يوميات الفوضى في ليبيا (1 من 5): «أشباح إجدابيا» يثيرون الفزع في منطقة الهلال النفطي

خليط من أمراء الحرب يضم دواعش وفيدراليين

مسلحون من {داعش} يتحركون بالقرب من منطقة الهلال النفطي في جنوب شرقي مدينة سرت ({الشرق الأوسط}) - صورة من طائرة خاصة بنقل عمال النفط في حقل تبستي في جنوب غربي إجدابيا ({الشرق الأوسط})
مسلحون من {داعش} يتحركون بالقرب من منطقة الهلال النفطي في جنوب شرقي مدينة سرت ({الشرق الأوسط}) - صورة من طائرة خاصة بنقل عمال النفط في حقل تبستي في جنوب غربي إجدابيا ({الشرق الأوسط})
TT

يوميات الفوضى في ليبيا (1 من 5): «أشباح إجدابيا» يثيرون الفزع في منطقة الهلال النفطي

مسلحون من {داعش} يتحركون بالقرب من منطقة الهلال النفطي في جنوب شرقي مدينة سرت ({الشرق الأوسط}) - صورة من طائرة خاصة بنقل عمال النفط في حقل تبستي في جنوب غربي إجدابيا ({الشرق الأوسط})
مسلحون من {داعش} يتحركون بالقرب من منطقة الهلال النفطي في جنوب شرقي مدينة سرت ({الشرق الأوسط}) - صورة من طائرة خاصة بنقل عمال النفط في حقل تبستي في جنوب غربي إجدابيا ({الشرق الأوسط})

التردد على حقل تبستي النفطي، في جنوب شرقي صحراء سرت ليس سهلا. العمال والمهندسون يعتمدون على طائرات صغيرة لتجاوز النقاط التي يسيطر عليها تنظيم داعش في ليبيا. في يوم من الأيام جاء صوت من الحقل النفطي المجاور بعد أن سيطر عليه التنظيم المتطرف، عبر جهاز اللاسلكي إلى حقل تبستي الذي يبعد عنه نحو مائة كيلومتر: «الدولة الإسلامية سيطرت على الحقل. نحن في الطريق إليكم أيها المرتدّون».
حين بدأت خطة للإجلاء والهروب، كانت اثنتان من الطائرات الأربع، معطلتين وتحتاجان إلى صيانة. لا توجد سيارات. وانتشرت حالة من الهلع. واستغرق الأمر نصف نهار لكي يصلح المختصون مروحة في موتور الطائرة الأولى وترميم خرطوم البنزين في الطائرة الثانية.

