(يوميات الفوضى في ليبيا 2 من 5): ضواحي بنغازي ملاذ الدواعش بعد هروبهم من ضربات الجيش والصحوات

شم النسيم على البحر المتوسط تحول إلى رائحة الجثث والخوف يدب في أرجاء المدينة

متطرفون ليبيون يسيّرون دورية أمنية لما يسمى «الشرطة الإسلامية» في شرق البلاد («الشرق الأوسط»)
متطرفون ليبيون يسيّرون دورية أمنية لما يسمى «الشرطة الإسلامية» في شرق البلاد («الشرق الأوسط»)
TT

(يوميات الفوضى في ليبيا 2 من 5): ضواحي بنغازي ملاذ الدواعش بعد هروبهم من ضربات الجيش والصحوات

متطرفون ليبيون يسيّرون دورية أمنية لما يسمى «الشرطة الإسلامية» في شرق البلاد («الشرق الأوسط»)
متطرفون ليبيون يسيّرون دورية أمنية لما يسمى «الشرطة الإسلامية» في شرق البلاد («الشرق الأوسط»)

المثل الدارج في هذه البلاد يقول إن من يسيطر على بنغازي يسيطر على عموم البلاد. ويعدد مستشار رئيس البرلمان الليبي، عيسى عبد المجيد، المرات الكثيرة عبر التاريخ التي هبت فيها العاصفة من هنا لتغيير الأوضاع على كامل تراب ليبيا.. الاستقلال بدأ من هنا، وحكم القذافي أيضا، وكذلك «الثورة» ضد نظامه في 2011.
ومنذ نحو عامين يخوض الجيش الليبي معارك طاحنة للسيطرة على بنغازي التي تبعد نحو ألف كيلومتر شرق العاصمة طرابلس. وتمكن من تطهير غالبية ضواحي المدينة وشوارعها من تمركزات المتطرفين، لكن ما زال أمامه معضلة تتعلق بثلاث ضواحي رئيسية، هي سوق الحوت والصابري والليثي، إذ إن الجماعات التي يطلق عليها الجيش لقب «الخوارج» تتلقى دعما من البر والبحر من باقي ميليشيات المتشددين في البلاد.
من وراء دوائر كبيرة من المباني المهدمة وأبواب المحال المنبعجة بفعل القذائف الصاروخية، يقيم المتطرفون في ضاحية سوق الحوت بجوار الميناء البحري، وحتى أطراف من شارع عمرو بن العاص. وفي الخط الفاصل للمواجهات يرتفع ركام المباني ويصوب القناصة بنادقهم خاصة قرب ميدان الشجرة. من سوق الحوت توجد إمكانية لدى المتطرفين لاستقبال المراكب المحملة بالأسلحة والمقاتلين. ويقول عبد المجيد إن هذا يحدث أمام أعين العالم ولا أحد يتحرك.
يمكن العبور إلى سوق الحوت أيضا بالسيارة عبر الشوارع المطلة على مبنى المحكمة القديم، على البحر، أي المبنى الذي شهد مظاهرات الليبيين ضد القذافي مطالبين بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. كان هذا منذ خمس سنوات. كانت هناك آمال لبناء دولة جديدة، بيد أن كل شيء ما زال يراوح مكانه في انتظار حل جذري لإنقاذ ليبيا من مصير «الدولة الفاشلة». تسعى الكثير من الأطراف المحلية والدولية لإيجاد مخرج في سبيل كسر شوكة المتطرفين والجماعات المصنفة «منظمات إرهابية»، في وقت تلوح فيه عدة دول غربية بالتدخل لمساعدة حكومة التوافق الوطني على إعادة الاستقرار لهذا البلد النفطي.
ويقول النائب في البرلمان الليبي عن مدينة بنغازي، إبراهيم عميش، إن «العالم يبدو غير جاد في حربه على الإرهاب، لأن ليبيا أقرب دولة من أوروبا». اليوم تحولت أجزاء كبيرة من مدينة بنغازي بسبب الاقتتال إلى تلال من الكتل الإسمنتية والحجارة وأسياخ الحديد الملتوية، مع إصرار الجيش، بإمكانياته المتواضعة، على «دحر الإرهاب».
وبدلا من رائحة نسيم البحر المشبعة باليود، يحمل الهواء رائحة البارود والجثث المتعفنة في زوايا الشوارع. كانت طيور البحر ترفرف على الشواطئ الغربية للمدينة، واليوم تظهر في السماء بين وقت وآخر القذائف الصاروخية الطائشة. سقط في بنغازي نحو ألفي قتيل من المدنيين والعسكريين منذ عام 2014. وفي المقابل يخفي المتطرفون عدد قتلاهم، ويقومون بدفنهم في أنفاق تحت الأرض، وفقا لمصادر طبية في المدينة.
سوق الحوت هو أحد ثلاث مناطق يسيطر عليها عناصر «أنصار الشريعة» و«داعش». المنطقتان الأخريان هما حي الصابري المجاور لساحل البحر أيضا، لكن إلى الشرق قليلا من سوق الحوت. وحي الليثي الموجود في وسط المدينة. حتى أواخر العام الماضي كان المقاتلون المتشددون في بنغازي ومن يدعمهم من المدن الأخرى، ينكرون وجود «داعش»، ويعلنون أنهم «مجلس ثوار» يرفع السلاح لحماية الثورة ومنع عودة نظام القذافي مرة أخرى.
