وادي بردى.. مصيف النظام السوري ومصدر قلقه

لعنة الجغرافيا طوقت المدنيين وجذبت العسكر.. وحصارها حرّك الأمم

وادي بردى.. مصيف النظام السوري ومصدر قلقه
TT

وادي بردى.. مصيف النظام السوري ومصدر قلقه

وادي بردى.. مصيف النظام السوري ومصدر قلقه

رفع حصار بلدة مضايا في ريف دمشق الغربي بسوريا، خلال الأسبوعين الماضيين، ملف بلدات وادي بردى الملاصق لحدود لبنان الشرقية إلى الضوء، ذلك أن الأهمية الاستراتيجية والحيوية لتلك المنطقة، وانعكاساتها على الأزمة السورية، دفعت بها إلى واجهة الأحداث منذ نحو 8 أشهر.
فبلدات منطقة وادي بردى، تعد من أولى المناطق التي رفعت صوت معارضتها لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، وطردت الزبداني، إحدى أكبر مدن وادي بردى وبلداته، سلطة القوات الحكومية في وقت مبكر من عام 2011، ودفعت ضريبة موقعها الجغرافي، ما حال دون الخروج منها، والبقاء أسيرة الضربات الجوية والمدفعية المتواصلة.

وادي بردى الذي تصدر قائمة المناطق السياحية السورية قبل الأزمة التي اندلعت في مارس (آذار) 2011، عانى طوال 5 سنوات من أزمات إنسانية كبيرة، على ضوء المعارك التي لم تهدأ، حتى الآن، وتصاعدت بعد دخول المنطقة في موقع المواجهة المباشرة والمؤلمة مع العاصمة السياسية لسوريا.
فقد اتخذت قوات المعارضة فيها قرارًا مهمًا بالمواجهة، تمثّل في قطع مياه الشفة عن دمشق، ردًا على حصار الغوطة الشرقية، عاصمة المعارضة السورية في الريف الدمشقي، فضلاً عن قطع الطريق الحيوي الوحيد لدمشق من الحدود اللبنانية، خلال إغارات وهجمات عسكرية أدت إلى إقفال منفذ النظام الوحيد إلى العالم الخارجي مع لبنان، وهو ما دفع السلطات إلى شن حرب واسعة، لتستعيد السيطرة على المنطقة.
ولعبت المعارضة في منطقة وادي بردى دورًا حيويًا في العمليات العسكرية، كونها وجهت للنظام ضربات مؤلمة، على الصعيدين السياسي والدبلوماسي، إلى جانب الضربة المتمثلة بقطع خطوط المياه التي تغذي دمشق، وتحديدًا نبع عين الفيجة الموجود في وادي بردى. حينها، شكل هذا الواقع تحديًا على النظام في عاصمته وضغوطًا ألزمته بالدخول في تسويات وصفقات، ليس أقلها الإفراج عن معتقلين مقابل إعادة تغذية العاصمة بالمياه.
تقع منطقة وادي بردى شمال غربي دمشق في سلسلة جبال لبنان الشرقية، وهي تبدأ من منطقة جديدة يابوس التي تتضمن المعبر البري السوري إلى لبنان عند نقطة المصنع، وتمتد شمالاً حتى سلسلة القلمون الغربي. وتتضمن عدة بلدات، أهمها الزبداني وبلودان وبقّين ومنين ومضايا. ويسكن الوادي أكثر من 200 ألف نسمة يعملون في القطاعات السياحية والزراعية والتهريب عبر الحدود اللبنانية.