رغم محاولات المجتمع الدولي وعدة أطراف ليبية وضع حد للفوضى التي تعاني منها البلاد، فإن التحديات تبدو أكبر من مجرد اللقاءات والحوارات والحلول السياسية. توجد قوات على الأرض تديرها جماعات مختلفة، يقدر عددها بمئات الجماعات. لكن الأمر الخطير الذي يمكن أن يدفع بالبلاد إلى مزيد من دوامة الحرب الأهلية يكمن في نحو خمسة تجمعات شبه عسكرية كبرى، تنتشر في مناطق جغرافية محددة في عموم البلاد، وتتميز بالدعم المالي والتسليح الجيد مع وجود أجهزة لدى كل منها مماثلة للأجهزة الأمنية والاستخباراتية المعروفة في الدول. يمكن أن تقول إن كل مجموعة تشكل دويلة صغيرة لها قيادات وجنود وأهداف ليست محلية فقط، ولكنها عابرة للحدود أيضا.
وفي هذه الحلقات تسلط «الشرق الأوسط» الضوء على الفوضى التي ساعد على ظهورها واستمرارها أمراء حرب ولصوص وميليشيات وكتائب ظهرت من مختلف التوجهات، عقب رحيل نظام معمر القذافي، سواء في طرابلس أو مصراتة أو درنة أو سرت وبنغازي، إلى جانب الوضع البائس للجيش الوطني الليبي الذي يقوده الفريق أول خليفة حفتر، إذ إنه يعاني من نقص في التسليح وفي العتاد وفي الجنود، خصوصا أمام جحافل المتطرفين المتحصنين في ثلاث ضواحٍ رئيسية في بنغازي، ثاني أكبر المدن الليبية، وأمام قوى الميليشيات المسيطرة على العاصمة وعدة مدن أخرى.
هل سمعت عن «داعش» في سرت؟ نعم. لقد تمدد التنظيم في هذه المدينة، مسقط رأس القذافي، والمكان الذي قتل فيه أيضًا في خريف عام 2011. ظهر التنظيم الدموي هنا العام الماضي، وانطلق من هذه المدينة للسيطرة على الهلال النفطي. المشكلة لا تتعلق بتمركز «داعش» في سرت فقط، ولكن في العلاقات الخفية التي ظهرت في الشهور الثلاثة الماضية بين عناصر التنظيم وقوة شبه عسكرية تسيطر على مناطق في إجدابيا، وهي أول مدينة كبيرة تقع على بعد 400 كيلومتر شرق سرت.
هل تتذكر الاجتماعات التي كانت تعقد في إجدابيا للمطالبة بالحكم الفيدرالي في ليبيا، ومنح برقة، الإقليم الشرقي من البلاد، ما يشبه الحكم الذاتي؟ لقد ظهرت تلك الدعاوى بعد أن انشق آمر المنشآت النفطية بقواته في تلك المنطقة، ويدعى إبراهيم، عن الحكومة التي كانت ما زالت مركزية في العاصمة طرابلس برئاسة الدكتور علي زيدان. يزعم آمر هذه المنشآت أن لديه عشرين ألف مقاتل. وأغلق غالبية موانئ تصدير النفط بزعم أن جماعة الإخوان التي كانت تهيمن على حكومة زيدان تقوم بسرقة النفط لصالحها. وبعد أن صوت الناخبون الليبيون في صيف عام 2014 للبرلمان الجديد الخالي من الأغلبية الإخوانية، ورغم منح هذا البرلمان الثقة لحكومة عبد الله الثني غير الإخوانية أيضا، فإن معظم موانئ التصدير هناك ما زالت مغلقة.
الهجمات الخاطفة على حقل الغاني التي بدأت مطلع العام الماضي وما تلاها من هجمات على حقول نفطية أخرى صغيرة منتشرة في الهلال النفطي، حتى الآن، كانت تنذر بأن «داعش» ينتفخ ويدور ويكبر مثل العاصفة الرملية. قتل من قتل من مهندسين وموظفين ليبيين وعرب وأجانب، واستولى على سيارات ومعدات وأجهزة حواسب عليها معلومات مهمة، وسرق أجهزة الاتصالات (موجات البث بالراديو) التي يصل مدى الواحد منها إلى نحو ألف كيلومتر مربع. وكل من يجده من حراس المنشآت النفطية (الفرع التابع للجيش) يذبحه ثم يعلقه على الصواري، ويشعل النيران في الحقل ويمضي. وبعد ذلك وصل، كما شاهد العالم أخيرا، إلى ميناء رأس لانوف نفسه.
السؤال الذي ظهر بين المهندسين الليبيين المذعورين، عقب الهجوم الذي شنه «داعش» سرت على المنشآت النفطية وعلى ميناء رأس لانوف وحرق خزانات النفط فيه قبل أسبوعين، هو كالآتي: لماذا لم تقاوم القوات التي يزعم آمر المنشآت النفطية أنه يملكها في غرب إجدابيا الهجوم الداعشي؟ وأين قوات الجيش الوطني؟ الواقع على الأرض في تلك المنطقة، أي في مدينة إجدابيا وما حولها، يلخص كل شيء تقريبا. تنقسم المدينة إلى منطقتين للنفوذ. منطقة الشرق وتهيمن عليها قوات موالية للجيش الوطني. وغالبية المنخرطين في هذه القوات من قبيلة زوية. أما القسم الغربي من المدينة فتهيمن عليه قوات تابعة لآمر المنشآت النفطية الذي يبدو أنه مستمر في العمل لحسابه الخاص، وله تصريحات هجومية ضد الفريق أول حفتر. ويوجد نشاط في القسم الغربي أيضًا لتنظيم داعش، من خلال القيادي الداعشي المدعو أسامة، وهو شقيق إبراهيم، آمر المنشآت نفسه. وأكثر المنخرطين في القسم الغربي من المدينة ينتمون إلى قبيلة المغاربة. أما عميد بلدية إجدابيا فيدعى سالم، وهو الشقيق الثالث للأخوين الفيدرالي إبراهيم والداعشي أسامة.