لكن العمليات النوعية التي قام بها الجيش وتوغله داخل عدة أحياء لتطهيرها من عناصر الميليشيات، كشفت خلال الشهرين الماضيين، عن أن الدواعش تمكنوا بالفعل من التسلل إلى بنغازي. وتؤكد اتصالات عثر عليها محققون في هواتف «عناصر إرهابية» في ضاحية سيدي فرج جنوب المدينة، وجود تنسيق بين «مجلس ثوار المدينة»، المدعوم من ميليشيات طرابلس، والدواعش الذين فروا إلى بنغازي قادمين من مدينة درنة، وقادمين أيضا من البحر عبر مراكب صغيرة يطلق عليها الليبيون اسم «جرافات».
في الليل، وعلى مدار أسابيع، استمرت سيارات الدفع الرباعي تنقل المقاتلين الدواعش، المهزومين، من درنة، إلى محاور الطرق البرية الجنوبية. ومن هناك يتجهون بأسلحتهم إلى أحد مسارين، إما إلى بنغازي التي يتحصن في عدد من ضواحيها تنظيم أنصار الشريعة المتطرف، أو إلى المناطق الغربية من البلاد، حيث يتلقون مزيدا من التدريبات في مدينة سرت التي أصبحت تحت سيطرة «داعش».
هزيمة الدواعش في درنة جرت بفضل طوق الحصار الذي فرضه الجيش على المدينة، طوال نحو 20 شهرا، وبمساعدة ممن يطلق عليهم الصحوات، وهم شبان متطوعون يساعدون القوات المسلحة، إلى جانب الخلافات التي نشبت بين دواعش درنة وتنظيم أنصار الشريعة في المدينة. يقول أحد قادة الجيش في محور سيدي فرج إن التحالفات والاقتتال بين أنصار الشريعة والدواعش غير مفهوم، لأن هؤلاء المتطرفين تجدهم متحالفين في جبهة ويتحاربون في جبهة أخرى، مثل محور سيدي فرج، وضواحي سوق الحوت والصابري والليثي. ويرددون معا الأهازيج الحماسية، تحت الأعلام السوداء، لمواصلة الحرب ضد الدولة.
يعاني الجيش الليبي الذي يقوده الفريق أول خليفة حفتر من نقص في السلاح وفي العتاد وفي الجنود أيضا، لعدة أسباب أولها رفض الأمم المتحدة رفع الحظر عن توريد الأسلحة له، إلا بعد تمكين حكومة الوفاق الوطني من العمل. وثانيها الخلافات التي ما زالت مستمرة بين ضباط كبار يؤمنون بثورة 17 فبراير (شباط) التي أطاحت بنظام القذافي، وضباط كانوا يصدون هجمات الثورة المسلحة المدعومة من حلف الناتو. وثالثها تعثر منح الثقة لحكومة توافق وطني لديها القدرة على طي صفحة الماضي والعمل على أسس جديدة من أجل المستقبل.
ويقول النائب عميش، إن الجيش كان يمكنه حسم المعركة ضد المتطرفين في المدينة مبكرا لو كان قد حصل على الأسلحة التي يحتاجها، مشيرا إلى أنه، مثل كثير من الليبيين، لا يجد أي مبرر لاستمرار الأمم المتحدة في فرض الحظر على تسليح الجيش، بغض النظر عن موضوع الحكومة. ويؤكد أن الليبيين قادرون، بأيديهم، على القضاء على المتطرفين، لو تمكن من الحصول على ما يحتاجه من سلاح.
ما بين البحر والصحراء تقع المدينة ذات الأزقة العتيقة الضيقة المثقوبة بالرصاص، والشوارع الحديثة الواسعة التي خربتها الحرب الأهلية. يشرف عليها من الجنوب الشرقي منطقة الأبيار التي يوجد فيها مقر العمليات العسكرية لقوات الجيش، أي بالقرب من بلدة المرج ومطار بنينة. وجرت قرب هذا المطار معارك طاحنة العام الماضي تمكن خلالها الجيش من هزيمة «العناصر الإرهابية» التي دمرت المطار الرئيسي لمدينة بنغازي. وقتل خلالها مجموعة من القادة الكبار في «أنصار الشريعة» ومن أشهرهم محمد الزهاوي، بينما اضطر قادة آخرون للهروب أو الاختفاء داخل جحور المدينة.
في بنغازي، التي تبلغ مساحتها نحو 300 كيلومتر مربع، عرب أقحاح، وفيها آخرون تجري في عروقهم دماء الأجداد الغرباء. يطلق الرجال كبار السن على المدينة باللهجة المحلية لقب «رباية الذايح»، أي المدينة التي يمكن للهائمين فيها أن يجدوا المأوى، المسكن والمأكل، بلا حساب. أو بمعنى أكثر وضوحا: القدرة على استيعاب من تقطعت بهم السبل. لكن يبدو أنه لم يكن في حسابات المدينة ظهور مجموعات من المقاتلين الغرباء الذين يسعون لفرض أجندة خاصة بهم بقوة السلاح، مستغلين في ذلك شبانا ليبيين لديهم أجندة مشابهة وأعلام سوداء مماثلة.
