الاستثمار الأساسي في المستقبل

ألمانيا خفضت ميزانيتها لكن زادت مخصصات الثقافة

الاستثمار الأساسي في المستقبل
TT

الاستثمار الأساسي في المستقبل

الاستثمار الأساسي في المستقبل

في عام 2013 خفّضت ألمانيا ميزانيتها العامة، ثم فاجأت الجميع بزيادة مخصصات الثقافة 8 في المائة، وقال وزير الثقافة الألماني حينئذٍ، بيرند نيومان، إن المبلغ ليس مجرد دعم «وإنما هو استثمار أساسي في مستقبل مجتمعنا». هذا في دولة تنفق 11 بليون يورو سنويًا على الثقافة والفنون، يأتي معظمها ليس من الحكومة الفيدرالية، وإنما من الولايات والبلديات. الوزيرة مونيكا غترز، مؤرخة الفنون التي تولت المنصب بعد نيومان، عبرت عن رؤيتها لدور الفنون التي تدعمها وزارتها بالقول إن «على الفن أن يغامر وأن يؤلم الناس بقدر ما يمتعهم، أي أن للفن دورًا مهمًا في بث الرؤية الواقعية والجادة للحياة وليس الرؤية الحالمة فحسب».
في أزمنة الأزمات الاقتصادية وشد الأحزمة سيبدو الحديث عن دعم للثقافة والفنون ضربًا من الترف الممجوج وإغراقًا في النخبوية الدون كيشوتية أو الحلم الطوباوي الذي ينبغي الصحو منه لمواجهة أسعار الوقود وفواتير الكهرباء. لكن ها هي أكبر دول أوروبا تفاجئنا بموقف مختلف، موقف لا يرى في الثقافة والفنون ترفًا، بل احتياجًا أساسيًا واستثمارًا في الإنسان. وقد يفاجأ البعض لو عرف أن من علمائنا الشرعيين من يرى ما يشبه ذلك.
الدور التأسيسي للفنون والآداب وعلاقتها بالواقع المعيش لم يكن ليتأتى لو كانت الثقافة مجرد نتاج نخبوي يأتي من أبراج عاجية، أو أن لا دور لها في التوعية والرقي بالأذواق والأفهام. بل إن من غير المتصور أن يكون هناك وعي ورقي دون ثقافة تغذيهما وتهذبهما بالفكر والشعر والقصة واللوحة والمقطوعة. الإنفاق على الثقافة إنفاق على الإنسان، والاستثمار فيها استثمار في المستقبل.
في البلاد العربية لم تصل الفنون بعد إلى ذلك المستوى الرفيع من التقدير، بل إن في تلك البلاد، ومنها المملكة العربية السعودية ودول الخليج، من ينظر إلى الفنون على أنها شبهة ومظنة للفساد، ولعل هذه هي النظرة السائدة. ولعلي أبالغ هنا، لأن من الفنون ما يحظى بالفعل باهتمام ورعاية واسعتين. تلك هي مع الأسف الفنون الأكثر سطحية وبعدًا عن تحقيق ما يتحدث عنه الوزير الألماني، وما سيشير إليه أحد علمائنا الكبار، أي الاستثمار في الإنسان. الأغاني السطحية بغرامياتها التي لا تنتهي وموسيقاها الهشة وأصواتها النشاز هي ما تحفل به أجهزة البث الإذاعي، التجاري بشكل خاص، في حين تبقى الفنون الرفيعة متوارية يحتفى بها في أماكن معزولة وبشكل موسمي. ولعل تلك من الأسباب التي جعلت الفنون الأرقى من تشكيل وموسيقى وأدب ومسرح وسينما محل شبهة وسوء ظن.
لكن ما الذي يقصده الوزير الألماني يا ترى بأن الفنون استثمار أساسي في الإنسان؟ إحدى الإجابات سنجدها عند أرسطو، الذي سماه العرب «المعلم الأول» ووصفوه بـ«الحكيم». ففي كتابه «فن الشعر» قال الحكيم اليوناني إن الناس تشاهد المسرح، لا سيما المأسوي منه، أو المؤلم كما وصفته الوزيرة الألمانية، لكي تحقق ما سماه «التطهر» (كاثارسيس باليونانية)، أي أن مشاهدة معاناة الإنسان على خشبة المسرح يجعل المشاهدين يتعاطفون مع الألم ويتطهرون من أي مشاعر تحول دون ذلك التعاطف. ثم جاء فيما بعد من الفلاسفة ودارسي الفنون ومؤرخيها، ليقولوا ما يشبه ذلك، حين رأوا أن تجربة المسرح ومعايشة الفنون بشكل عام قادرة على «أنسنة» الإنسان، أي تعميق شعوره بإنسانيته، بقيمته، بقوته وضعفه، طموحاته وفشله، حبه وكراهيته، إلى غير ذلك من صفات وقيم. صحيح أن من الفنون ما لا يفعل ذلك أو يفعله بدرجة متواضعة، لكن هذه طبيعة المنتج الإنساني في تفاوته واختلافه.
حين سئل الشيخ محمد الغزالي عن موقف الإسلام من الفنون كان رده: «الأصل للفن أنه وجدان مفتوح على الكون، إنه قلب اتسعت أقطاره لترى ما في الدنيا مما صنع الله فيها من جمال». ثم استشهد بقوله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون) (الأعراف: 32)، مضيفًا: «من غير شك، الفنون ينبغي أن يكون لها مجال في حياتنا، وألفت النظر إلى أن الإباحة هي الأصل في الكون (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا) (البقرة: 29). أنا أرى أنه من الممكن أن تتحول الفنون إلى عوامل بناء لا إلى عوامل هدم، وأنا أرفض أن يجيء إنسان فيفرض انسحابه من هذه الدنيا على الناس، ويقول لهم: اتركوا هذه الفنون، لا، لا أتركها، أنا أحولها إلى ما يخدم مبادئي وأهدافي».
هذا الرأي سبق أن ذكره سيد قطب قبل أن يتحول إلى التزمت والعنف. ذلك أنه بدأ حياته ناقدًا أدبيًا ومنافحًا عن الفنون، وبرز في ذلك بروزًا غير عادي (فإليه مثلاً ينسب اكتشاف موهبة نجيب محفوظ). يقول سيد قطب في كتاب بعنوان «مهمة الشاعر في الحياة»: «الشعر أحد الفنون الجميلة - أو (المثل الرفيعة) كما يسميها العرب - وأكبر مهمة لهذه الفنون جميعها أن تقوم واسطة بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، وأن تقربنا من المثل الأعلى، الذي نرنو إليه، كلما عز علينا بلوغه في عالم الحقيقة. وهي في كل صورها نزاعة إلى الكمال المنشود، وإن اختلفت طرائقها في هذا النزوع، فهي إذ تصور الخير ممحضًا خالصًا، تدعو إلى هذا الخير الممحض الخالص، وهي إذ تصور الشر خالصًا كذلك تدعو إلى الاشمئزاز منه وهجرانه. وهي تجنح في بعض الأحيان إلى تصوير الخير والشر يتنازعان، لكنها تشير إليك من طرف خفي، أن تأخذ بناصر الخير، ليفوز.. ».
هذه هي الرؤية المستنيرة التي يجب أن تعم في بلادنا وغير بلادنا تجاه الفنون الجميلة أو المثل الرفيعة، التي عرفها الغرب فوصفها بالاستثمار الأساسي في حياة الإنسان.

*عضو مجلس
الشورى السعودي



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