* مركز سياحي وخزان مائي
هذه المنطقة المرتفعة تمثل الخزان المائي للعاصمة السورية، ومنفذها السياحي، وتتضمن الأنهار، بينها نهر بردى الذي ينبع في الجبال شمال غربي مدينة دمشق وعلى مقربة من الزبداني، ويسير بين الجبال متعرجا ناشرا في طريقه الخصب والطبيعة الجميلة وصولا إلى منطقة ربوة دمشق.
فضلاً عن ذلك، يسير في وادي بردى خط القطار التاريخي الذي يسمى «قطار المصايف»، حيث ينطلق خط القطار من دمشق عبر وادي بردى إلى الحدود اللبنانية وتحديدًا إلى رياق، وكان قد أنشأه العثمانيون في مطلع القرن العشرين، على أن تمتد شكة الحديد إلى حلب عبر الأراضي اللبنانية في البقاع في شرق لبنان، إلى حمص ثم حماه وحلب.
وتشكل منطقة وادي بردى أهم منطقة مصايف وسياحة في ريف دمشق حيث يوجد اعرق المصايف الدمشقية مثل دمّر والهامة وعين الخضرة وعين الفيجة، بجانب الكثير من مناطق السياحة الواقعة ضمن خط سير الوادي. هذه المنطقة، هي حقًا قلب المناطق السياحية في المحافظة، وتتناثر فيها المطاعم ومواقع النزهة والفنادق بين السلاسل الجبلية. وعلى جنبات الوادي بالذات يوجد الكثير من المصايف السورية العريقة وعشرات المطاعم والمقاهي والكازينوهات الفخمة من المعالم المهمة فيها مصيف بلودان الشهير المتربع على رأس الجبل، إضافة إلى الزبداني وبقّين الشهيرة بمياهها الصحية.
تعتبر المنطقة الملاصقة للحدود اللبنانية امتدادًا للقلمون الغربي، والزبداني جزء منها. هذا الامتداد يكتنف أربع أهميات استراتيحية. الأولى تتمثل في أنها المنطقة الفاصلة بين لبنان ودمشق، وبالتالي منفذ دمشق إلى العالم في ظل الحرب الدائرة في الأراضي السورية، بينما تتمثل الأهمية الثانية بأن محيط منطقة وادي بردى، يتضمن القطع العسكرية الحساسة التابعة للجيش السوري، كونها تعد خط الدفاع الأخير عن دمشق في وجه أي حرب خارجية. وتنتشر تلك القطع في يعفور والديماس، فضلاً عن أنها تتضمن مساكن الضباط وقصور ومقرات إقامة صيفية لأركان النظام.
الأهمية الثالثة تتمثل في أن المنطقة تمتاز بتضاريس مميزة، وهي عبارة عن سلاسل جبلية، استفادت منها المعارضة خلال العمليات العسكرية ضد القوات النظامية، ولا تزال تشكل خطرًا على القوات النظامية، كون الطرقات إليها مكشوفة من جميع النواحي. أما الأهمية الرابعة فتتمثل في أنها تسقي دمشق مياه الشفة، انطلاقًا من نبع عين الفيجة.