يقول أحد وجهاء المدينة إنه، للأسف، جاء وسط من لجأوا للمدينة بعد سقوط نظام القذافي مجموعات محترفة في البطش. إنهم متطرفون يصفهم الشاعر الشعبي المعروف نصيب سكوري، الذي يسكن قرب بنغازي، بأنهم «غلاظ الشَّعر»، و«الهبل السِّمَان»، أي الذين لا يفهمون ولا يتفاهمون. هم من ليبيا ومن بلدان عربية وأجنبية. لديهم أفكار عابرة للحدود، ولا يرون في بنغازي، إلا حجارة يمكن اتخاذها سواتر لحربهم الطويلة من درنة إلى سرت ومن طرابلس إلى بلدان الجوار الليبي وأوروبا.
يتحرك الجيش حول بنغازي بإمكانات متواضعة لكن وفقا لخطط صارمة. تعليمات للجنود بأن تكون طلقة الرصاص في مكانها. لا مجال للهدر. الجنود والمتطوعون لا يوجد لديهم أي نوع من الرفاهية.. نقص في الذخيرة وفي المعدات وحتى في الملابس العسكرية. يقول أحد الجنود: «بدلة الجيش اشتريتها على حسابي». الطعام كيفما اتفق والنوم بعين مفتوحة. جرى تحرير مطار بنينا، وبدأ العمال يكنسون الفوضى، ويعيدون ترميم المدارج والمكاتب ويبنون الجدران وينصبون الألواح الزجاجية الكبيرة.
ويتحدث ضابط في الجيش عن قرب افتتاح المطار وتشغيله، إلى جانب إعادة بناء البيوت المجاورة والمساجد المهدمة أنه بعد الانتهاء من معركة مطار بنينا أصبح الجنود أكثر حماسا للمعركة الثانية، في محور سيدي فرج، ضمن خطة شاملة لإنهاك باقي ميليشيات بنغازي. مثل هذه الخطة جرى تجربتها في درنة، ويقول ضابط في الجيش: «بمحاصرة درنة تمكنا من إخراج فئران المتطرفين، وأخذوا في الفرار.. بعضهم جاء إلى بنغازي، وبعضهم توجه إلى سرت».
يمتد محور سيدي فرج على مساحات واسعة من الأراضي والمزارع والبيوت المتناثرة التي تطوق جانبا كبيرا من الجنوب الغربي لمدينة بنغازي. ودخول الجيش إلى هذه المنطقة الغنية بالأشجار والمدقات الترابية، كان أمرا صعبا. تنتشر المزارع المحاطة بالأسوار، وهي عبارة عن ملكيات خاصة، كما توجد عدة مصانع للألبان والطحين وغيرها، إلا أن المتطرفين طردوا الكثير من أصحابها، وحولوها إلى مراكز انطلاق لمهاجمة قوات الجيش، ومنعه من دخول المنطقة أو الاقتراب من منطقة قار يونس، التي تعد أحد أهم الممرات الغربية المؤدية إلى إجدابيا وهراوة والنوفلية وسرت، حيث يتمركز تنظيم داعش وميليشيات أخرى متعاونة معه.
وتمكنت القوات الجوية الليبية من منع مدد داعشي جديد مكون من نحو عشرين سيارة بالأسلحة والمقاتلين، كان في طريقه إلى متطرفي بنغازي في محور سيدي فرج، قادما من الطريق الغربي، بينما كانت القوات البرية على الأرض تقتحم الدشم وتحرر مقار محصنة. ومن بين ما استخدمته عناصر المتشددين هنا صناديق الشاحنات الكبيرة وحاويات البضائع كمتاريس.
ساهمت سيطرة الجيش أخيرا على منطقة سيدي فرج في توجيه ضربة كبيرة لطرق الإمداد والتنقل الجنوبية التي كان يعتمد عليها المقاتلون الليبيون والأجانب في أحياء سوق الحوت والصابري والليثي. أو كما قال الفريق أول حفتر: «جنودنا يحاصرون هذه المناطق، وسحقها أصبح وشيكا».
ترك المتطرفون في محور سيدي فرج دمارا كبيرا، من أول تدمير مصانع عامة وأهلية، وقطع خطوط الكهرباء والهواتف عن ضواحٍ كاملة في المدينة، حتى عمليات تجريف للطرق في محاولات يائسة لمنع الجيش من التقدم، أو السيطرة على الطرق التي تصل إلى البحر عبر مدقات مصنع الإسمنت، وتربط المحور بسوق الحوت من الجهة الغربية. عثر ضباط الهندسة العسكرية والكتيبة 20 على عدة مئات من الألغام الأرضية المضادة للأفراد والدبابات.
تبين أيضا استخدام المتطرفين لطائرات تجسس صغيرة ذات شكل دائري ومزودة بكاميرات. سقط في الأيام الأخيرة لهذه المعارك ما لا يقل عن خمسة من الجنود والضباط، خاصة من الفرقة الفنية ومن لواء الصواريخ، وتمكن الجيش من فرض السيطرة على أكثر من ثمانين في المائة من هذه المنطقة الحيوية.
