أليخاندرو غونزاليس إيناريتو يكشف أوراقًا جديدة حول «المنبعث»: لست مخرج أفلام عنف.. لكن

مقابلات («الشرق الأوسط») مع مرشحي الأوسكار

حين تسلمه جائزة غولدن غلوب عن فيلم «المنبعث»
حين تسلمه جائزة غولدن غلوب عن فيلم «المنبعث»
TT

أليخاندرو غونزاليس إيناريتو يكشف أوراقًا جديدة حول «المنبعث»: لست مخرج أفلام عنف.. لكن

حين تسلمه جائزة غولدن غلوب عن فيلم «المنبعث»
حين تسلمه جائزة غولدن غلوب عن فيلم «المنبعث»

إذا ما بقي الحال على ما هو عليه بالنسبة للمخرج أليخاندرو غونزاليس إيناريتو، فإن ذلك سيعني، فيما يعنيه، أننا سنلتقي به كل عام في مقابلة جديدة.
فقبل نحو عام واحد فقط، أجرينا مقابلة دارت، في مجملها، حول فيلم «بيردمان» الذي انتزع - بجدارة - أربع جوائز أوسكار هي أفضل فيلم وأفضل إخراج وأفضل كتابة وأفضل تصوير. الثلاث الأولى من نصيب المخرج إما منفردًا أو مع مجموعته من المنتجين والكتاب والرابعة نالها مدير تصويره المفضل إيمانويل لوبيزكي عن عمله في ذلك الفيلم.
حينها لم يفز أي من الممثلين المرشحين (ثلاثة) بالأوسكار، لا مايكل كيتون عن بطولته ولا إدوارد نورتون عن دوره المساند ولا إيما ستون عن دورها المساند.
هذا العام فيلمه الجديد «المنبعث» مرشّـح لاثنتي عشرة جائزة أوسكارا: أفضل فيلم وأفضل ممثل (ليوناردو ديكابريو) وأفضل ممثل في دور مساند (توم هاردي) وأفضل إخراج، وأفضل تصوير، وأفضل توليف (ستيفن ميريوني) والباقي موزع على التصاميم الفنية والتقنيات.
هل يفوز أليخاندرو بأوسكار أفضل إخراج؟ هل يفوز الفيلم بأوسكار عنوة عن الأفلام المنافسة كلها؟ ماذا عن الممثلين وعن الكتابة والتصوير؟
وُلد إيناريتو قبل 52 سنة في المكسيك وفيلمه الأول «الحب عاهرة» Amores Perros خطف جائزة أسبوع النقاد في مهرجان «كان» سنة 2000، ذلك الفيلم كان الأول في ثلاثية سمّاها المخرج بـ«ثلاثية أفلام الموت»، وشملت فيلمه التالي «21 غرامًا» (الفيلم الأميركي الأول له) و«بابل» (2003 و2006 على التوالي).
«المنبعث» هو فيلمه الروائي الطويل السادس (لديه أربعة قصيرة) وعلى كثرة تقديمه لم يعد هناك من مناسبة جديدة للحديث عنه سوى القول إنه أصعب أفلام إيناريتو بالنسبة لإيناريتو نفسه ولديكابريو ولفريقه من العاملين (نحو تسعين فردا دائما).
* على كثرة ما قيل عن صعوبة تصوير هذا الفيلم في الصحراء وبمواقف طبيعية خالية من خداع المؤثرات، لم يعد هناك موطئ قدم لسؤال آخر حول هذا الموضوع.
- إذا ما كان السؤال جديدًا أو مختلفًا لم لا؟ ما يزعجني هو ذلك الصحافي الذي قابلني يوم أمس وسألني السؤال ذاته لربع ساعة. كلما أجبته أراد معرفة تفاصيل أكثر.
* أريد أن أبدأ بما هو مختلف. قبل عام كنت تجري المقابلات الخاصّة بفيلمك السابق «بيردمان»، كيف تمكنت من إيجاد الوقت الكافي للانتقال إلى المواقع الطبيعية في ولاية ألبرتا ثم إلى شمالي الأرجنتين وتصوير فيلم ربما كان يتطلب سنة ونصف السنة من التصوير في مثل هذه الظروف؟
- السيناريو كان جاهزًا قبل البدء بتصوير «بيردمان». وقبل عام كنت بدأت تصوير «المنبعث» فعلاً. توقف العمل بضعة أسابيع ريثما نهتم بمواكبة «بيردمان» خلال هذه الفترة.
