهو من مواليد جنوب ليبيا، يبدو أن المدهوني يحاول استقطاب هذا الرجل، لكي يكون من الموالين لـ«داعش» الآخذ في التمدد في العاصمة.
يقول له المدهوني في لهجة استرضاء: «أنا أعرف أنك صاحب صاحبك.. وأنك شهم، وهذا هو الذي أعرفه فيك». ويذكر له علاقته القديمة مع شقيقه الذي كان بمثابة نائب لأيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة. ثم يضيف معاتبا: «ولكن سبحان المغير الذي لا يتغير»، فيجيبه عضو المؤتمر الوطني مطمئنا: «تأكد أنني ما زلت مثلما كنت».
بيد أن المدهوني، زعيم «داعش» الجديد في غرب البلاد، وبحسب الوثائق التي اطلعت عليها «الشرق الأوسط» من مصادر أمنية تراقب تحركات المتطرفين في ليبيا، يواصل توجيه العتاب لعضو المؤتمر الوطني، قائلا له: «لا.. أنت تغيرت.. تغيرت نحو الأسوأ للأسف. سوف أبدأ معك من قديم.. جلبت المخدرات وشاركت أبو سيف (وهي كنية أحد أطراف حوار الصخيرات)، وتركناك، واعتبرنا الضرورات تبيح المحظورات».
وحاول عضو المؤتمر الوطني أن يقاطعه، لكن المدهوني أظهر قوته وسطوته على ما يبدو؛ إذ هدد بفض الحديث بينهما إذا لم ينصت له. وحين رضخ، واصل المدهوني فتح الملفات، وقال له: «أدخلت حبوب هلوسة من المغرب لطرابلس لصالح فلان (ذكر له اسم قيادي في الجماعة الليبية المقاتلة) ونص الشباب ضاع. ومع ذلك غضينا الطرف عنك وعنه. أدخلت سلاح من السودان (لثلاث قبائل في جنوب ليبيا ذكرها بالاسم)، ومع هذا لم نتحرك ضدك».
واستمر في إحصاء كثير من الوقائع بما فيها تسهيله تحركات مجموعات من السلفيين، وإدخال مقاتلين أفارقة إلى ليبيا، وتهريب أسلحة إلى مالي، وبيع معلومات لدول أخرى، وتحويل مسارات عناصر من المتشددين قادمين من دول عربية وأجنبية للقتال في صفوف «الجماعة الليبية المقاتلة» وإقناعهم بأن فكر «الجماعة» هو نفس فكر «داعش». وأضاف: «كل ما قمت به مسجل عندي بصوتك وصوت جماعتك. لا تقل لي إنه لم يحصل».
ورد عضو «المؤتمر الوطني» على اتهامات المدهوني بالنفي، وبأنه لا علاقة له بما ذكره. وأضاف: «إن حدث كما تقول، فقد حدث، لكن في سياق واحد وليس فيه تجاوز.. ولا نكران عهد، لكن أنتم تغير تفكيركم على الرجال، وصارت الأفكار تصب عليكم من الرمادي ومن بغداد، ولم تعد أفكارنا وثقتنا ببعض مثل الأول». وبحسب الوثائق التي رصدت العلاقة بينهما، فما زالت خطوط الاتصال قائمة بين الرجلين.
والغريب أن المدهوني ظهر أن له معاملات أيضا مع «أبو سيف» أثناء حديثه مع عضو «المؤتمر الوطني». وتقول الوثائق ومصادر على علاقة بمتطرفي ليبيا، إن «أبو سيف» قابل المدهوني بعد انتهاء حوار الصخيرات، وأنه غمره بكلمات الولاء حين تحدث معه، قائلا له: «يا مرحبا بك. زادك الله عزة ونصرة وعلوا. والله مشتاقين.. أنت لا تقول أسلم على أخي، ونسمع منه ونعرف أخباره». وهنا رد عليه المدهوني بلهجة ساخرة، وفقا لمصادر في العاصمة طرابلس: «قلت إنك قد تكون مشغول مع السراج وحكومته النصرانية، وانتظرت حتى تفيق من غيبوبتك وتعود لرشدك».
وقدم الرجل فروض الولاء لزعيم «داعش»، وقال له إن وجوده مع أطراف حكومة السراج مجرد «شغل حتى يثقوا بي». ووعد المدهوني بتقديم تقرير كامل عما جرى في الصخيرات، وما سيجري بعدها، وما تخطط له حكومة الوفاق الوطني. وأكد للمدهوني قائلا: «أنا جندي معك.. لا تهتم بالمظاهر، ولا بما ترى.. قلبي معكم، ولا أريدك أن تزعل مني، ولا تأخذ على خاطرك، فأنتم ملجأي».
واختتم الطرفان المقابلة بالاتفاق على شحنة أسلحة لصالح جماعة المدهوني، كان قد وصل 60 في المائة منها بالفعل إلى سواحل طرابلس، وتتكون من ألغام وقنابل وأسلحة متوسطة، بما قيمته سبعة ملايين وسبعمائة وثلاثون ألف دولار. وقال «أبو سيف» إنه سوف يرسل رجلا من أتباعه يدعى «علام» لأخذ المبلغ، مع انتظار شحنات أسلحة أخرى في الطريق بعشرات الملايين من الدولارات.
وتبدو «الجماعة المقاتلة» موجودة بطريقة أو بأخرى في مسألة تمويل جماعة المدهوني وطرابلس بالأسلحة، عبر خط واحد وسمسار بالاسم نفسه، وتشترك في العملية عصابات تهريب أسلحة تنشط بين إسبانيا والمغرب، وتصل إلى السواحل الليبية بين وقت وآخر. وفي آخر شحنة من هذا النوع، أعطى «أبو حازم» أوامره، قبل أسبوعين فقط، بإنزال شحنة جديدة للقاعدة البحرية في طرابلس.
يوميات الفوضى في ليبيا (5 من 5): «الشرق الأوسط» ترصد مواقع تخزين «غاز السارين» لدى ميليشيات ليبيا
(يوميات الفوضى في ليبيا 4 من 5): «داعش ليبيا» يشتري «مرسى بحريًا» قرب حدود تونس ويخزن ترسانة أسلحة في طرابلس
(يوميات الفوضى في ليبيا 2 من 5): ضواحي بنغازي ملاذ الدواعش بعد هروبهم من ضربات الجيش والصحوات
يوميات الفوضى في ليبيا (1 من 5): «أشباح إجدابيا» يثيرون الفزع في منطقة الهلال النفطي



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.