قراءة جديدة في قصيدة «غريب على الخليج» لبدر شاكر السياب

صور تشبيهية مغايرة.. لكنها محببة

مشهد من الخليج.. وفي الإطار بدر شاكر السياب
مشهد من الخليج.. وفي الإطار بدر شاكر السياب
TT

قراءة جديدة في قصيدة «غريب على الخليج» لبدر شاكر السياب

مشهد من الخليج.. وفي الإطار بدر شاكر السياب
مشهد من الخليج.. وفي الإطار بدر شاكر السياب

في الرابع والعشرين من الشهر الماضي، مرت الذكرى الثانية والخمسون لرحيل رائد الشعر العربي الحديث بدر السياب، الذي مات وحيدا في الكويت عن ثمانية وثلاثين عاما. هنا قراءة في واحدة من أهم قصائده، وهي قصيدة «غريب على الخليج». هذه واحدة من روائع بدر شاكر السياب الشعرية، إنْ لم نقل من روائع الشعر العربي الحديث عمومًا. كتبها الشاعر الخالد سنة 1953 بعد شهر من انتفاضة عام 1952 في العراق. كتبها السياب، بعد فشل الانتفاضة، وهو مشرد يضرب في آفاق الغربة، هاربًا – من خوف – بعد مساهمته الفعالة – مواطنًا وشاعرًا - في تلك الانتفاضة. وقد حطَّ به رحْل الهروب، حينئذٍ، في إحدى دول الخليج العربي (الكويت)، مشردًا صفر اليدين، بعيدًا عن الديار وعن الأحبة. فلا غرابة، إذن، أن تطغى ظلال الغربة والضياع والأسى والحنين وما سوى ذلك من عناصر معنوية على أجواء هذه القصيدة التي وظف فيها السياب، توظيفًا ناجحًا، ضربين مميزين من الأضرب الكثيرة التي يحتويها بحر الكامل، هما «متفاعلان – المذيَّل» و«متفاعلاتن – المرفل»، بما ينطويان عليه من قيم موسيقية تثير في نفس المتلقي شتى الأحاسيس والانفعالات. هذا فضلاً عن العناصر المادية، من طبيعية تحيط بالمكان الذي تفجرت فيه عاطفة الشاعر بهذه القصيدة الفذة – كالبحر الذي هو «أوسع ما يكون»، والريح اللاهثة حينًا والصاخبة حينًا آخر، وقلوع السفائن التي «تظل تطوى أو تنشر للرحيل»، والرمال الخليجية التي جلس عليها الشاعر «الغريب»، مسرحًا بصره المحير وهادًّا أعمدة الضياء بنشيجه العالي، والعباب (معظم السيل) الهادر الرغو، والمد الصاعد، والموج المعول.. هذا ناهيك بالعناصر البشرية المتمثلة في الشاعر المشرد ذاته، وأولئك الرجال الحفاة العراة من جوابي البحار، الذين زحموا مياه الخليج بقلوع السفائن التي كانوا وما زالوا يكتدحون أُجَراء لأربابها ومالكيها المترفين.
وقد استطاع الشاعر أن يجسد عناصر الطبيعة تلك تجسيدًا ينبض بالحياة والحركة التي تتفجر عنهما شتى الأصوات التي تشكل الصور الشعرية المعبرة عن الأجواء المادية المحيطة بالمكان، من جهة، والمتغلغلة في ذات النفس البشرية – وفي مقدمتها نفس الشاعر المعبِّر -، من جهة أخرى. وقد استعان، في سبيل إبراز صوره الشعرية بأدوات التشبيه حينًا، لكي يقابل لوحة بأخرى، وباللجوء إلى الاستعارة، حينًا آخر، متخليًا – بذلك – عن استعمال الأدوات التشبيهية التي يخيل إلينا أنها قد طفحت عن الكيل، فأدرك الشاعر، أو تدارك، أنها قد توشك أن تفسد أجواء عمله الفني:
الريح كالجثام – الصوت المتفجر كالمد الصاعد، كالسحابة، كالدموع – باب كالقضاء - جوع كجوع كل دم الغريق إلى الهواء – الأرض كالأفق العريض – كأن كل دمي اشتهاء – بُقْيا النعاس كالحجاب من الحرير – الفرح الخفي كالضباب...
وقد يبدو بعض هذه الصور التشبيهية أو أغلبها غريبًا، لكنها غرابة محببة، سرعان ما يألفها المتلقي، لما تنطوي عليه من طرافة وجمال، لا سيما إذا ابتعدنا عن النظر الجزئي إلى طرفي التشبيه (المشبه والمشبه به) ونظرنا إلى العملية الإبداعية هنا نظرة شمولية – الألفاظ داخل النص الذي وردت فيه. ولنتمعن – مثلا – في إحدى هذه الصور التشبيهية التي تبدو غريبة أول وهلة: «باب كالقضاء» – بما يتولد عن التشبيه من صورة مرئية في أحد جانبيها ومتخيلة في جانبها الآخر - مادية ملموسة (باب) ومعنوية متصورة (القضاء)، الذي هو الحكم أو الموت. التشبيه يبدو غريبًا إذا ما استللناه من مجموع النص، كما نستل عضوًا من جسد متكامل.. لكن الغرابة ستزول إذا ما أعدناه إلى مكانه الطبيعي:

«ووراء بابٍ كالقضاءْ
قد أوصدته على النساءْ
أيدٍ تطاع بما تشاءُ، لأنها أيدي رجالْ..».
الباب إذن محكم الإغلاق قد أوصدته أيدي رجال شداد غلاظ.. هذا ما ترفدنا به الصورة التشبيهية المسوغة الغرابة حينما تطل علينا من داخل النص بكامله.
وثمة صورة تشبيهية أخرى مماثلة ذات حدين أحدهما (المشبه) مادي والآخر (المشبه به) معنوي: «كأن كل دمي اشتهاء».
وتنعكس الصورة في لوحات تشبيهية أخرى؛ إذ يجيء المشبه معنويًا، في حين يأتي المشبه به ماديًا، مثل: «بُقْيا النعاس كالحجاب من الحرير»، فالمشبه هنا (بقيا النعاس) معنوي، والمشبه به (الحجاب من الحرير) مادي. ومثل ذلك أيضًا: «الفرح الخفي كالضباب».
أما الصور المتولدة عن التشبيهات التي تخلى فيها الشاعر عن استعمال الأداة، لتحل الاستعارة فيها محل التشبيه حينًا، أو تبقى محتفظة بطرفي التشبيه، دون الأداة، حينًا آخر، فيمكن أن نورد لها الأمثلة الآتية: الريح تلهث – الريح تصرخ – الموج يعول – القرى المتهيبات – وجه أمي وصوتها المتزلقان مع الرؤى – العراق دورة أسطوانهْ – وهذه الدورة هي دورة الأفلاك من عمر الشاعر، وهي وجه أمه وصوتها، وهي النخيل، وهي المفلية العجوز... وتثير انتباهنا هذه الصور المتولدة عن دورة الأسطوانة بما تحمل من تداعيات تعود بالشاعر من ديار الغربة إلى أرض الوطن الحبيب وإلى عالم الطفولة البريئة والطبيعة العراقية الجنوبية بما تزدحم به من صور ولوحات مألوفة، مازجًا عالم الواقع المعيش بعالم الخيال النابض في حكايات العجائز:

بالأمس، حين مررت بالمقهى، سمعتك يا عراق..
وكنت دورة أسطوانهْ
هي دورة الأفلاك من عمري،
تكور لي زمانه
في لحظتين من الزمان، وإن تكن فقدت مكانه،
هي وجه أمي في الظلامِ
وصوتها، يتزلقان مع الرؤى حتى أنامْ
وهي النخيل أخاف منه إذا ادلهم مع الغروبِ
فاكتظ بالأشباح تخطف كل طفل لا يؤوبُ
من الدروبِ،
وهي المفلية العجوز وما توشوش عن «حِزام»
وكيف شق القبر عنه أمام «عفراء» الجميلهْ
فاحتازها.. إلا جديلة..
إن الصور تتلاحق في هذا المقطع ويأخذ بعضها بتلابيب البعض الآخر، حتى نصل إلى نهاية المطاف مع الأساطير المحيكة حول الشاعر العاشق عروة بن حزام وحبيبته الجميلة عفراء.
ويستمر الشاعر في عرض لوحاته التصويرية بأسلوب يمزج فيه بين عالمين: عالم الحلم المحكي، وعالم الواقع المرئي، فنشعر من خلال «دورة الأسطوانة» أن السياب بعيد غريب عنا، من جهة، وحاضر قريب منا، من جهة أخرى.. بعيد ماديًا بجسده، وقريب معنويًا بروحه، بأحاسيسه، وبذكرياته المتداعية من خلال «دورة الأسطوانة» إياها:

زهراء، أنتِ.. أتذكرينْ
تنورَنا الوهاج تزحمه أكف المصطلينْ؟
وحديث عمتي الخفيضَ عن الملوك الغابرين؟
ووراء بابٍ كالقضاءْ
قد أوصدته على النساءْ
أيد تطاع بما تشاء، لأنها أيدي رجالْ –
كان الرجال يعربدون ويسمرون بلا كلالْ
أفتذكرينَ؟ أتذكرينْ؟
سعداءَ كنا قانعينَ
بذلك القصص الحزين لأنه قصص النساءْ
حشد من الحيوات والأزمان كنا عنفوانَهْ
كنا مداريهِ اللذينِ ينال بينهما كيانَهْ
أفليس ذاك سوى هباءْ
حلمٌ ودورةُ أسطوانه؟!
وفي هذا المقتبس المبتدئ بكلمة «الأمس» والمنتهي بكلمة «أسطوانه» يبهرنا الشاعر بتدفق موسيقاه ذات الإيقاعات المتولدة من تكرار القوافي النونية خاصة، الساكنة المجردة، سواء الداخلية منها، الواقعة ضمن تفعيلات «الحشو»، أو الخارجية التي تشكل قافية تفعيلات «الأضرب»، أو تلك القوافي النونية غير المجردة، ولنقل «المزيدة» في مصطلح علم الصرف، مثل: أسطوانَهْ – زمانَهْ – مكانَهْ – عنفوانَهْ – كيانَهْ.
وتواجهنا مثيلات هذه النغمات الإيقاعية المتولدة من تكرار القوافي الداخلية والخارجية، على مدى المساحة التي شُيَّد فوقها صرحُ القصيدة؛ ففضلاً عن تكرار قوافي حرف النون، نلاحظ أيضا قوافي الكلمات: الخليج – عراق – الأجنبية – خطيه».



وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان
TT

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان

يحتلّ موقع سمهرم مكانة مميزة في خريطة «طريق اللبان» العُمانية التي دخلت عام 2000 في قائمة اليونيسكو الخاصة بمواقع التراث العالمي، وهي طريق البخور التي شكّلت في الماضي معبراً تجارياً دولياً ازدهر على مدى قرون من الزمن. بدأ استكشاف هذا الموقع في مطلع الخمسينات، وأدت أعمال التنقيب المتواصلة فيه إلى العثور على مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية، منها بضعة أنصاب حجرية مسطّحة تحمل نقشاً غائراً يمثّل وجهاً آدمياً مختزلاً، تقتصر ملامحه على عينين واسعتين وأنف مستطيل.

يضمّ موقع سمهرم مستوطنة أثرية تجاور خوراً من أخوار ساحل محافظة ظفار يقع في الجهة الشرقية من ولاية طاقة، يُعرف محليّاً باسم «خور روري». يعود الفضل في اكتشاف هذا الموقع إلى بعثة أميركية، أسّسها عام 1949 في واشنطن عالم الآثار وينديل فيليبس الذي لُقّب بـ«لورنس العرب الأميركي». شرعت هذه البعثة في إجراء أول حفريّة في «خور روري» خلال عام 1950، وواصلت عملها على مدى 3 سنوات، وكشفت عن مدينة لعبت دور ميناء دولي، عُرفت باسم سمهرم، كما تؤكد النقوش الكتابية المدونة بخط المُسنَد العربي الجنوبي. من بين أطلال هذه المدينة المندثرة، خرجت مجموعة من اللقى المتنوعة، منها 3 أنصاب حجرية مسطّحة زُيّن كلٌّ منها بنقش تصويري غائر طفيف يمثّل وجهاً آدمياً ذكورياً، كما يؤكّد الكشف العلمي الخاص بهذه البعثة.