* شخصية هيو غلاس حقيقية لكن الفيلم لا يخبرنا من هو قبل بدء الأحداث. ما هي خلفيّته..
- هذا سببه أن كل ما هو معروف عنه هو أنه صيّاد برع في العشرينات من القرن التاسع عشر باقتفاء آثار الطرائد وصاحب صيّادين كثيرين إلى تلك البراري المجهولة والموحشة. السيناريو مأخوذ عن كتاب على نحو جزئي لأن الكتاب بدوره لا يملك الكثير من المعلومات عن غلاس. كل ما يملكه هو أن الدب هاجم غلاس وتركه جريحًا يقاوم الموت. أصحاب غلاس تركوه واثقين أنه سيموت لكنه لم يفعل أول ما استطاع الوقوف على قدميه مشى، وأحيانا زحف، قرابة 200 ميل لأقرب مستوطنة.
* إذن هناك الكثير مما لم يرد في الكتاب لكنك وشريكك في كتابة السيناريو أضفتماه.
- صحيح، لكننا بنينا كل شيء على هذه المعلومات المتوفرة، أقصد على الحادثة التي وقعت. كان لا بد من تزويد الفيلم بعناصر ملحمية وتكوين صورة واقعية لكيف يمكن لأي رجل، خصوصًا في ذلك الزمن، أن يصارع الموت ويبقى حيًا.
* لقد نفيت، كما قرأت، أن يكون الفيلم من نوع الوسترن. لماذا؟
- لا يملك العناصر التقليدية لذلك النوع. المسدسات على الوسط وحكايات البلدان ورعاة البقر. هناك التحدي والموت، لكن هذا يقع في كل أنواع الحكايات وكل أنواع الأفلام. إلى ذلك، راجعت تاريخ تلك الحقبة في الولايات الشمالية الأميركية على الحدود مع كندا، حيث وقعت الأحداث الفعلية ووجدت أنه لم يكن هناك ما يُطلق عليه «الغرب الأميركي». كان هناك المكسيكيون الذين حصلوا على الاستقلال حديثًا. كانت هناك قبائل هندية بالمئات وكان هناك مستوطنون أوروبيون. اصطياد الحيوانات لفرائها كان المصدر الأول للرزق.
* ماذا وجدت أيضًا؟
- عن تلك الفترة؟ الكثير. العنصرية كانت منتشرة في كل أرجاء الحياة في الولايات المتحدة وكندا والرق كذلك. الولايات المتحدة كانت تصدر كمية كبيرة من فراء الحيوانات إلى أوروبا لكي تباع للنساء اللاتي يردن ارتداء قبعات من الفرو. إذن للعودة إلى سؤالك الأول عن خلفية هذا الشخص.. لقد فكرت في أنني إذا ما منحته علاقة عائلية أو مصدرًا ما فإنني سأضع دوغلاس في إطار مختلف. حياة هؤلاء الصيادين كانت صعبة. غالبهم كان من النوع الذي ترك المدنية وترك الأهل والمجتمع وعاش طريدًا أو كما لو كان طريدًا.
* ماذا عن النساء في حياتهم؟
- النساء الوحيدات اللواتي كان الرجال يعاشروهن كن من الهنود الحمر. لكن ليس بغاية الاستقرار وفي كثير من الأحيان كان الرجال يخجلون من الانتماء حتى ولو أنجبوا من نساء القبائل. كثيرًا ما كانوا يغادرونهن إلى الأبد.
* كما بات معروفًا مشهد هجوم الدب على غلاس كما يؤديه ليوناردو (ديكابريو) لا بد كان من أصعب المشاهد التي صوّرتها. هل كان هناك خطر حقيقي على الممثل؟
- نعم. لكننا كنا أخذنا كل الاحتياطات الضرورية. كنا متأكدين أن الدب لن يقتل. سيعنّف وسيجرح لكنه لن يضر أو يؤذي ديكابريو مطلقًا. على ذلك، كنا مستعدين لكل الاحتمالات. لكني سعيد إذ قلت إنه واحد من أصعب المشاهد وليس أصعبها، لأنه، وبصراحة. كل مشهد كان صعبًا. الفيلم كله كان مليئًا بالتحديات.