ويقول أحد ضباط الأمن الليبيين إن القسم الغربي من إجدابيا يبدو تحت سيطرة خليط مبهم يضم دواعش وفيدراليين وأمراء نفط ولصوص ينهبون المعدات الحكومية والخاصة، أو من يطلق عليهم بعض المهندسين الذين فروا بأعجوبة من حقلي الغاني وتبستي «أشباح إجدابيا». وبعد هروب العمال من تبستي، كرر «داعش» الهجوم على مواقع أخرى. قام بتفجير الخط الطويل الذي ينقل الزيت النفطي الخام من حقلي البيضاء وتبستي، إلى الخزانات العملاقة في ميناءي الهروج والسدرة. وأخذت الفوضى تضرب المنطقة النفطية الشاسعة الممتدة من البريقة إلى سرت.
يوجد في ليبيا جهاز لحراسة المنشآت النفطية تابع للجيش، لكن توجد مخلفات تركتها أيام هيمنة الإخوان والجماعة الليبية المقاتلة على حكم ليبيا منذ رحيل القذافي وحتى منتصف عام 2014. ومن هذه المخلفات، الميليشيات الخاصة التي تقوم بحراسة المنشآت، مثل الميليشيا التي يترأسها إبراهيم في إجدابيا وكان يسعى من خلالها لفرض الحكم الفيدرالي في شرق البلاد. وهو موضوع يرفضه على ما يبدو غالبية الليبيين في الشرق، وبالتالي اختفت دعاوى الفيدرالية بينما أصبحت هذه الميليشيا تضغط للحصول على مكاسب، وتقيم علاقات غامضة مع باقي القوى بما في ذلك تنظيم داعش، كما يقول أحد ضباط الجيش الليبي في شرق إجدابيا.
ويضيف: «قوات إبراهيم موجودة في غرب إجدابيا، فلماذا لم تقف ضد (داعش)؟»، مشيرا إلى أن قوات «داعش» لم تهدأ طوال الأيام الماضية، وهي دائبة التحرك نهارا جهارا قرب المناطق النفطية في زلة ومرادة وحقل 103 وحقل المبروك وحقل تبستي وحقل الناقة وغيرها. وبينما كان «داعش» يشن هجماته على حقول النفط، كان القيادي الداعشي أسامة يأمر بإخلاء مستشفيات تقع في القسم الغربي من إجدابيا لعلاج جرحى التنظيم المتطرف سقطوا في ضربات بالطيران نفذها الجيش الليبي. وكان من بين الجرحى عناصر داعشية، ثلاثة تونسيين ومصريان وجزائري واحد.
ومن صفات الداعشي أسامة أنه صغير السن (أصغر من إبراهيم)، في العقد الثالث من العمر. وكان يعمل في الحرس الثوري، وهو من الأجهزة الأمنية التي كان يعتمد عليها القذافي في حكمه. ويقول أحد المقربين من هذا الشاب إنه أصبح قائدا ميدانيا لدواعش سرت وله لحية طويلة، ويقوم بين حين وآخر بزيارات لشقيقيه سواء آمر المنشآت المنشق، أو عميد بلدية إجدابيا. ويضيف أن علاقة الأشقاء بـ«داعش» أغضبت القبيلة التي ينتمون إليها، ولهذا عقدت اجتماعا لهذا الغرض، وأن أسامة وأخويه قالوا في الاجتماع إنهم لا علاقة لهم بـ«داعش» وأن أسامة لن يذهب إلى سرت مرة أخرى.
ويضيف قائد عسكري في شرق إجدابيا إن المدينة الآن منقسمة بين الدواعش والجيش. الجيش تحرك بعد أسبوعين من الاغتيالات التي قام بها المتطرفون ضد جنوده هناك، أما في الجهة الغربية حيث اتجاه سرت واتجاه الحقول النفطية فهذه المنطقة يسيطر عليها الدواعش. ولا توجد خطوط فاصلة بين جانبي المدينة. ولهذا تقع اشتباكات واغتيالات بين وقت وآخر. ويقول إن الآمر إبراهيم، حتى الآن، لا يظهر في الواجهة من هذا الصراع، بينما شقيقه أسامة ما زال يتردد على دواعش سرت.
حراسة المنشآت النفطية مثلها مثل بلدة إجدابيا، منقسمة بين موالاة الآمر إبراهيم وموالاة الجيش. وكل منهما يحصل على أجور من خزينة الدولة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. ويقول أحد المسؤولين المحليين: «رغم مشكلة (داعش) ورغم إصرار إبراهيم على إغلاق قواته لمرافئ التصدير المهمة التي تقع تحت يديه، فإن القضية الأساسية التي تؤخر حسم هذه المشكلة تكمن في انتماء قطاع من حراسة المنشآت التابعة لإبراهيم لقبيلة المغاربة، وانتماء قطاع من حراسة المنشآت التابعة للجيش لقبيلة زوية».
ويضيف: «تقيم هاتان القبيلتان في نطاق جغرافي متقارب، من أول إجدابيا ومنطقة شخرة، إلى جالوا وأوجلة وحتى الكفرة جنوبا.. وأي محاولة لحسم الانقسام بين حراسة المنشآت ربما سيؤدي إلى اقتتال قبلي، وهذا ما لا يريده الجيش.. منذ سنوات وهم يفاوضون إبراهيم من أجل فتح الحقول، سلميا ودون قتال، لكنه يرفض، وأخيرا بدأ يتحدى قيادة الجيش نفسه».
وحاولت «الشرق الأوسط» التواصل مع آمر المنشآت إلا أن الرد من مكتبه كان في كل مرة يقول إنه مسافر خارج البلاد. وتقول المصادر الأمنية في إجدابيا إن إبراهيم كان موجودا في تركيا أثناء هجوم «داعش» على ميناء السدرة وعلى الحقول النفطية في الأيام الأخيرة.