عُثر على حجرين من هذه الحجارة على مقربة من أرضية مبنى من معالم سمهرم، وعُثر على ثالث على مقربة من المعبد الخاص بهذه المستوطنة، ممّا يوحي بأنه شكّل في الأصل جزءاً من أثاث هذا المعبد على الأرجح، كما رأى العالِم فرانك فيدياس أولبرايت في تقرير نُشر في عام 1953. استمرّت أعمال المسح والتنقيب في سمهرم، وتولّتها منذ عام 1997 بعثة إيطالية تابعة لجامعة بيزا، ومع هذه الأعمال، تمّ الكشف عن مجموعة أخرى من اللقى المتنوعة، منها 3 أنصاب حجرية مسطّحة مشابهة لتلك التي عثرت عليها البعثة الأميركية.

يتكرّر النقش التصويري على هذه الأنصاب التي احتار أهل الاختصاص في تحديد وظيفتها، ويتمثّل بوجه آدمي مجرّد هندسياً إلى أقصى حد. اختُزلت ملامح هذا الوجه بعينين لوزيّتين واسعتين، وأنف مستطيل رفيع. خلت هاتان العينان الفارغتان من حدقتيهما، كما غابت عنهما الرموش والحواجب، فظهرتا على شكل مساحتين بيضاويتين حُدّدتا بخط ناتئ رفيع وبسيط في وضعية المواجهة. كذلك، ظهر الأنف على شكل مثلّث عمودي طويل يحدّده خط مماثل. يعود هذا الوجه ويظهر على واجهة مجمّرة مخصّصة لحرق البخور، عثرت عليها البعثة الإيطالية خلال عام 2014، إلى جانب مجمّرتين تتبعان الطراز المألوف المجرّد من النقوش. ويتميّز هذا الوجه بظهور حاجبين مقوّسين يمتدان ويلتصقان عند أعلى مساحة الأنف المستطيلة.

خرجت من موقع سمهرم مجموعة كبيرة من المجامر والمباخر، غير أن هذا الوجه المجرّد لا يظهر على أي منها، كما أنه لا يظهر على أي من عشرات المجامر التي عُثر عليها في نواحٍ عدة من جزيرة العرب الشاسعة. في الواقع، يتبع هذا الوجه طرازاً ارتبط على نحوٍ واسع بشواهد القبور، وعُرف باسم «المسلّة ذات العينين». خرج العدد الأكبر من هذه المسلّات من محافظة الجوف التي تقع في الجزء الشمالي الشرقي من صنعاء، وخرج عدد آخر منها من وادي بهيان في محافظة حضرموت. تجاوز هذا الطراز حدود جنوب الجزيرة العربية، وبلغ شمالها حيث ظهر في واحة تيماء في منطقة تبوك، وقرية الفاو في الجنوب الغربي من الرياض، كما تؤكّد شواهده التي كشفت أعمال التنقيب عنها خلال العقود الماضية.

حمل هذا الطراز طابعاً جنائزياً لا لبس فيه، وتمثّلت خصوصيّته بهذا الوجه التجريدي الهندسي الذي ظهر على شواهد قبور فردية، كما تشير الكتابات المنقوشة التي تسمّي أصحاب تلك القبور. يصعب تأريخ هذه المسلّات بدقة، نظراً إلى غياب أي إشارة إلى تاريخها في الكتابات المرفقة، والأكيد أن هذا الطراز الجنائزي ظهر في القرن الثامن قبل الميلاد، وشاع على مدى 5 قرون. يحضر هذا الوجه في سمهرم، ويشهد هذا الحضور لدخوله إقليم عُمان في مرحلة تلت فترة انتشاره في جنوب الجزيرة وفي شمالها، فالدراسات المعاصرة تؤكد أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، وارتبط بمملكة حضرموت في زمن نشوء التجارة البحرية وازدهارها في المحيط الهندي، وظلّ ناشطاً حتى القرن الخامس للميلاد، حيث تضاءل دوره وتلاشى تدريجياً نتيجة اندحار مملكة حضرموت.

حضر هذا الوجه التجريدي في سمهرم حيث ظهر على عدد من المسلّات، وانطبع بشكل استثنائي على مجمرة تبدو نتيجة لذلك فريدة من نوعها إلى يومنا هذا. خرج هذا الوجه في هذا الموقع العُماني عن السياق الجنائزي الذي شكّل أساساً في جنوب جزيرة العرب، وحمل هُويّة وظائفية جديدة، وتحديد هذه الهوية بشكل جليّ لا يزال يمثّل لغزاً وتحدّياً للباحثين في ميدان الآثار العُمانية.