ومع ذلك، ما زال العبور من الطريق الغربي ومن الطريق الجنوبي الغربي، أي من محوري قار يونس وسيدي فرج، محفوفا بالمخاطر بسبب بقايا عناصر المتطرفين المبعثرين هناك خاصة في المناطق التي يكثر فيها الشجر والمنحدرات الوعرة. ومن أراد المرور من بنغازي إلى إجدابيا غربا، لا بد أن يتوجه أولا إلى منطقة الأبيار (جنوب شرق) ثم يأخذ الطريق الجنوبي. وكما يقول ضابط في الجيش: «المنطقة الواقعة غرب بنغازي وهي منطقة قار يونس، تعد امتدادا جغرافيا لسيدي فرج، ما زال فيها أيضا مسلحون. ولا يمكن أن تقول إنها آمنة تماما، خاصة بالنسبة لتنقلات الأهالي والتجار».
جماعات المتطرفين داخل الصابري وسوق الحوت والليثي، وهم خليط من شبان ليبيين وأجانب، ما زالوا يحملون أسلحة القنص ويجهزون المفخخات. بينهم تونسيون ومصريون ويمنيون وآسيويون (من أفغانستان وباكستان). يتنقلون بالصواريخ المحمولة على الكتف وعلى السيارات، بين واجهات المتاجر المغلقة، مستغلين الحواري الضيقة والمباني السكنية المرتفعة. كان لديهم منذ البداية طموحات تتعارض مع طبيعة أهل بنغازي المسالمين. شعورهم بقرب الخسارة، يدفعهم لمزيد من التحصن والضرب، كما يقول قائد عسكري على محور الصابري.. «سنستنزف ما لديهم من أسلحة وذخيرة ومؤن. نراهن على الوقت».
يدور عدد هؤلاء المنتشرين في بنغازي حول ألف مقاتل، غزوا المدينة ولم يكتفوا بقدور الطعام التي اعتاد سكان بنغازي قديما تركها أمام أبواب بيوتهم من أجل سد جوع الغرباء. هؤلاء نوع من الغرباء الذين يريدون أخذ البيوت نفسها. يقول جمعة العلال أحد أبناء القبائل في حي الصابري، والذي فر من المدينة بسبب الحرب: الغرباء حطموا علينا الأبواب. أفارقة ومصريون وتونسيون.
منذ استقلال ليبيا في مطلع خمسينات القرن الماضي، ظهر في بنغازي الشعراء والروائيون ومحطات الإذاعة والضباط القوميون المتهورون الذين يريدون القفز إلى المستقبل، خصوصا أنه يوجد فيها فروع لنحو 280 قبيلة، بمن فيهم قبائل العبيدات والمغاربة والبراعصة والقطعان وقبائل أخرى من أولاد علي، وكذلك من قبائل مصراتة والبربر والتبو والطوارق. استمر الوضع على هذا الحال حتى أصبح البعض يطلق على بنغازي اسم «ليبيا المصغرة». يشير العلال إلى أنه حين تحدث مشكلة في بنغازي تتأثر بها كل المدن الليبية، لأن المدينة فيها «الداء والدواء لكل ليبيا».
ومثل غالبية القيادات الليبية سواء كانوا نوابا في البرلمان أو في القوات المسلحة، يقول النائب عميش بكل بساطة: «إذا حسمنا المعارك ضد المتطرفين في بنغازي، فستنتهي باقي مشكلات ليبيا تباعا». أو كما قال ضابط كبير في الجيش الليبي في مقابلة معه في مكتبه في المنطقة الشرقية من البلاد: «إذا حررنا بنغازي من الإرهابيين فإن تحرير باقي المدن منهم سيكون مجرد تحصيل حاصل».
عواطف نوري، ابنة بنغازي، وهي أم لولدين، انخرطت في العمل التطوعي في أيام الانتفاضة ضد القذافي التي استمرت ثمانية أشهر. كانت تريد لمدينتها أن تقود البلاد إلى مرحلة جديدة. عملت محررة في المكتب الإعلامي للثوار والذي كان موجودا في الطابق الثاني من مبنى المحكمة المطل على البحر. بعد سقوط النظام، بدأ الهدوء والانتعاش الاقتصادي يدخل المدينة منذ النصف الأول من عام 2012، وأخذت سلاسل المراكز التجارية تعلن عن نفسها في الضواحي.. «قُتل القذافي وبدأنا نتنفس الصعداء، لكن هذا لم يدم طويلا».
ونزحت عواطف مثل الألوف من أبناء بنغازي إلى أقارب لها في مدن أكثر هدوءا. أقامت في مدينة البيضاء في شرق بنغازي، وبدأت تراقب الأوضاع أملا في العودة القريبة إلى بيتها وتأسيس موقع إلكتروني إخباري على الإنترنت. تقول: «تمرض بنغازي لكنها لا تموت. والقضاء على المتطرفين مسألة وقت».
