وادي بردى.. مصيف النظام السوري ومصدر قلقه

لعنة الجغرافيا طوقت المدنيين وجذبت العسكر.. وحصارها حرّك الأمم

وادي بردى.. مصيف النظام السوري ومصدر قلقه
TT

وادي بردى.. مصيف النظام السوري ومصدر قلقه

وادي بردى.. مصيف النظام السوري ومصدر قلقه

رفع حصار بلدة مضايا في ريف دمشق الغربي بسوريا، خلال الأسبوعين الماضيين، ملف بلدات وادي بردى الملاصق لحدود لبنان الشرقية إلى الضوء، ذلك أن الأهمية الاستراتيجية والحيوية لتلك المنطقة، وانعكاساتها على الأزمة السورية، دفعت بها إلى واجهة الأحداث منذ نحو 8 أشهر.
فبلدات منطقة وادي بردى، تعد من أولى المناطق التي رفعت صوت معارضتها لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، وطردت الزبداني، إحدى أكبر مدن وادي بردى وبلداته، سلطة القوات الحكومية في وقت مبكر من عام 2011، ودفعت ضريبة موقعها الجغرافي، ما حال دون الخروج منها، والبقاء أسيرة الضربات الجوية والمدفعية المتواصلة.

وادي بردى الذي تصدر قائمة المناطق السياحية السورية قبل الأزمة التي اندلعت في مارس (آذار) 2011، عانى طوال 5 سنوات من أزمات إنسانية كبيرة، على ضوء المعارك التي لم تهدأ، حتى الآن، وتصاعدت بعد دخول المنطقة في موقع المواجهة المباشرة والمؤلمة مع العاصمة السياسية لسوريا.
فقد اتخذت قوات المعارضة فيها قرارًا مهمًا بالمواجهة، تمثّل في قطع مياه الشفة عن دمشق، ردًا على حصار الغوطة الشرقية، عاصمة المعارضة السورية في الريف الدمشقي، فضلاً عن قطع الطريق الحيوي الوحيد لدمشق من الحدود اللبنانية، خلال إغارات وهجمات عسكرية أدت إلى إقفال منفذ النظام الوحيد إلى العالم الخارجي مع لبنان، وهو ما دفع السلطات إلى شن حرب واسعة، لتستعيد السيطرة على المنطقة.
ولعبت المعارضة في منطقة وادي بردى دورًا حيويًا في العمليات العسكرية، كونها وجهت للنظام ضربات مؤلمة، على الصعيدين السياسي والدبلوماسي، إلى جانب الضربة المتمثلة بقطع خطوط المياه التي تغذي دمشق، وتحديدًا نبع عين الفيجة الموجود في وادي بردى. حينها، شكل هذا الواقع تحديًا على النظام في عاصمته وضغوطًا ألزمته بالدخول في تسويات وصفقات، ليس أقلها الإفراج عن معتقلين مقابل إعادة تغذية العاصمة بالمياه.
تقع منطقة وادي بردى شمال غربي دمشق في سلسلة جبال لبنان الشرقية، وهي تبدأ من منطقة جديدة يابوس التي تتضمن المعبر البري السوري إلى لبنان عند نقطة المصنع، وتمتد شمالاً حتى سلسلة القلمون الغربي. وتتضمن عدة بلدات، أهمها الزبداني وبلودان وبقّين ومنين ومضايا. ويسكن الوادي أكثر من 200 ألف نسمة يعملون في القطاعات السياحية والزراعية والتهريب عبر الحدود اللبنانية.