وبرز في منطقة الهلال النفطي قادة يقيمون في إجدابيا، ولديهم علاقات مع دول مختلفة، ويقوم بعضهم بزيارات بالطائرات إلى بلدان في المنطقة. وكان أحد هؤلاء القادة يدير قبل سقوط نظام القذافي محلا لألعاب الفيديو للصغار في إجدابيا. وأصبح اليوم يدير شركات وأموالا بملايين الدولارات، مع ممتلكات في لبنان واليونان، تتنوع ما بين مزارع التفاح والفيلات وشركات النفط.
ورصدت الجهات الأمنية الليبية قيام أحد القيادات المحلية التي تدير ميليشيا في إجدابيا، ولها علاقات مشبوهة مع دواعش سرت، بالشروع في بناء قصر ضخم يقع في القسم الغربي من المدينة.. «موجود في المدخل الغربي من إجدابيا، وفي نفس الوقت يطل على الطريق الصحراوي الجنوبي المتجه إلى طبرق.. مساحة القصر على أرض تزيد مساحتها على ألفي متر مربع، وتبلغ كلفة المنشآت المبدئية للقصر نحو مليوني دولار».
منذ أواخر عام 2014 ومرورا بعام 2015 لم تكن عشرات الحقول النفطية تعمل بكامل طاقتها، بسبب الخلافات السياسية وحروب الميليشيات، بل إن بعضها كان متوقفا عن الإنتاج، وظل يقيم فيه، مع ذلك، بعض الحراس وبعض المهندسين. لقد غادرها الغالبية العظمى من المختصين الأجانب خوفا من الفوضى، خصوصا بعد تمدد «داعش» في المنطقة. من بعيد، في الصحراء الواقعة جنوب خليج سرت، وبعد منطقة مرادة بقليل، توجد آثار سيارات الدفع الرباعي لمقاتلي «داعش» القادمين من دول عربية وأفريقية.
للوصول إلى قلب الهلال النفطي، من الشرق، وعن طريق البر، لا بد أن تخرج من إجدابيا وصولا إلى منطقة البريقة.. من هناك يوجد شارع يهبط جنوبا ويصل إلى واحة الكفرة، اسمه طريق 110. هذا الطريق لم يكن في الإمكان أن يسير فيه أحد إلا إذا كان معه تصريح، لأنه طريق خاص بحقول النفط. كان في أيام حكم القذافي مغلقا بالأسلاك الشائكة، وفيه حواجز للجيش. وبعد انتشار «داعش» في تلك المناطق جرى منع التردد على الحقول بالسيارات، والاكتفاء بالتنقل بالطائرات الصغيرة التي تحمل من ثمانية إلى عشرة أفراد.
الميليشيات والدواعش سرقوا غالبية المعدات من حقول الهلال النفطي. ويقول ضابط في الجيش: «السرقة جرت تحت حماية الميليشيات والمتطرفين.. ومن قام بها إما عناصر تابعة لهم وإما عناصر تعمل لصالحهم.. وعلى هذا تم نهب الحقول القريبة من مناطق مرادة ومزدة وزلة، سرقوا أجهزة الاتصالات والمكاتب والمكيفات وما خف وزنه، أما السيارات فقد تعرضت للسرقة منذ البداية».
وكان مسؤولو حقل تبستي، حين شعروا بالخطر من سرقة ما لديهم، قد نقلوا السيارات الكبيرة وسيارات الإسعاف وغيرها إلى حقل الآمال الواقع جنوب إجدابيا. ويقول أحد المهندسين الذين عملوا في تبستي: «أمام هذا الخطر أبقينا فقط على المعدات الخفيفة والضرورية للعمل. كان عددنا في الحقل 49 موظفا من بيننا أربعة فلبينيين كانوا قد غادروا منذ وقت مبكر للأحداث.. وكان معنا من العرب سبعة مصريين بينهم ثلاثة يعملون كـ(هاوس بوي) وواحد مشرف للعمال. كان هناك مهندسون تونسيون لكنهم كانوا قد رحلوا مع بداية أحداث العنف».
ومع ذلك استمر الفنيون الليبيون في العمل حتى وقت قريب رغم المخاطر. وفي أحد الأيام هبطت الطائرة في الحقل. كان الوقت مساء. سرعة الطائرة لم تكن تتجاوز 130 كيلومترا في الساعة، مع أن سرعتها القصوى تزيد على مائتي كيلومتر في الساعة. إنها تشبه السيارة، لكن صوتها مرتفع. يوجد في الحقل نحو 25 بيتا مبنيا بالحجارة، وعدة كرفانات للمبيت أيضا. ومكاتب مجاورة تضم إدارات فنية وقسما للسلامة وآخر للاتصالات. من النافذة ترى أشجارا مبعثرة هنا وهناك وتعطي روحا للمكان الذي تحيطه رمال الصحراء من كل مكان. وبالقرب من مدخل الحقل يوجد مركز لصيانة الطائرات الأربع التي تتردد على الموقع.
داخل مكتب قسم الاتصالات فرغ المهندس، ويدعى عبد الله، من إبلاغ محطة رأس لانوف بتقارير الضخ الخاصة بالحقل. ومن رأس لانوف كان يجري الضخ في بعض الأحيان في البواخر الراسية في الميناء. ويحمل المهندس نفسه جهاز لاسلكي اسمه «لونج راديو» يغطي مساحة ألف كيلومتر مربع، وهو جهاز باهظ الثمن تصل قيمته إلى أكثر من عشرين ألف دولار، ويربط حقل تبستي بباقي حقول الهلال النفطي. في الصباح جاءت مكالمة من حقل الجفرة الذي يبعد بنحو 400 أو 350 كيلومترا. وقال المتحدث: «سمعنا عن مشكلة. ماذا حدث؟ هل لديكم أي معلومات عن اقتراب (داعش)؟».
وبدأ عبد الله في الاتصال بباقي الحقول، لمعرفة ماذا يجري، لكن لم يرد عليه أحد. وقفز إلى ذهنه ما قام به «داعش» في حقل الغاني.. لقد استولى التنظيم المتطرف على الحقل هناك وذبح عددا من العمال والمهندسين. وجاء صوت أحد الدواعش عبر اللاسلكي: «دولة الإسلام قادمة.»..
