«الجهاد الإسلامي» الفلسطينية.. السير وسط ألغام التناحرات الإقليمية

حاولت الحفاظ على مسافة واحدة من المختلفين لكن إيران وضعتها على المحك فخسرت الدعم المالي

شبان فلسطينيون يخضعون لدورة تدريبية في معسكر من تنظيم جماعة «الجهاد الإسلامي» في غزة (غيتي)
شبان فلسطينيون يخضعون لدورة تدريبية في معسكر من تنظيم جماعة «الجهاد الإسلامي» في غزة (غيتي)
TT

«الجهاد الإسلامي» الفلسطينية.. السير وسط ألغام التناحرات الإقليمية

شبان فلسطينيون يخضعون لدورة تدريبية في معسكر من تنظيم جماعة «الجهاد الإسلامي» في غزة (غيتي)
شبان فلسطينيون يخضعون لدورة تدريبية في معسكر من تنظيم جماعة «الجهاد الإسلامي» في غزة (غيتي)

بعد نحو 30 سنة على نشأة حركة «الجهاد الإسلامي» التي تعد واحدة من أبرز وأكبر 3 فصائل فلسطينية بعد حركتي فتح وحماس، تجد الحركة التي تستقطب الآلاف من الفلسطينيين ولديها جناح عسكري كبير، نفسها، في وسط أزمة مالية صعبة وخانقة وبلا مصادر تمويل بديلة أو حتى حلول في الآفاق. إذ لم تعتد الحركة خلال العقود الثلاثة الماضية على توقف أنبوب التمويل الذي كان يمتد من إيران إلى قطاع غزة، ما وضعها في موقف صعب أمام موظفيها وعناصرهم الذين لم يتلقوا سوى راتب شهر واحد من بين 6 شهور مستحقة، وهو ما يثير كثيرا من التساؤلات حول مستقبل الحركة في ظل المتغيرات الإقليمية الحالية التي باتت تخنق الحركات الفلسطينية التي لم تعط موقفا منحازا.