* مركز سياحي وخزان مائي
هذه المنطقة المرتفعة تمثل الخزان المائي للعاصمة السورية، ومنفذها السياحي، وتتضمن الأنهار، بينها نهر بردى الذي ينبع في الجبال شمال غربي مدينة دمشق وعلى مقربة من الزبداني، ويسير بين الجبال متعرجا ناشرا في طريقه الخصب والطبيعة الجميلة وصولا إلى منطقة ربوة دمشق.
فضلاً عن ذلك، يسير في وادي بردى خط القطار التاريخي الذي يسمى «قطار المصايف»، حيث ينطلق خط القطار من دمشق عبر وادي بردى إلى الحدود اللبنانية وتحديدًا إلى رياق، وكان قد أنشأه العثمانيون في مطلع القرن العشرين، على أن تمتد شكة الحديد إلى حلب عبر الأراضي اللبنانية في البقاع في شرق لبنان، إلى حمص ثم حماه وحلب.
وتشكل منطقة وادي بردى أهم منطقة مصايف وسياحة في ريف دمشق حيث يوجد اعرق المصايف الدمشقية مثل دمّر والهامة وعين الخضرة وعين الفيجة، بجانب الكثير من مناطق السياحة الواقعة ضمن خط سير الوادي. هذه المنطقة، هي حقًا قلب المناطق السياحية في المحافظة، وتتناثر فيها المطاعم ومواقع النزهة والفنادق بين السلاسل الجبلية. وعلى جنبات الوادي بالذات يوجد الكثير من المصايف السورية العريقة وعشرات المطاعم والمقاهي والكازينوهات الفخمة من المعالم المهمة فيها مصيف بلودان الشهير المتربع على رأس الجبل، إضافة إلى الزبداني وبقّين الشهيرة بمياهها الصحية.
تعتبر المنطقة الملاصقة للحدود اللبنانية امتدادًا للقلمون الغربي، والزبداني جزء منها. هذا الامتداد يكتنف أربع أهميات استراتيحية. الأولى تتمثل في أنها المنطقة الفاصلة بين لبنان ودمشق، وبالتالي منفذ دمشق إلى العالم في ظل الحرب الدائرة في الأراضي السورية، بينما تتمثل الأهمية الثانية بأن محيط منطقة وادي بردى، يتضمن القطع العسكرية الحساسة التابعة للجيش السوري، كونها تعد خط الدفاع الأخير عن دمشق في وجه أي حرب خارجية. وتنتشر تلك القطع في يعفور والديماس، فضلاً عن أنها تتضمن مساكن الضباط وقصور ومقرات إقامة صيفية لأركان النظام.
الأهمية الثالثة تتمثل في أن المنطقة تمتاز بتضاريس مميزة، وهي عبارة عن سلاسل جبلية، استفادت منها المعارضة خلال العمليات العسكرية ضد القوات النظامية، ولا تزال تشكل خطرًا على القوات النظامية، كون الطرقات إليها مكشوفة من جميع النواحي. أما الأهمية الرابعة فتتمثل في أنها تسقي دمشق مياه الشفة، انطلاقًا من نبع عين الفيجة.

* بعد الحرب
تلك الميزات تلاشت بعد بدء الأزمة السورية. خرجت الزبداني عن سلطة النظام، لتكون «أولى المدن السورية المحررة من سيطرة النظام في لعام 2011»، كما يقول عضو مجلس قيادة الثورة في ريف دمشق إسماعيل الداراني لـ«الشرق الأوسط»، مشيرًا إلى أن الأهمية العسكرية برزت منذ اليوم الأول لانطلاق العمليات العسكرية في سوريا. ويضيف الداراني: «كان صعبًا على النظام اقتحامها، كونها عبارة عن أودية وجبال، والطرقات التي تصل إليها مكشوفة. حاول النظام حسم المعركة، لكنه لم يستطع. وعليه، ذهب إلى محاولة التوصل إلى اتفاقات».
تدخل الجيش السوري النظامي بقصف مدفعي استمر حتى منتصف يناير (كانون الثاني) من عام 2012، حيث جرت معركة الزبداني بين «كتائب حمزة بن عبد المطلب» التابعة للجيش السوري الحر في مقابل نحو 30 ألفا من الجيش السوري النظامي مدعومين بـ50 دبابة و9 قطع مدفعيّة، بحسب ما ذكر «المرصد السوري لحقوق الإنسان».
ثماني محاولات هي أعداد الاتفاقات التي حاول النظام إبرامها مع السكان، أسوة باتفاقات عقدها في ريف دمشق، لكنها كانت تنتهي بالفشل، ذلك أن حصارها كان مستحيلاً بالنظر إلى طبيعتها الجغرافية، وامتدادها الحيوي إلى القلمون الغربي. وهدد الجيش الحر الذي كان يسيطر على المدينة، الجيش النظامي باستهداف مواقع استراتيجية وعسكرية هامّة للنظام منها معسكر بردى وأماكن الكهرباء والماء. وانتهت المعركة في عام 2014 باتفاق بين الجيشين بالانسحاب من أبواب البلدة حقنًا للدماء وفرصةً لعودة أهالي المدينة، إلا أن كلا الطرفين كان يريد السيطرة على البلدة لاعتبارها هامة استراتيجيًا.
ومع أن عدد السكان كان 100 ألف نسمة قبل الأزمة، فإنه تضاءل بعد الهجمات العسكرية النظامية إلى أقل من النصف، واصلوا نزوحهم باتجاه بلدات أخرى في منطقة وادي بردى، حتى تقلص إلى أقل من 20 ألفًا قبل الهجوم الأخير على الزبداني.
إثر الفشل العسكري استعان النظام بقوات من حزب الله اللبناني التي بدأت معركة واسعة في الزبداني في يوليو (تموز) الماضي، أسفرت عن السيطرة على نحو 80 في المائة من المدينة، بعد نزوح سكانها باتجاه بلدة مضايا. وفي رد على هذا الهجوم، ضيق مقاتلو الفصائل الخناق على الفوعة وكفريا اللتين يعيش فيهما مواطنون شيعة في محافظة إدلب بشمال سوريا. وتمكن ائتلاف فصائل «جيش الفتح» من السيطرة على محافظة إدلب بالكامل الصيف الماضي باستثناء هاتين البلدتين اللتين تدافع عنهما ميليشيات موالية للنظام.
وتوصلت قوات النظام والفصائل المقاتلة إلى اتفاق في 24 سبتمبر (أيلول) بإشراف الأمم المتحدة يشمل في مرحلته الأولى وقفا لإطلاق النار في المناطق الثلاث ومن ثم إدخال مساعدات إنسانية. ونصت المرحلة الثانية على السماح بخروج الجرحى والمدنيين من المناطق الثلاث على أن يبدأ بعدها تطبيق هدنة لستة أشهر.
الموقع الجغرافي الهام للزبداني كان السبب الأبرز في تدخل حزب الله اللبناني للسيطرة على الزبداني. فهي تمثل نقطة تماس مع منفذ النظام الوحيد إلى العالم عبر الحدود اللبنانية، بعد توقف عدد كبير من الطائرات المدنية عن الهبوط في مطار دمشق الدولي، في حين يعد مطار اللاذقية صغيرًا وبعيدًا، ويستخدم أيضًا لأغراض عسكرية. وبالتالي، يشكل المقاتلون فيها خطرًا على العاصمة السورية التي يحاول النظام تأمينها.
هذا، ويشكل المقاتلون في الزبداني تهديدًا لبيئة حزب الله على الجانب اللبناني من الحدود، بالنظر إلى أن القرى والبلدات اللبنانية الواقعة خلف الحدود، تسكنها أغلبية شيعية مؤيدة لحزب الله، وهو ما دفعه للتدخل، استكمالاً لخطة سابقة وضعها بالسيطرة على المناطق السورية الحدودية مع لبنان وتعزيز دور القوات الحكومية فيها.