* بعد الحرب
تلك الميزات تلاشت بعد بدء الأزمة السورية. خرجت الزبداني عن سلطة النظام، لتكون «أولى المدن السورية المحررة من سيطرة النظام في لعام 2011»، كما يقول عضو مجلس قيادة الثورة في ريف دمشق إسماعيل الداراني لـ«الشرق الأوسط»، مشيرًا إلى أن الأهمية العسكرية برزت منذ اليوم الأول لانطلاق العمليات العسكرية في سوريا. ويضيف الداراني: «كان صعبًا على النظام اقتحامها، كونها عبارة عن أودية وجبال، والطرقات التي تصل إليها مكشوفة. حاول النظام حسم المعركة، لكنه لم يستطع. وعليه، ذهب إلى محاولة التوصل إلى اتفاقات».
تدخل الجيش السوري النظامي بقصف مدفعي استمر حتى منتصف يناير (كانون الثاني) من عام 2012، حيث جرت معركة الزبداني بين «كتائب حمزة بن عبد المطلب» التابعة للجيش السوري الحر في مقابل نحو 30 ألفا من الجيش السوري النظامي مدعومين بـ50 دبابة و9 قطع مدفعيّة، بحسب ما ذكر «المرصد السوري لحقوق الإنسان».
ثماني محاولات هي أعداد الاتفاقات التي حاول النظام إبرامها مع السكان، أسوة باتفاقات عقدها في ريف دمشق، لكنها كانت تنتهي بالفشل، ذلك أن حصارها كان مستحيلاً بالنظر إلى طبيعتها الجغرافية، وامتدادها الحيوي إلى القلمون الغربي. وهدد الجيش الحر الذي كان يسيطر على المدينة، الجيش النظامي باستهداف مواقع استراتيجية وعسكرية هامّة للنظام منها معسكر بردى وأماكن الكهرباء والماء. وانتهت المعركة في عام 2014 باتفاق بين الجيشين بالانسحاب من أبواب البلدة حقنًا للدماء وفرصةً لعودة أهالي المدينة، إلا أن كلا الطرفين كان يريد السيطرة على البلدة لاعتبارها هامة استراتيجيًا.
ومع أن عدد السكان كان 100 ألف نسمة قبل الأزمة، فإنه تضاءل بعد الهجمات العسكرية النظامية إلى أقل من النصف، واصلوا نزوحهم باتجاه بلدات أخرى في منطقة وادي بردى، حتى تقلص إلى أقل من 20 ألفًا قبل الهجوم الأخير على الزبداني.
إثر الفشل العسكري استعان النظام بقوات من حزب الله اللبناني التي بدأت معركة واسعة في الزبداني في يوليو (تموز) الماضي، أسفرت عن السيطرة على نحو 80 في المائة من المدينة، بعد نزوح سكانها باتجاه بلدة مضايا. وفي رد على هذا الهجوم، ضيق مقاتلو الفصائل الخناق على الفوعة وكفريا اللتين يعيش فيهما مواطنون شيعة في محافظة إدلب بشمال سوريا. وتمكن ائتلاف فصائل «جيش الفتح» من السيطرة على محافظة إدلب بالكامل الصيف الماضي باستثناء هاتين البلدتين اللتين تدافع عنهما ميليشيات موالية للنظام.
وتوصلت قوات النظام والفصائل المقاتلة إلى اتفاق في 24 سبتمبر (أيلول) بإشراف الأمم المتحدة يشمل في مرحلته الأولى وقفا لإطلاق النار في المناطق الثلاث ومن ثم إدخال مساعدات إنسانية. ونصت المرحلة الثانية على السماح بخروج الجرحى والمدنيين من المناطق الثلاث على أن يبدأ بعدها تطبيق هدنة لستة أشهر.
الموقع الجغرافي الهام للزبداني كان السبب الأبرز في تدخل حزب الله اللبناني للسيطرة على الزبداني. فهي تمثل نقطة تماس مع منفذ النظام الوحيد إلى العالم عبر الحدود اللبنانية، بعد توقف عدد كبير من الطائرات المدنية عن الهبوط في مطار دمشق الدولي، في حين يعد مطار اللاذقية صغيرًا وبعيدًا، ويستخدم أيضًا لأغراض عسكرية. وبالتالي، يشكل المقاتلون فيها خطرًا على العاصمة السورية التي يحاول النظام تأمينها.
هذا، ويشكل المقاتلون في الزبداني تهديدًا لبيئة حزب الله على الجانب اللبناني من الحدود، بالنظر إلى أن القرى والبلدات اللبنانية الواقعة خلف الحدود، تسكنها أغلبية شيعية مؤيدة لحزب الله، وهو ما دفعه للتدخل، استكمالاً لخطة سابقة وضعها بالسيطرة على المناطق السورية الحدودية مع لبنان وتعزيز دور القوات الحكومية فيها.