تأسست المدينة سنة 525 قبل الميلاد كواحدة من المستوطنات الإغريقية في شمال أفريقيا. ومنذ ذلك الوقت وهي تتعرض للمحن وتنهض من وسط الحطام، في كل مرة، لتبدأ من جديد. بالقرب من البحر يقف قصر المنارة بعد مائة سنة من بنائه على أيدي الإيطاليين. تهدمت أطرافه وثقبته قذائف الصواريخ. وفي الجانب الآخر تلتف الشوارع المظلمة حول البحيرة التي تتوسط المدينة. هنا مبنى التأمين المعروف أيضا باسم مبنى الضمان. لقد تعرض عشرات الليبيين حتى منتصف العام الماضي للجلد من شبان يرفعون الرايات السوداء. لكن اليوم أصبحت هذه الطرقات خاوية في انتظار حسم المعركة. حلقت طائرة عسكرية وقصفت مبنى التأمين الذي يتحصن فيه قناصة تنظيم أنصار الشريعة، وتطايرت الجدران وأعمدة التراب والدخان.
تنظيم أنصار الشريعة المصنف دوليا «منظمة إرهابية» والذي أعلن فيما بعد موالاته لـ«داعش»، ظهر لأول مرة في بنغازي عام 2013، أي بعد الهجوم الذي تعرضت له القنصلية الأميركية في المدينة، وأسفر عن مقتل أربعة أميركيين بينهم سفير الولايات المتحدة في ليبيا. وهو تنظيم منشق أساسا من تنظيم آخر يقوده متشددون في المدينة أيضا اسمه «كتيبة راف الله السحاتي». وكتيبة راف الله السحاتي منشقة هي الأخرى عن كتيبة «17 فبراير» التي تشكلت من زعماء المتطرفين في بنغازي، خلال الثورة ضد القذافي.
ظل التنظيم يتلقى الدعم من باقي المتطرفين في البلاد وبعض قادة الميليشيات التابعة لجماعة الإخوان والجماعة الليبية المقاتلة التابعة لتنظيم القاعدة، وهم ينظرون لأنفسهم باعتبارهم «حراس ثورة 17 فبراير»، حيث قام التنظيم باستهداف ضباط الجيش والشرطة واستهدف بالسيارات المفخخة معسكرات تابعة للقوات المسلحة ودمر مديرية الأمن بقذائف «آر بي جي». يقول زعماء الميليشيات إنهم يخوضون الحرب في بنغازي ضد «الليبراليين والعلمانيين والكفار، وضد حفتر وضد أنصار النظام السابق»، وإنهم يسعون لتطبيق الشريعة.
وتعرض التنظيم لعدة انتكاسات. المرة الأولى حين بايعت قيادات فيه تنظيم داعش. والمرة الثانية حين وافقت عدة ميليشيات كانت تدعمه من طرابلس ومصراتة على الدخول في الحوار الذي ترعاه الأمم المتحدة سعيا لتشكيل حكومة وفاق وطني برئاسة فايز السراج. ومنذ العام الماضي ظهرت تحالفات لـ«أنصار الشريعة» في بنغازي مع الدواعش الذين فروا من درنة، رغم أن دواعش درنة كانوا يقاتلون مجموعات من «أنصار الشريعة» التي رفضت موالاة التنظيم في تلك المدينة الصغيرة الواقعة إلى الشرق من بنغازي.
ورغم الدعم بالسلاح والمقاتلين فإن خليط المتطرفين في بنغازي خسر أيضا معسكر الدفاع الجوي ومعسكر الصاعقة ومحور بوعطني حتى زاوية قاعة الأفراح، بالإضافة إلى منطقة بعيرة وحي الزهور. وفي الجانب الآخر كان جنود وضباط كتيبة الجيش رقم 153 والقوات الخاصة تتقدم وهي تفكك الألغام من الشوارع، وفي المقابل انسحب المتطرفون إلى ما وراء مقر المعسكر رقم 319، بينما كان جنود من قوات الصاعقة يطاردون مجموعة من المتطرفين حاولت التقدم انطلاقا من منطقة الليثي.
ووفقا للمصادر العسكرية فإنه في كل مرة يحقق فيها الجيش تقدما في بنغازي، يزيد المتطرفون من الضغط لعرقلة جهود الجيش انطلاقا من المناطق الواقعة غرب المدينة، أي في سرت وهراوة والنوفلية التي يسيطر عليها «داعش» وفي إجدابيا التي يوجد فيها ميليشيا مناهضة للجيش.
وفي آخر لقاء جمعه بنواب وأعيان ووجهاء في المنطقة الشرقية من البلاد، قبل عدة أيام، شدد الفريق أول حفتر على قرب الإعلان عن تحرير بنغازي بفضل التحام أبناء الشعب مع الجيش، ليبدأ بعدها في تحرير سرت. وأن القوات المسلحة الليبية «ستنتصر في المعركة ضد الإرهاب».
يوميات الفوضى في ليبيا (5 من 5): «الشرق الأوسط» ترصد مواقع تخزين «غاز السارين» لدى ميليشيات ليبيا
(يوميات الفوضى في ليبيا 4 من 5): «داعش ليبيا» يشتري «مرسى بحريًا» قرب حدود تونس ويخزن ترسانة أسلحة في طرابلس
(يوميات الفوضى في ليبيا 3 من 5): تفاصيل خلافات المال والسلاح بين قادة ميليشيات طرابلس
يوميات الفوضى في ليبيا (1 من 5): «أشباح إجدابيا» يثيرون الفزع في منطقة الهلال النفطي



الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
TT

الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)

ما لم يكن أكثرها أهمية، فإن الربيع العربي أحد أهم أحداث الربع الأول من القرن الحادي والعشرين في الشرق الأوسط. الذكريات السلبية التي يثيرها حديث الربيع تزيد كثيراً عما يثيره من مشاعر إيجابية. هناك بهجة الحرية المرتبطة بمشهد آلاف المحتشدين في الميادين؛ احتجاجاً ضد حكام طغاة، أو احتفالاً بسقوطهم. لكن هذا المشهد يكاد يكون لقطة خاطفة تبعها شريط طويل من المناسبات المحزنة. فما الذي سيبقى في ذاكرة التاريخ من الربيع العربي: لقطة الحرية القصيرة، أم شريط المعاناة الطويل؟

بين ديسمبر (كانون الأول) 2010 ومارس (آذار) التالي، اشتعلت نيران العصيان في عدة بلاد عربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. انفجار الثورة بشكل متزامن في عدة بلاد لا يكفي لافتراض التجانس بينها. للمشرق العربي خبراته التاريخية وتركيبته الاجتماعية المختلفة عن شمال أفريقيا.

في المشرق فسيفساء عرقية ودينية وقومية لا يشبهها شيء في شمال أفريقيا التعددي، لكن غير المفتت. تاريخياً، أدى قرب المشرق من مركز الحكم الإمبراطوري العثماني إلى حرمانه من تكوين خبرة خاصة مع السلطة ذات الأساس المحلي. البعد الجغرافي عن مركز السلطة العثماني سمح بظهور سلطات ذات منشأ محلي، لها علاقة ما بالمحكومين في الشمال الأفريقي.

لقاء جمع بشار الأسد بالرئيس المصري الراحل حسني مبارك في القاهرة عام 2000 (أ.ف.ب)

مصر بين مركزين

وقوع مصر في منتصف المسافة بين مركز الحكم العثماني والمغرب البعيد، أسس لعلاقة مراوحة مترددة بين السلطة في مصر ومركز السلطنة، حتى جاء محمد علي باشا الكبير ليحسم التردد. الصحراء الليبية المحرومة من تجمعات سكانية كبرى، والمنجذبة إلى مراكز متعددة للسلطة شرقاً وغرباً، تأخر قيام السلطة المحلية وظهور تقاليد السياسة والحكم فيها.

الأفكار والآيديولوجيات والمشاعر والخيالات والأوهام تنتقل بين الجمهوريات على لغة جامعة ووسائل إعلام يجري استهلاكها بشكل مشترك، وإن كانت تَصنَع في كل «جمهورية» أثراً مختلفاً طبقاً لطبيعته الخاصة المميزة. لهذا انتقل الربيع من مكان إلى آخر، ولم تنتقل مؤثرات الموجة الديمقراطية الثالثة قبل ذلك. لهذا أيضاً أنتج الربيع نتائج مختلفة في كل بلد. التركيز هنا سيكون على بلاد الشمال الأفريقي، خاصة مصر وتونس، مع ملاحظات وتعريجات على خبرات أخرى بغرض الإيضاح.

السقوط السريع لأنظمة حكمت لعقود في شمال أفريقيا مستخدمة قبضة أمنية قوية، برهن على وجود أخطاء جسيمة غير قابلة للاستمرار. التفاوت الاجتماعي، وبطالة الشباب والجامعيين، واحتكار السلطة، وانتهاك الحقوق، واستباحة المال العام، وخواء مؤسسات التمثيل السياسي، وتجريف الحياة السياسية والفكرية في جمهوريات عدة؛ كل هذا أفقد الطبقة الحاكمة الأساس الأخلاقي المبرر لأحقيتها وجدارتها بالسلطة، وهو أمر ضروري في مجتمع «الجماهير الغفيرة» الحديث.

سقوط النظام القديم

هذا هو الفارق بين الهيمنة والسيطرة. كلما تآكل الأساس الأخلاقي للسلطة، ازدادت الحاجة للقمع، وارتفعت تكلفة ممارسة الحكم، حتى نصل إلى لحظة تزيد فيها تكلفة السلطة على عوائدها، فينهار النظام. هذا بالضبط ما حدث في الربيع، فعندما تراخت القبضة الأمنية، أو تعرضت لتعطل مفاجئ عجزت السلطة عن الاستمرار.

سقوط النظام القديم لم يتبعه ظهور نظام جديد بروعة الشعارات المرفوعة في الميادين. لقد تعلمنا بالطريقة الصعبة أن ما كان لدينا من عناصر التمرد على النظام القديم أكبر بكثير مما كان لدينا من عناصر بناء النظام الجديد، وأن النجاح في هدم الجمهوريات القديمة لا يضمن النجاح في إقامة جمهوريات جديدة.