ويقول عبد الله إنه لم يكن يصدق ما يسمع. وارتدى حذاءه قبل أن يرتدي بنطاله من شدة الهلع. وخرج وهو ينادي على زملائه بأن «داعش» يقترب من الحقل، وأن عناصر التنظيم في الطريق إلى حقل مسلة، ثم إلى حقل القطرون، «وبعد ذلك يصلون إلينا في تبستي». ويضيف: «حين سمعت في اللاسلكي أن حقلنا موجود في خطتهم للسيطرة على الحقول النفطية، سلام يا صديقي.. بلّغت مراقب الحقل، فقال: إخلاء فوري».
ويضيف: «كان لدينا طائرتان متوقفتان عن العمل، إلى جانب طائرتين تعملان. وجرى على الفور عمل صيانة للطائرتين المتوقفتين، وبدأت الطائرات الأربع في عمل الإجلاء الفوري للعاملين في الحقل»، مشيرا إلى أن «المفروض الذي يحمينا هو حرس المنشآت التابع للحكومة في شرق البلاد. الدواعش حين يصلون إلى حقل من الحقول لا يبحثون عن الموظفين أو عن المهندسين ولكن يبحثون عن حرس المنشآت التابعين للجيش. يذبحون أي شخص يرتدي ملابس حرس المنشآت الموالية للقوات المسلحة بقيادة حفتر، أو أي شخص يعرفون أنه يعمل تبع القوات الحكومية الشرعية».
في حقل الغاني ثم في حقل آخر مجاور، ألقى «داعش» القبض على مجموعة كبيرة تتكون من نحو 21 شخصا من العمال والمهندسين. حققوا مع مراقب الحقول وكان اسمه المهندس الزلاوي. وتركوه. وحققوا مع مهندس ثانٍ بعد أن ربطوا يديه وعصبوا عينيه، فمات بالسكتة القلبية من الخوف في مكانه. ماذا يعني أن يربط «داعش» يديك ويعصب عينيك غير أنه يريد أن يذبحك؟ كان هذا الرجل مديرا عاما للحقل، وهو ليبي الجنسية. حققوا مع الباقين وتركوهم. مراقب الحقول قالوا له تعالَ اعمل معنا واغنم معنا، وغنائم الكفار حلال لكم. لكنه رفض. رجل آخر من بلدة زلة ممن جرى التحقيق معه وعيناه معصوبان أصيب بحالة نفسية مثل الهستريا وأصبح يتحدث مع نفسه، ولم ينفع معه علاج رغم أن أسرته نقلته للعلاج في الخارج.
وما زال يوجد في حقل تبستي عدد من الموظفين لكن ليس فيه عمل. العمل متوقف. والطعام يأتي عن طريق طائرة. تأتي بتموين يكفي أسبوعا أو أسبوعين وترجع. وهي تنطلق إلى هناك من حقل الآمال. والشركة التي تدير العمل هي شركة الهروج للنفط. كان اسمها من قبل شركة فيبا. وهي كانت أصلا شركة كندية حتى أواخر الثمانينات، ثم أخذتها الشركة الوطنية للنفط وسمتها شركة الهروج.
كانت ليبيا قبل مقتل القذافي تنتج نحو 1.6 مليون برميل يوميا، بينما أصبح متوسط الإنتاج اليوم يدور بين 200 ألف و300 ألف برميل يوميا. وإذا وضعت في الاعتبار الانخفاض الكبير لأسعار النفط في الأسواق العالمية، فعليك أن تتصور مدى الخسائر الاقتصادية التي يتعرض لها هذا البلد. فالرواتب متأخرة مع معاناة في وصول السلع، وارتفاع في أسعار غاز الطهي وانقطاع متكرر للكهرباء. وذعر في التنقل بالسيارات عبر الطرق السريعة بسبب الانفلات الأمني.
الحقول الصغيرة التي تحت يد شركة الهروج في الهلال النفطي تنتج 80 ألف برميل في اليوم تقريبا. وهناك شركات أخرى كانت تعمل في المنطقة حتى وقت قريب. وحقل تبستي يعد من أصغر هذه الحقول، إذ ينتج في اليوم ما بين ستة آلاف إلى ثمانية آلاف برميل. لكن غالبية هذه الحقول متوقفة الآن.
وتقول المصادر الأمنية إن «داعش» يريد السيطرة على الهلال النفطي. والتنظيم في الوقت الحالي يسيطر على المنطقة من سرت إلى بن جواد. ويضيف ضابط في الجيش الليبي: «سرت فيها شركة لتصنيع الغاز، والدواعش يسيطرون عليها الآن. هم يريدون السيطرة على ميناء السدرة الذي يضربونه منذ عدة أيام. ضربوا خزانين للنفط. حمولة الخزان نحو 100 ألف برميل. الخزان الواحد وملحقاته تبلغ كلفة بنائه ملايين الدولارات. كل هذا تم تدميره. نصف مليار دولار جرى حرقه في ساعات».
ووجه «داعش» ضربات إلى ميناء السدرة لأول مرة، ثم تراجع حتى البوابة الغربية، تحت مقاومة حرس المنشآت التابع للجيش الوطني. وهم، أي الدواعش، وفقا لشهود عيان «يتمركزون على بعد 10 كيلومترات، ومعهم أسلحة للقنص، وهي بنادق يصل مداها إلى 7 كيلومترات. من أين أتوا بهذا النوع من الأسلحة؟ لا نعرف. وأي أحد يظهر على البوابة يتم ضربه».
يوميات الفوضى في ليبيا (5 من 5): «الشرق الأوسط» ترصد مواقع تخزين «غاز السارين» لدى ميليشيات ليبيا
(يوميات الفوضى في ليبيا 4 من 5): «داعش ليبيا» يشتري «مرسى بحريًا» قرب حدود تونس ويخزن ترسانة أسلحة في طرابلس
(يوميات الفوضى في ليبيا 3 من 5): تفاصيل خلافات المال والسلاح بين قادة ميليشيات طرابلس
(يوميات الفوضى في ليبيا 2 من 5): ضواحي بنغازي ملاذ الدواعش بعد هروبهم من ضربات الجيش والصحوات