ربما كان اعتماد حركة «الجهاد الإسلامي» الفلسطينية على إيران فقط - أو أكثر من غيرها - بخلاف حركة حماس، أحد الأخطاء الذي تدفع الحركة ثمنه اليوم. إلا أن مصطفى إبراهيم، المحلّل السياسي والخبير في شؤون الحركات الفلسطينية والإسلامية، برّر هذه الاعتماد على إيران، بقوله: «هذه مشكلة الفلسطينيين عامة، ومن الصعب الحكم حول إن كانت الحركة أخطأت أم لا، فالثورة الفلسطينية في السابق وحتى الآن في موضوع تمويلها تقبع تحت ظل الواقع المعقّد إقليميًا وتخضع لحسابات التحالفات التي ترتبط بها. ولذا لم يكن هناك سبيل لـ(الجهاد) أو غيرها سوى إيران وسوريا اللتين قدمتا دعمًا سياسيًا. قضية الدعم كانت وما زالت معضلة تاريخية عانت منها الثورة سابقًا واليوم تعاني من الفصائل الإسلامية لأن مصادر التمويل شحيحة و(الجهاد) اضطرت للاعتماد على إيران إضافة إلى وجود رؤى سياسية مشتركة».
«الرؤى المشتركة»، التي يتحدث عنها إبراهيم، كانت حتى تفجّر الخلاف الشيعي - السنّي بشكل واضح لا يمكن تجاهله كما حدث في الأزمة السورية، حين وقفت فيها «الجهاد» بوضوح إلى جانب نظامي سوريا وإيران. ولكن مع بداية حرب التحالف العربي في اليمن ضد الحوثيين تغير كل شيء. فهنا لم تستطع «الجهاد» الخروج عن القاعدة السنّية التي تنتمي لها، فقطعت إيران التمويل مباشرة عن الحركة بعد رفضها إعلان موقف سياسي مناصر للحوثيين في اليمن أو مندّد بالتحالف، وتفاقم الأمر بعد رفض الحركة اتخاذ أي موقف بشأن الأزمة الإيرانية - السعودية الأخيرة.
مصادر قالت لـ«الشرق الأوسط» إن الإيرانيين بعد موقفي كل من الرئيس الفلسطيني محمود عباس وحركة حماس، اللذين أيدا «الشرعية» في اليمن، كانوا يتطلعون إلى موقف فلسطيني مناهض لحملة «عاصفة الحزم» ضد الحوثيين، وطلبوا من «الجهاد» تصدير موقف بذلك مشابه لموقف حزب الله اللبناني، لكن «الجهاد» رفضت. ثم ازداد الطين بلة مع خروج مسؤول من «الجهاد» ونفيه ما نشرته وسائل إعلام إيرانية عن أن الحركة تؤيد الحوثيين، مؤكدا بشدة عدم التدخل في شؤون أي بلد عربي. إذ فاجأ موقف قيادة «الجهاد» هذا الإيرانيين الذين كانوا يعتقدون أنه يمكن للحركة أن تقف إلى جانبها في كل شيء، على غرار الموقف الذي اتخذته الحركة من الأزمة السورية.
كما سبقت الإشارة، اتخذت حركة «الجهاد الإسلامي»، بخلاف حماس، موقفًا مساندًا لنظام بشار الأسد ورفضت مهاجمته أو إعلان تأييدها للثورة السورية، كما فعلت حماس. ويذكر أنه بعد رفض «الجهاد» تأييد إيران في خلافاتها مع السعودية واليمن اتخذت حماس موقفًا مماثلاً خلال الأيام الأخيرة. فلقد حسمت حركة حماس موقفها نهائيًا من عرض إيراني على الحركة تضمّن تطبيع العلاقات ودعمًا ماليًا مقابل دعم الحركة للموقف الإيراني في مواجهة المملكة العربية السعودية، وقررت رفضه. وقالت مصادر في حماس لـ«الشرق الأوسط» إن خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي للحركة «هو الذي رفض العرض الإيراني، وهو يرفض كذلك التقرب من إيران في ظل الظروف الحالية خشية أن يفسّر أي تقارب كأنه دعم لإيران في أزمتها ضد السعودية أو في ملفات أخرى في سوريا وغيرها».
على أي حال، رفضت حماس القيام بأي دعم علني لإيران على الرغم من الأزمة المالية الكبيرة التي تمر بها الحركة، والتي وصلت إلى حد فرض اقتطاعات كبيرة على رواتب موظفيها وعناصرها في قطاع غزة. لكن أزمة حماس تظل مختلفة عن أزمة «الجهاد الإسلامي»، إذ تحصل حماس على دعم مختلف من عدة مصدر منها قطر وتركيا، وكذلك من مؤسسات إسلامية كبيرة محسوبة على الإخوان المسلمين أو السنة.