خلال أسابيع قليلة تحرَّرت دول شرق أوروبا الشيوعية، وأسست ديمقراطيات فعالة. عقد ونصف العقد بعد الربيع العربي، وما زالت حروبه مستمرة في بعض البلاد، وأسئلته الكبرى مُعلَّقة بلا إجابات في كل البلاد، أسئلة الديمقراطية، ونظام الحكم المناسب، والإسلام السياسي، والاستمرارية والتغير.

سقطت أنظمة، وتم إطلاق الوعد الديمقراطي. تأسست ديمقراطية عرجاء وانشغل القائمون عليها بالمكايدات والانقسامات، فلم تعمل سوى لفترة قصيرة، عادت بعدها أشكال من النظام القديم إلى الحكم. هذه جمهوريات لا تعيش فيها دولة الاستبداد الأمني، ولا تعيش فيها الديمقراطية أيضاً. إنها محيرة، فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني، لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية مستدامة.

لدى المصريين تعبير بليغ عن الراقصين على السلم، لا شاهدهم سكان الطابق الأعلى ولا سمع بهم سكان الطابق الأسفل. هذا هو حال بلاد الشمال الأفريقي مع الديمقراطية.

إخفاق المحاولات الديمقراطية في منطقتنا يدعونا لنقاش جدّي حول شروط الديمقراطية. النشطاء المتحمسون لا يحبون النقاش الجدي في هذه المسألة؛ لأنها في نظرهم تهرُّب من الاستحقاق الديمقراطي الصالح لكل مكان وزمان. ما نعرفه هو أن الديمقراطية الحديثة بدأت في الظهور في القرن الثامن عشر، وليس قبله، عندما نضجت الظروف اللازمة لقيامها. حدث ذلك في بعض البلاد أسبق من غيرها؛ لأن المجتمعات لا تتطور بشكل متكافئ.

هذه جمهوريات محيرة... فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية

يحدث التحول الديمقراطي في موجات تعكس عملية تاريخية، نطاقها النظام الدولي كله، لإنضاج شروط التحول الديمقراطي في البلاد المختلفة. محاولة دول الربيع تحقيق الديمقراطية جاءت منفصلة عن أي موجة عالمية للتحول الديمقراطي.

على العكس، فقد حدثت المحاولة العربية للتحول الديمقراطي عندما كان العالم يشهد موجة عكسية للانحسار الديمقراطي. وصلت الديمقراطية الليبرالية إلى ذروة ازدهارها بعد نهاية الحرب الباردة. في عام 2006 كان 60 في المائة من سكان العالم يعيشون في دول تحكمها نظم ديمقراطية ليبرالية، لكن طوال الثمانية عشر عاماً التالية، وفقاً لمؤسسة «بيت الحرية» التي ترصد وتقيس حالة الحرية في بلاد العالم المختلفة، فإن عدد الدول التي تناقص مستوى الحرية المتاح فيها زاد عن عدد الدول التي زاد مستوى الحرية المتاح فيها، بمعدل اثنين إلى واحد. هناك أيضاً تراجع في جودة الديمقراطية.

فبعد أن شهدت الدول والمجتمعات الغربية ما بدا أنه إجماع على القيم الليبرالية واقتصاد السوق والعولمة خلال العقد التالي لانتهاء الحرب الباردة، تزايدت خلال العقدين الأخيرين الشكوك حول القيم الليبرالية، وتآكل الإجماع حول المقصود بالقيم الديمقراطية، وانكمشت اتجاهات الوسط الآيديولوجي والسياسي. في ظل هذه الشروط غير المواتية حدثت محاولة الربيع الفاشلة لتحقيق الديمقراطية.

عتبة قيام الديمقراطية

للديمقراطية شرط اقتصادي. الدراسات الجادة تبين أن هناك عتبة معينة يكون قيام ديمقراطية فعالة ومستدامة تحتها أمراً غير مرجح. ستة آلاف دولار لمتوسط دخل الفرد هي العتبة التي رصدها الدارسون، فعند هذا المستوى تحقق الطبقات الاجتماعية درجة مناسبة من التبلور، وتظهر طبقة وسطى تلعب دوراً مركزياً في التحول الديمقراطي.

تحدث التمردات الديمقراطية حتى قبل الوصول إلى هذه العتبة، لكنها نادراً ما تقود إلى تأسيس ديمقراطية مستدامة. لم تشهد كل البلاد التي اجتازت العتبة الاقتصادية تحولاً ديمقراطياً، ولا كل البلاد الواقعة تحتها تعاني من الاستبداد. الشرط الاقتصادي لا يختزل التاريخ والواقع الاجتماعي والسياسي المعقد في عامل واحد، إلا أن العلاقة بين الديمقراطية والثروة تظل قائمة، فالحديث هنا عن نمط واتجاه واحتمالات، لا عن حالات بعينها. في كل الأحوال ليس من بين دول الشرق الأوسط التي جربت حظها في أثناء الربيع من اجتاز العتبة الاقتصادية للديمقراطية، وربما كان هذا أحد أسباب إخفاق المحاولة.