 



ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
TT

ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)

يسأل كثيرون في العراق بحكم عادة الإحباط: ماذا لو كان صدّام حسين يحكم حتى اليوم؟ يستسهل كثيرون أجوبة «فانتازية»، لكن أيام صدّام نفسها كانت لتجيب: عراق معزول، بحصار أو حرب يشنها هو، أو تُشن عليه.

يشكك عراقيون في أن «التحولات» قد تحققت بالفعل منذ الغزو الأميركي للعراق، الذي أطاح بالنسخة العراقية من حزب «البعث»، ورئيسها الذي أُعدم في ديسمبر (كانون الأول) 2006، لتتراكم لاحقاً أسئلةٌ يفشل الجميع في الإجابة عنها.

بعد ربع قرن، يبدو العراق بلداً يجمع الأسئلة. يطويها ويمضي، هادئاً أو صاخباً، من دون أجوبة. في أفضل الأحوال يراجع نفسه فيعود إلى لحظة أبريل (نيسان) 2003. يفتح أسئلة جديدة عن الحرب الأهلية (2005)، والبدائل المسلحة (2007)، و«داعش» (2014) والاحتجاج (2019)، والنفوذ الإيراني (على طول الخط)، كلها أسئلة مطروحة على العراق، لا يجيب عنها العراقيون.

سؤال صدّام والبديل

زلزلت هجمات سبتمبر (أيلول) 2001 أميركا والعالم. ارتعدت بغداد. كان صدّام حسين ذلك العام قد «نشر» ما زُعِم أنها رواية هو مَن كتبها، «القلعة الحصينة». في شارع المتنبي، معقل الكتّاب والكُتبيين، وسط بغداد، كان روادٌ يقتنون سراً رواية أخرى، لكنها ممنوعة، للسوري حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر». والكتب الممنوعة تُباع بأغلفة «مستعارة»، مرة بغلاف كتاب «أم كلثوم... حياتها وأغانيها»، أو بغلاف كتاب آخر كان يقدم صدّام حسين «قائداً مفكراً».

في الرواية الأولى، كان بطلها «صباح حسن» الجندي في الجيش العراقي. تأسره إيران جريحاً فيهرب عائداً لصيانة «قلعة الأمة العربية». في الثانية يهرب بطلها «مهدي جواد»، الشيوعي العراقي، من بغداد إلى الجزائر، ليلقي نفسه في البحر، بعد قصة حب «منبوذة»، وليمةً في البحر.

كأن صدّام «المرعب» والعراقيين «المرعوبين» ينسجون قصصاً عن الهرب من العراق وإليه، في رحلة بين السؤال واللاجواب. في تلك السنة، وحين اتُّهم النظام بأنه طرف في هجمات «عالمية» لها صلة بتنظيم «القاعدة»، «انتُخب» -هكذا ورد الفعل في أدبيات «البعث»- قصي صدّام لعضوية لجنة قيادية في حزب البعث، وانطلقت تكهنات عن «التغيير» عبر التوريث بوصفه جواباً عن سؤال البديل، وكان بشار الأسد يومها قد أمضى مورَّثاً، عاماً على رأس البعث السوري، وبعد عامين غزت الولايات المتحدة بغداد، ووُلد عراق صار اليوم «كبيراً» بربع قرن، ولم ينضج بعد.

قبل 20 عاماً، في ظهيرة 9 أبريل 2003، لفَّ جندي من «المارينز» رأس تمثال صدّام بعلم أميركي. سأل عراقيون: لماذا لم تتركوا لنا هذه الصورة الأيقونية، بعَلم عراقي؟

جندي من «المارينز» يلفّ رأس تمثال صدام حسين وسط بغداد بعلم أميركي (رويترز)

سؤال بغداد وجواب واشنطن

حين يرصد عراقيون الزلزال السوري هذه الأيام، لا يستطيعون فهم كيف حدث «التغيير» السريع من دون دبابات أميركية وقاذفات «بي 52»، ولماذا يصر السوريون على الاحتفال كل يوم بـ«الحرية» من دون «أجنبي»، حتى مع الظلال التركية الناعمة، كما تصيبهم الدهشة من مزاحمة السوريين لـ«أبو محمد الجولاني» الذي لم يختفِ بعد، و«أحمد الشرع» الذي لم تكتمل ولادته، على أجوبة البديل، من دون حمَّام دم، حتى الآن.

لأن العراقيين يحكمون على العالم من ذكرياتهم، ويقيّمون الآخر من أسئلتهم التي لا يجيبون عنها. تفيد وقائع ربع قرن بأنهم ينتظرون من الآخر الإجابات.

تقول ذكريات العراقيين في أغسطس (آب) 2003، بعد 4 أشهر من احتلال العراق، إن السفارة الأردنية هوجمت بالقنابل، ومقر الأمم المتحدة بمركبة ملغومة قتلت موظفين من بينهم رئيس البعثة سيرجيو دي ميلو، واعتقل الأميركيون علي حسن المجيد، «الكيماوي»، ابن عم صدّام، كما قُتل 125 شخصاً في انفجار بالنجف من بينهم رجل الدين الشيعي محمد باقر الحكيم.

في ذلك الشهر الدامي، مثالاً، سأل العراقيون عن الأمن، ونسوا بديل صدّام والديمقراطية والنموذج الغربي الموعود، لتثبت الوقائع اللاحقة أن الجواب عن سؤال الأمن كان احتيالاً للتهرب من سؤال العدالة الانتقالية.