* هل تعتبر فصل البداية الذي يتعرض فيه البيض لهجوم المواطنين الأميركيين (الهنود الحمر) الشديد من المشاهد الصعبة؟ يبدو لي ذلك لأن تصويره شاسع ومدّة حدوثه على الشاشة طويلة.
- كان هذا من المشاهد الصعبة في التنفيذ فعلاً. كان لدينا 200 شخص عليهم أن يتحركوا في آن واحد كل حسب موضعه. مهاجم أو مدافع. كان علينا تصوير المشاهد بكاميرا بعيدة وهذا أصعب من تنفيذ مشاهد قريبة لشخص أو شخصين. كان معنا نحو 200 عامل في الفيلم وراء الكاميرا متجمّعين كما لو أنهم لاجئون من غارة (يضحك).
* لماذا؟
- لأن التصوير على هذا المسرح الشاسع وقيام الكاميرا بمتابعة الممثلين سيكشف مكان وجودنا نحن إذا ما أخذنا الحيطة. كان علينا أن نتأكد من أننا لن نظهر خطأ في الفيلم. صورنا هذه المشاهد بعدسات واسعة جدًا. أنت كمشاهد ترى المشهد بعرض 180 درجة. لا مكان للاختباء.
* إذن كان ذلك عائدا إلى تصميم المشاهد حتى قبل تنفيذها.
- طبعًا. تدرّبنا لأسابيع طويلة لتصميم المشاهد وأسابيع أخرى لتصويرها لأننا كنا نستطيع التصوير في وقت محدد من النهار لكي نضمن الضوء الطبيعي والمناسب في شتاء تلك المنطقة. هذا لم يسمح لنا إلا نافذة من ساعة إلى ساعة ونصف من التصوير قبل أن نعود إلى الفندق استعدادًا لليوم التالي. لم يكن هناك أي فرصة ممكنة لكي نخطئ العمل. كل عليه أن يعرف حركته بالتفصيل والكاميرا عليها أن تتحرك ثلاث خطوات إلى هنا أو خطوتين إلى هناك. لم يكن مسموحًا بأي خطأ. كانت هناك ملايين الدولارات مصروفة على كل لقطة وكان العمل عليه أن يجري كالساعة. دخول الممثل إلى اللقطة محسوب بالثانية. يدخل. ينظر باحثًا. يخرج.. وكل شيء كان عليه أن يبقى حقيقيًا. طبيعيًا. كنا نعاني من البرد وصعوبة الحركة.
* الفيلم بأسره يجسد صعوبة تنفيذه. كثيرًا ما وجدت نفسي وأنا أشاهده أسأل عن العلاقة بين الممثل والحصان في مثل هذه الظروف.
- أخبرك شيئا: أن تضع الإنسان والحيوان في العمل كل يوم وفي مشاهد في تلك الظروف الصعبة ليس أمرًا هينًا. أقسم بأنه لم يكن هناك يوم عادي بالنسبة لنا. كان كل يوم هو يوم تحد.
كل يوم كان يمكن أن يحمل طارئًا ربما من الطبيعة، ربما من أحد العاملين. أي شيء كان ممكنًا لكننا كنا نراهن على أننا نستطيع.
* حين نقول إنك لم تعتمد كثيرًا على المؤثرات والخدع السينمائية والغرافيكية لا نقصد أن نقول إنك لم تعمد إليها مطلقًا، حتى في مشهد هجوم الدب على ليو.
- طبعًا. كان هناك حشد من التقنيين في مختلف فروع العمل، لكن لا شيء مما تم اتكل كليًا على الكومبيوتر غرافيكس، هذا لأني كنت مصرًا على تصوير الفيلم كما لو أننا في العصر ذاته ونحضر ما يدور من دون كاميرا ومن دون فريق عمل. هذا هو الواقع وهذا هو الطبيعي. كنت أقول دوما إن علينا أن نكون مخلصين في عملية تقديم الفيلم طبيعيًا كما لو أننا نصوّر حلقة لـ«ناشيونال غرافيك».