أما على صعيد علاقة حماس بـ«الجهاد» فإنها الآن علاقة جيدة إلى حد كبير، وإن كانت مرّت بكثير من المد والجزر وتخللها خلافات، بل وحتى اشتباكات مسلحة؛ إذ تحاول الحركتان، اللتان تعتبران من أبرز معارضي السلطة الفلسطينية، الحفاظ على مستوى تنسيق عالٍ ووحدة موقف داخلي، على الأقل، بعدما لم تتوحد مواقفهم من الخارج. وفشلت محاولة جدية للاندماج بين الحركتين في 2009 بعد مشاورات طويلة.
للعلم، كانت الحركتان قد ناقشتا بجدية مسألة توحيد مؤسسات الحركتين، وتشكيل هيئة قيادية موحدة مختصة في الشأن السياسي لتوحيد مواقف الحركتين، يتبعها انضمام عناصر «الجهاد» إلى الوزارات المدنية التي تديرها حماس، وتفريغ مسلحيها إذا شاءوا في الأجهزة الأمنية، لكن تباعد الرؤى حال دون الاتفاقات. ويومذاك، لم تتأثر «الجهاد» كثيرًا بذلك، خصوصًا، أن الدعم المالي الإيراني كان متواصلاً على الحركتين.
ولكن «الجهاد» اليوم تعيش أزمة حقيقية من دون دعم إيراني ومن دون اندماج مع حماس ومن دون أن تكون محسوبة أو قريبة على السلطة الفلسطينية، ومن دون علاقات قوية مع قطر وتركيا (أي مصادر التمويل المتعددة التي تدفع اليوم للفصائل الفلسطينية). ويثير هذا الواقع تساؤلات كثيرة حول مستقبل الحركة، وإذا ما كانت مهدّدة مع توسّع الخلافات الإقليمية.
إبراهيم يقول إنه لا يتوقع قطيعة طويلة من إيران للحركات السنّية في فلسطين، مضيفا «هناك تحالف ودعم كبير من إيران، وهي لم تغيّر من سياساتها تجاه الحركات السنية في فلسطين، لذا من الصعب الحديث عن أن (الجهاد) ستذوب أو تتأثر في ظل المتغيرات الإقليمية الأزمة المالية الحادة». وتابع «الجهاد الإسلامي تنظيم لديه حضوره واتصالاته، وكما قال رئيس أركان الجيش الإسرائيلي غادي إيزنكوت: إيران لن تتخلى عن منطقة الشرق الأوسط، وخصوصا حزب الله وفي غزة حماس والجهاد». ويرى إبراهيم «أن لإيران مصالح مع الحركات السنية في فلسطين».
إيران في الحقيقة بحثت طويلاً عن موطئ قدم في فلسطين، ويتضح اليوم أنها كانت تريد فصائل تابعة لها في المواقف السياسية. وتشير متابعات «الشرق الأوسط» فعلاً إلى أن القيادة في طهران فعلا لا تنوي التخلي عن الساحة الفلسطينية، على الرغم من وقف تمويلها لـ«الجهاد» وحماس. كما تقول مصادر فلسطينية مطلعة إن إيران ما زالت تموّل جماعات فلسطينية صغيرة في قطاع غزة والضفة، إما بشكل مباشر وإما عبر تنظيم حزب الله. وأكدت المصادر أن إيران ساعدت على تأسيس حركة «الصابرين» في قطاع غزة التي يعتقد على نطاق واسع أنها تنظيم متشيِّع. ويمكن القول إن الحركة الجديدة - أي «الصابرين» - نجحت في استقطاب عناصر مختلفة وأغدقت الأموال على محتاجيها وشكّلت جناحًا عسكريًا خلال وقت قصير بنتيجة الدعم المالي الإيراني.
الواقع أن حركة «الصابرين»، التي أسّسها أحد عناصر «الجهاد» سابقًا، كانت من أسباب الخلاف بين إيران و«الجهاد»، ولا سيما عندما بدأت سلطات طهران تخفّض الدعم عن «الجهاد» وتزيده للحركة الجديدة. ولا يبدو راهنًا في الأفق أي حل للأزمة التي تمر بها «الجهاد»، بل ويتوقع أن تتفاقم لدى حماس، وحالها حال منظمة التحرير الفلسطينية إبان حرب الخليج حين فقدت كثيرا من الدعم المالي لها، وحال السلطة الفلسطينية التي تتأزم ماليًا كذلك مع تراجع الدعم الخارجي.
ويقول مسؤولون فلسطينيون إنه ليس أمام الكل الفلسطيني إلا أن يتوحّد للوصول إلى دولة فلسطينية تكون مظلة الجميع.. وإلا فإن التشتت بشقيه الإنساني والمالي سيستمر إلى ما لانهاية ويهدد استمرار أو قوة الفلسطينيين فصائل منفردة وسلطة وشعبا.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