سيرجيو دي ميلو (يمين) وبول بريمر (الثاني من اليمين) يحضران الاجتماع الافتتاحي لمجلس الحكم العراقي في بغداد 13 يوليو 2003 (غيتي)

سؤال الحرب الأهلية

حين اصطحب بول بريمر، حاكم العراق الأميركي، أربعة من المعارضين إلى زنزانة صدّام حسين، انهالوا عليه بالأسئلة: «لماذا غزوت الكويت؟»، قال عدنان الباججي (دبلوماسي مخضرم)، و«لماذا قتلت الكرد في مجزرة الأنفال؟»، قال عادل عبد المهدي (رئيس وزراء أسبق)، و«لماذا قتلت رفاقك من البعثيين؟»، يسأل موفق الربيعي، مستشار الأمن القومي السابق، فيما لعنه أحمد الجلبي، فجفل صدّام، وابتسم.

خرج بريمر متخيلاً «هتلر في صدّام» كما وصف في مذكراته «عامي في العراق». خرج المعارضون الأربعة بأجوبة كان من المفترض أن تُعينهم على إدارة «العدالة الانتقالية»، ولم يفعل أحد. كان هذا أواخر ديسمبر 2003.

في العام التالي، سلَّمت واشنطن إياد علاوي حكومة مؤقتة محدودة الصلاحيات، لتتفرغ هي بصلاحية مفتوحة لمعركتين طاحنتين، في النجف ضد «جيش المهدي» بزعامة مقتدى الصدر، وأخرى ضد جماعات مسلحة في الفلوجة، من «مقاومين» و«أصوليين».

انشغل المعارضون في «مجلس الحكم الانتقالي» -هيئة مؤقتة شكَّلها بريمر على أساس المحاصصة في يوليو (تموز) 2003- بترتيب أوراق أعدها الأميركيون للحكم، وكتبوا مسودات عن خرائط الشيعة والسنة والكرد، محمولة على ظهر أسئلة تاريخية عن الأغلبية والأقلية، وحكم «المظلومين» من بعد «الظالمين».

على الأرض، كان حي الغزالية (غربي بغداد) المختلط يستعد لأول فرز طائفي، بالدم. تلك الليلة، شتاء 2005، نُحرت عائلة داخل حمّام المنزل، فأعاد المنتقمون رضيعاً إلى أهله، مخنوقاً. على الفور رُسمت حدود فاصلة بين السُّنة والشيعة، وتحولت سوق شعبية، تقسم المدينة إلى نصفين، إلى خط تماس. تبادل «جيشان» جديدان الهاونات و«الآر بي جي»، والكثير من الضحايا.

كتب المعارضون في مجلس الحكم، داخل المنطقة الخضراء، مسودة الحكم الانتقالي. صوَّت 8 ملايين عراقي لإنشاء «جمعية وطنية» في يناير (كانون الثاني) 2005، ولم يُعرف إذا كانوا قد قرروا استبدال أمراء الطوائف بصدّام، لكنهم اتفقوا في الغزالية على كتابة «رخصة عبور» للسنة والشيعة، من المهجَّرين والمهاجرين، لاجتياز خط التماس، وفرز المدينة.

تناسلت «جيوش» في بغداد، وباتت الصحافة ترقم الأخبار: من السبت إلى السبت، أيام دامية. وخلال عامين ضغط الأميركيون على بغداد لتثبيت الأمن. كان شارع «حيفا» المختلط، وسط بغداد، مسرحاً دموياً على مدار الساعة، مسكه «الجيش الرسمي»، فانفلتت جيوش أخرى في محيط الشارع ومنه إلى كل بغداد: نقاط تفتيش وهمية، وملثمون حقيقيون، بأسلحة الطوائف، و«الدماء إلى الركب».

تلك الأيام بدت جواباً على سؤال البديل، لكن مَن سأله ومَن أجاب عنه؟

عام 2006، ولأن إبراهيم الجعفري (أول رئيس وزراء منتخب) بات منبوذاً من الداخل والخارج، ذهب العراق فوراً إلى عصر نوري المالكي دون أن يجيب عن الأسئلة السابقة. قال المالكي ما معناه المجازي والحرفي: أنا دولة القانون. رأى العراقيون ذلك جواباً عن «الدولة» و«القانون»، وغضّوا الطرف عن الـ«أنا» في «منيفستو» المالكي الشهير.

نوري المالكي (غيتي)

سؤال المالكي

أُعجب الأميركيون بالمالكي. كان ديك تشيني (نائب الرئيس الأميركي 2001 - 2009) يتندر بالتزامه بـ«إنجاز استقرار العراق»، لكنه قبل ذلك كان قد أرسل جيمس ستيل (ضابط أميركي متهم بإدارة الحروب القذرة في السلفادور منتصف الثمانينات) إلى بغداد لمواجهة «التمرد السني»، بإنشاء «فرق الموت» الشيعية. كان ستيل يمشي في ظل أحمد كاظم، وكيل وزير الداخلية يومها، وفي ظله هو يسير أمراء حرب جدد.