* محنة المدنيين
ولم تنحصر انعكاسات الموقع الجغرافي لبلدات وادي بردى على السياق العسكري، فالتماس مع قرى حدودية لبنانية مؤيدة للنظام السوري، ضاعف المصاعب أمام المدنيين فيها من الخروج منها، وألزمهم بإجراء عمليات نزوح داخلية بين القرى والبلدات الواقعة في منطقة وادي بردى، بسبب صعوبة الانتقال إلى معقل النظام في العاصمة السورية.
يقول الداراني إن هذه المناطق «لم تشهد هجرة إلى خارجها، بل نزوحًا من مدينة إلى أخرى، لأن المناطق كانت آمنة، فيما تتضاعف المصاعب أمام النزوح باتجاه لبنان بسبب غياب الظروف المهيئة». وأشار إلى أن البقاء في منطقة مشتعلة عسكريًا «ضاعف أعداد (الشهداء) المدنيين فيها، وتم اعتقال أفراد من المنطقة، وتم اعتقال نساء وأطلق سراحهم».
ميزة الزبداني، وريف دمشق عمومًا، بحسب ما يقول الداراني، أن الثوار فيها «لم يكونوا متشددين. تشكيلاتها من أبناء المناطق، ولم ينضوِ معظمهم في تيارات متشددة»، لافتًا إلى أن «مدينة الزبداني منذ بداية الثورة تشكلت فيها تشكيلات عسكرية وضباط منشقون، لذلك كانت نقطة ارتكاز للجيش الحر في القلمون الغربي وريف دمشق». ويوضح أن دورها «لم يقل أهمية عن دور يبرود التي كانت نقطة عبور ونقل السلاح في القلمون ريف دمشق».
اتسمت علاقة أهالي منطقة وادي بردى مع جيرانهم اللبنانية، بعلاقات اقتصادية قائمة على التهريب، إضافة إلى الزيجات المتبادلة والمصاهرة. وتحولت المناطق الحدودية إلى منصات لتهريب المحروقات والسجائر، فضلاً عن البضائع اللبنانية المهربة. ويقول ناشطون في مضايا إن البلدة «كانت قبل الثورة تتضمن أكثر من 90 نقطة تهريب عبر الحدود اللبنانية، وكنت تجد البضائع الأجنبية من ملابس وأحذية وغيرها في البلدة، حتى باتت مقصدًا للبضائع المهربة وسوقا مفتوحة للباحثين عن البضائع الأوروبية».
خرجت الزبداني من المعادلة بعد العملية العسكرية لحزب الله، التي أفضت إلى اتفاق، نفذ جزآن منه، خلال الأشهر الثلاثة الماضية، كان آخرها في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، حيث أخرج الجرحى من البلدة، مقابل إخراج الجرحى من كفريا والفوعة الشيعيتين في شمال البلاد. وبعدها، ظهرت أزمة النازحين في مضايا، ومعظمهم من سكان الزبداني، إثر الحصار الخانق الذي نفذته القوات الحكومية السورية على البلدة، ما تسبب بتفاقم الوضع الإنساني في البلدة السورية.