** المختلف والمتحدي
* ما الذي تريده من الجمهور عبر هذا الفيلم؟ أقصد هل هناك شيء تريد من الجمهور الخروج به كمفاد؟
- سؤال جيد. سمعت أن البعض قال إنني صنعت فيلما عنيفًا. هو بالفعل عنيف. أنا لست مخرج أفلام عنف في الأساس، لكن العنف هنا ضروري. كما لاحظت.. لا يوجد مشهد كان يمكن استبدال العنف بملعقة سكر. العنف هنا هو عنف الطبيعة والظروف والفترة من التاريخ. لا تستطيع أن تسرد الحكاية جيدًا إلا باستخدام كل مقوماتها الخاصّة. لكن لعل هذا هو المدخل الذي أقصد للجواب على سؤالك. هذا الفيلم عن رحلة محفوفة بالخطر في كل لحظة تبعًا للعصر الذي تقع فيه وللمكان الذي تقع فيه. نحن الآن نعيش حياة رغدة. نجلس على مقاعد وثيرة. نتواصل بالكومبيوتر وبكل أنواع التقنيات. ننتقل بالسيارات التي باتت كما لو أنها مصنوعة لتكون بديل البيت والمكتب معًا. لكن في ذلك الحين؟ الفيلم بالنسبة لي هو مجازي وأريد من الناس أن تخرج منه وهي تفكر في الحياة بين قطبيها: ذلك الحين واليوم.
* هذا الفيلم هو تجربة في العمل السينمائي لا يتكرر كثيرًا، وهذا ما يذكرني بفيلمك السابق «بيردمان»، كان بدوره تجربة خاصّة بصرية كما فكرية وذهنية. في الحقيقة أفلامك كلها مبنية على الاختلاف عن الأفلام الأخرى في أسلوب العرض وفي الصورة وتجاربها. كيف تضع تصوّرك لما تريد القيام به؟
- في نظري أن الكثير من الأفلام التي نراها على الشاشة الكبيرة ما هي إلا أفلام منفذة بتأثير تلفزيوني لتعرض على الشاشة الكبيرة. هل تعرف ما أقصد؟ أفلام مصنوعة للسينما بحس ومفهوم العمل للشاشة الصغيرة. في رأيي أن المخرج عليه أن يعمد إلى التحديات في كل ما يؤلف الفيلم في الكتابة وفي الإخراج وذلك سيدله على كيف يتحدّى المعمول به في التمثيل وفي الصورة. في كيفية تحويل القصّة إلى دراما. أحب للسينما أن تقدم أفلامًا.. سأبدأ من جديد. كل القصص تم تقديمها على الشاشة. المختلف والمثير للتحدي هو كيف يمكن تقديم الحكاية بأسلوب جديد يختلف عما سبق. الفيلم هو عبارة عن لحظة سينمائية يجب أن تكون تجربة للمشاهد. تجربة بالغة التميز بالنسبة له.
* ما الأفلام التي كنت تشاهدها صغيرًا؟ أي منها أثر فيك؟
- شاهدت كل شيء. وكل شيء أثر فيّ. وكما كنت سعيدًا حين كنت متفرجًا، أنا الآن سعيد في أن أصنع أفلامي لمن سيكون سعيدًا بمشاهدتها.
* إذا كان كل فيلم تحققه هو أصعب من قبله.. أين هي نقطة التوقف عن حد تقول معه إنه لم يعد هناك شيء جديد عليك؟
- كل مشروع عليه أن يأتي بصعوبته. أقول ذلك وأنا أفكر في أن رحلتي قد لا تعني أن كل فيلم عليه أن يكون مثل «المنبعث» في صعوبته، لكن عليه أن يكون نتيجة تحدياتي لنفسي. حتى أبسط أنواع الحكايات يمكن أن تستفيد من الصعوبة التي نخلقها لها. المهم ألا تنفّـذ كما نفذ سواها من قبل.
* ماذا تعني كلمة «منبعث» بالنسبة إليك؟
- تعني أنني «منبعث» من جديد كوني نجوت من تصوير هذا الفيلم (يضحك).



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)