في 2006، زُلزلت العملية السياسية العراقية بتفجير مرقد «العسكريين» في سامراء. انطلقت أسئلة عن «ضرورة» رسم الخرائط الجديدة، بتقاطعات حادة؛ إذ برَّأ المرجع علي السيستاني، في فبراير (شباط) 2007، «أهل السنة» من التفجير، لكنَّ المالكي نفى ضلوع طهران رداً على اتهام أميركي، في يوليو 2013.

يومها كانت «أنا» المالكي تتضخم، وفِرق ستيل المميتة تتناسل في شوارع العراق.

سؤال إيران... و«داعش»

حاول المالكي إنقاذ نفسه مع سقوط المدن تباعاً في يد «داعش»، رغم أنه «المنتصر» على إياد علاوي في انتخابات 2010 برصاصة رحمة «قانونية».

يوم 9 يونيو (حزيران) 2014، وكان التنظيم يخوض معارك في الموصل، اجتمع المالكي مع شيوخ قبائل ووجهاء سُنة بناءً على نصيحة كان قد أهملها لتدارك الأمر. قيل إنه وعدهم بما لا يريد، فسقط ثُلث العراق في يد «داعش»، وأفتى السيستاني بـ«الجهاد»، وتبيَّن لاحقاً أن الفتوى ليست لإنقاذ رئيس الوزراء.

رحل المالكي، ووصل قاسم سليماني. وتعلم رؤساء الوزارة اللاحقون كيف يرزحون تحت ضغط طهران، حتى حينما كان يتناوب جهاز «الإطلاعات» و«الحرس الثوري» على مكاتب الحكومة بوصفتَي عطار مختلفتين.

ما زرعه جيمس ستيل، جناه قاسم سليماني. ومع عام 2017 صارت الفصائل المسلحة قوة مهيمنة في العراق، تدور حولها فصائل أخرى، تلعب أحياناً أدوار «التمرد» و«المقاومة»، مع الحكومة وضدها.

يومها، وبعد 14 عاماً، أرست إيران أركان ما يجوز وصفها الآن بـ"حديقة المقاومة"، التي تفيض فصائل مسلحة وميزانيات مالية ضخمة.

متظاهرون في ساحة التحرير وسط بغداد أكتوبر 2019 (أ.ف.ب)

سؤال «تشرين»

لم يُجِب العراقيون عن سؤال «داعش»، وعادت الفصائل من معارك التحرير «منتصرة». وتجاهل كثيرون «جواب» السيستاني على سؤال «الحشد الشعبي» بوصفه «النجفي» قوة لـ«حماية العراق»، وليس الشيعة وحدهم، فاختنق الشارع بسؤال: ماذا بعد؟ جاءت حكومة عادل عبد المهدي، في أكتوبر 2018، بديون متراكمة من الأسئلة المعلقة. بعد عام، في أكتوبر 2019، خرج آلاف من الشباب يحتجون على احتيالات السؤال الأول، بأثر رجعي.

تلقى المحتجون جواباً بالرصاص الحي، قُتل المئات، وخُطف آخرون وأُسكت البقية. قدم عبد المهدي للقاتل هدية «التبرئة» بوصفه «طرفاً ثالثاً»، ورحل. لاحقاً ملك سياسيون عراقيون شيئاً من شجاعة الاعتراف، وأزاحوا لثام الطرف الثالث عن وجه الفصائل الموالية.

حيلة «الطرف الثالث» طرحت سؤالاً عن الحد الفاصل بين الفصائل والحشد الشعبي، ومر دون اكتراث جواب حامد الخفاف، ممثل السيستاني في 12 سبتمبر 2019: «المرجع ينتظر تنفيذ قانون وأمر ديواني، بفك ارتباط منتسبي (الحشد) عن الأطر الحزبية، وهيكلة هذه القوة».

تشكلت حكومة مصطفى الكاظمي في مايو (أيار) 2020، بوصفها حلاً وسطاً بين سؤال البديل وجواب الطرف الثالث، لم تصمد تسوياته، ولم ينجُ به «رقصه مع الأفاعي»، فرحل هو الآخر، كما نزل مقتدى الصدر من المسرح، بعد دراما عنيفة في قلب المنطقة الخضراء.

عام 2022، غادر الجميع، وبقيت إيران تتوج نفسها في العراق، بوضع اليد على كل شيء؛ من الدولار إلى السلاح.

سؤال ما بعد الأسد

بعد ربع قرن من احتيال صدّام حسين وبدلائه على الأسئلة الكبرى، هرب بشار الأسد من دمشق. وبدا أن النخبة السياسية تتوجس من هذه المفارقة، رغم أنها تطفو على بِركة من الأسئلة. مع ذلك تحاصر كل من يسأل عن عراق ما بعد الأسد بالريبة والشك، لأن عراق ما بعد صدّام محسوم من دون حسم.

برتبك العراق -دولةً ونظاماً- في هذه اللحظة. مواجهة السؤال السوري تكشف عن الارتباك: هل ننتظر طهران لتتعامل مع أحمد الشرع، أم نسأل الجولاني عن ذكرياته في العراق؟

ذكريات العراقيين تحكم، أكثر من الدستور والحياة الحزبية والبرلمان والمجتمع المدني، لأنهم مثقلون بسداد ديون الأسئلة التي لا يجيبون عنها، وإذ يسألون: ماذا لو لم نكن في «محور المقاومة»؟ يستسهل كثيرون أجوبة فانتازية، فيما أيام العراق نفسها كانت لتجيب: عراق محاور، ينتظر حرباً، أو يشارك في رسم خرائطها.