* معاناة مضايا
مضايا اليوم تؤوي بقي أكثر من 15 ألف نسمة من سكانها، بالإضافة إلى آلاف النازحين من الزبداني، وتقول تقارير للأمم المتحدة إن أعداد كل من في المدينة نحو 42 ألف شخص، عرضة للموت نتيجة نقص الغذاء أو التدهور الصحي نتيجة نقص الأدوية، حيث تحولت أجساد سكان المدينة إلى هياكل عظمية يكسوها الجلد، كما اضطروا إلى أكل الحشائش وأوراق الشجر. وتحاصر المدينة بحواجز عسكرية وبنحو 6 آلاف لغم أرضي، يمنع السكان من الخروج، وأدى تدخل الأمم المتحدة مطلع الأسبوع الحالي إلى إدخال قافلتي مساعدات إغاثية.
وبعد الاستنكار الدولي الذي أثاره الوضع الإنساني في مضايا، وافقت السلطات السورية قبل أسبوع على السماح بدخول قافلة أولى من 44 شاحنة الاثنين نقلت مساعدات إنسانية إلى البلدة التي يقطن فيها حاليا 42 ألف نسمة، بحسب الأمم المتحدة.
وكانت الأمم المتحدة، قالت الثلاثاء الماضي، إن المعاناة في مضايا «لا تقارن» بكل ما شهدته طواقم العمل الإنساني في باقي سوريا. وقال ممثل رئيس المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة سجاد مالك في مؤتمر عبر دائرة الفيديو من دمشق «ما رأيناه مروع، لم تكن هناك حياة. كل شيء كان هادئا للغاية. تقول تقارير جديرة بالمصداقية إن عددا من الأشخاص قضوا جوعا»، مضيفا: «ما رأيناه في مضايا لا يقارن (..) بمناطق أخرى من سوريا». وأبدى «هوله» لما رآه موضحًا أن «الأطفال كانوا يقتاتون من أعشاب يقتلعونها من أجل البقاء على قيد الحياة وأنه لم يعد لديهم ما يأكلونه سوى الماء الممزوج بالتوابل».
وتمكنت الأمم المتحدة والمنظمات الشريكة الاثنين من إدخال 44 شاحنة محملة بالمساعدات الغذائية والطبية إلى بلدة مضايا التي تحاصرها قوات النظام بشكل محكم منذ ستة أشهر. وقال مالك إنه من المقرر دخول قوافل أخرى في الأيام المقبلة. وحذرت الأمم المتحدة بأن 300 إلى 400 شخص بحاجة إلى مساعدة طبية عاجلة.

* الأهمية السياحية لمنطقة وادي بردى
تتضمن منطقة وادي بردى أبرز المواقع السياحية في ريف دمشق، تتوزع على الربوة والزبداني وبلودان. وتعتبر الربوة، منطقة طبيعية تقع في وادي بردى في الجهة الغربية لمدينة دمشق، حيث تؤلف واحة طبيعية تملؤها المطاعم والمتنزهات الصيفية والشتوية.
أما الزبداني، فهي منطقة جبلية في ريف دمشق من أهم المصايف تحولت هذه البلدة إلى مدينة سياحية نموذجية. وتبعد نحو 45 كيلومترا إلى الشمال الغربي من دمشق وترتفع عن سطح البحر 1175 مترا وتشرف المدينة على سهل ومتسع جميل بزرع بالأشجار المثمرة الجبلية وحولها أهلها إلى منتجع حقيقي بسبب بنائهم للبيوت بشكل قصور وفيلات سياحية ويزورها عدد كبير من السائحين العرب سنويا.
وأما بلودان، فهي أعلى مناطق وادي بردى، وتقع على مرتفع شاهق وبارد، وتبعد 55 كيلومترا عن دمشق إلى الغرب أيضًا، وترتفع 1500 متر عن سطح البحر. وتحقق خدماتها السياحية رغبة زائرها، فتوجد فيها مطاعم وفنادق من الدرجة الممتازة شهد بعضها مؤتمرات عربية ودولية تاريخية.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.