للديمقراطية شرط ثقافي - سياسي. قيام الديمقراطية يحتاج إلى قدر مناسب من الإجماع والتوافق الآيديولوجي والقيمي بين قوى المجتمع الرئيسية. الديمقراطية نظام فعال لحل الخلافات الآيديولوجية، لكن فقط ضمن حدود معينة.

عندما انقسم الأميركيون بين أنصار العبودية وأنصار التحرير، توقف النظام عن العمل، ووقعت الحرب الأهلية. الجمهورية الثانية في إسبانيا انتهت بحرب أهلية بالغة الفظاعة بين اليمين واليسار. الانقسام الآيديولوجي المتزايد في الولايات المتحدة وبلاد أوروبا الغربية يهدد بتراجع جودة الديمقراطية. في الديمقراطية يسلم الطرف الخاسر في الانتخابات السلطة طواعية، أولاً لأنه يدرك أن لديه فرصة أخرى للمنافسة، وثانياً لانتمائهما معاً، الخاسر والرابح، لنفس عائلة الأفكار والقيم.

عندما ينظر أحد الأطراف للطرف الآخر بوصفه العدو، تتوقف الديمقراطية عن العمل، ويمتنع الخاسر عن تسليم السلطة. اقتحام الكونغرس في السادس من يناير (كانون الثاني) قبل أربع سنوات كان بروفة محدودة لما يمكن أن يحدث عندما يقع انشقاق آيديولوجي وقيمي في المجتمع. على العرب إيجاد صيغ لتسوية الخلافات الآيديولوجية العميقة السائدة قبل محاولة الديمقراطية، فالأخيرة لم يتم تصميمها لحل الصراعات الآيديولوجية الحادة.

صورة أرشيفية للرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي (غيتي)

صراع المعنى والهوية

صراعات الربيع لم تكن كلها من أجل الوظائف والأجور والخدمات والتمثيل السياسي، بل كانت أيضاً صراعات حول المعنى والهوية، والتي تتفجر في كل البلاد، من الهند وحتى الولايات المتحدة، وما الترمبية والتيارات الشعبوية اليمينية في أوروبا إلا تعبيراً عن هذه الظاهرة. حتى تيارات اليسار في بلاد غربية كثيرة أصبحت أكثر انشغالاً بالهويات المهمشة من انشغالها بالطبقات المحرومة. العرب ليسوا أعجوبة، وليس لديهم شيء يخجلون منه، رغم فجاجة أشكال التعبير عن صراعات الهوية في بلادنا.

الانقسام الآيديولوجي هو أحد أهم أسباب إخفاق الربيع. في كل مكان زاره الربيع في الشرق الأوسط دار صراع عنيف وحاد بين المصدرين الأكبر للمعنى: الوطن والدين. حاول الأصولي تهميش الوطني، فرد عليه الوطني بتهميش مضاد، فيما القوى الأخرى، الليبرالية واليسارية، تكتفي بعزف الموسيقى التصويرية والتشجيع. هذا الاستقطاب الثنائي مدمر، ولا مخرج منه إلا بظهور تيار ثالث يفكك الثنائية، أو بترويض المتطرفين، ليتقدموا بنسخة جديدة مقبولة غير مثيرة للفزع من أنفسهم.

قد تكون الديمقراطية صيغة صعبة المنال في بلاد لها ظروف بلادنا. ربما توافرت الظروف لبناء ديمقراطية كاملة في وقت لاحق. حتى لو لم نكن قادرين على بناء ديمقراطية كاملة، فإن جمهوريات الاستبداد المفرط لم تعد قابلة للحياة.

هذا هو درس الربيع العربي. الاستبداد الوحشي ليس هو البديل الوحيد لدمقرطة الجهوريات، فهناك صيغ تحقق الشرعية، فيما تضمن درجة عالية من الانضباط وفاعلية المؤسسات العامة. النظام السياسي للدولة الوطنية التنموية في سنغافورة يقوم على تعددية، تتنافس فيها الأحزاب السياسية في انتخابات نزيهة تحظى بالاحترام، يفوز بها نفس الحزب الذي حكم البلاد منذ عام 1959. سنغافورة من بين الدول العشر الأقل فساداً في العالم، ومن بين أسرعها نمواً، رغم أنها ليست ديمقراطية كاملة. هناك مساحات واسعة للتقدم حتى في غياب الديمقراطية.

قد تفترض الحكمة السائدة في العلوم السياسية أن الديمقراطية الليبرالية - جدلاً - أفضل نظام للحكم، لكن عملية بناء نظام سياسي لا تشبه في شيء التجول في الأسواق بحثاً عن أفضل نظام سياسي. المجتمعات تبني النظام السياسي الذي يناسبها، وليس النظام السياسي الأفضل. وفي الحقيقة، فإن النظام السياسي المناسب هو النظام السياسي الأفضل ضمن الميراث التاريخي والحقائق الاجتماعية والسياسية لكل مجتمع. هذا ما يجب على العرب مواصلة السعي إليه في ربع القرن المقبل.

* باحث مصري