* محنة المدنيين
ولم تنحصر انعكاسات الموقع الجغرافي لبلدات وادي بردى على السياق العسكري، فالتماس مع قرى حدودية لبنانية مؤيدة للنظام السوري، ضاعف المصاعب أمام المدنيين فيها من الخروج منها، وألزمهم بإجراء عمليات نزوح داخلية بين القرى والبلدات الواقعة في منطقة وادي بردى، بسبب صعوبة الانتقال إلى معقل النظام في العاصمة السورية.
يقول الداراني إن هذه المناطق «لم تشهد هجرة إلى خارجها، بل نزوحًا من مدينة إلى أخرى، لأن المناطق كانت آمنة، فيما تتضاعف المصاعب أمام النزوح باتجاه لبنان بسبب غياب الظروف المهيئة». وأشار إلى أن البقاء في منطقة مشتعلة عسكريًا «ضاعف أعداد (الشهداء) المدنيين فيها، وتم اعتقال أفراد من المنطقة، وتم اعتقال نساء وأطلق سراحهم».
ميزة الزبداني، وريف دمشق عمومًا، بحسب ما يقول الداراني، أن الثوار فيها «لم يكونوا متشددين. تشكيلاتها من أبناء المناطق، ولم ينضوِ معظمهم في تيارات متشددة»، لافتًا إلى أن «مدينة الزبداني منذ بداية الثورة تشكلت فيها تشكيلات عسكرية وضباط منشقون، لذلك كانت نقطة ارتكاز للجيش الحر في القلمون الغربي وريف دمشق». ويوضح أن دورها «لم يقل أهمية عن دور يبرود التي كانت نقطة عبور ونقل السلاح في القلمون ريف دمشق».
اتسمت علاقة أهالي منطقة وادي بردى مع جيرانهم اللبنانية، بعلاقات اقتصادية قائمة على التهريب، إضافة إلى الزيجات المتبادلة والمصاهرة. وتحولت المناطق الحدودية إلى منصات لتهريب المحروقات والسجائر، فضلاً عن البضائع اللبنانية المهربة. ويقول ناشطون في مضايا إن البلدة «كانت قبل الثورة تتضمن أكثر من 90 نقطة تهريب عبر الحدود اللبنانية، وكنت تجد البضائع الأجنبية من ملابس وأحذية وغيرها في البلدة، حتى باتت مقصدًا للبضائع المهربة وسوقا مفتوحة للباحثين عن البضائع الأوروبية».
خرجت الزبداني من المعادلة بعد العملية العسكرية لحزب الله، التي أفضت إلى اتفاق، نفذ جزآن منه، خلال الأشهر الثلاثة الماضية، كان آخرها في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، حيث أخرج الجرحى من البلدة، مقابل إخراج الجرحى من كفريا والفوعة الشيعيتين في شمال البلاد. وبعدها، ظهرت أزمة النازحين في مضايا، ومعظمهم من سكان الزبداني، إثر الحصار الخانق الذي نفذته القوات الحكومية السورية على البلدة، ما تسبب بتفاقم الوضع الإنساني في البلدة السورية.

* معاناة مضايا
مضايا اليوم تؤوي بقي أكثر من 15 ألف نسمة من سكانها، بالإضافة إلى آلاف النازحين من الزبداني، وتقول تقارير للأمم المتحدة إن أعداد كل من في المدينة نحو 42 ألف شخص، عرضة للموت نتيجة نقص الغذاء أو التدهور الصحي نتيجة نقص الأدوية، حيث تحولت أجساد سكان المدينة إلى هياكل عظمية يكسوها الجلد، كما اضطروا إلى أكل الحشائش وأوراق الشجر. وتحاصر المدينة بحواجز عسكرية وبنحو 6 آلاف لغم أرضي، يمنع السكان من الخروج، وأدى تدخل الأمم المتحدة مطلع الأسبوع الحالي إلى إدخال قافلتي مساعدات إغاثية.
وبعد الاستنكار الدولي الذي أثاره الوضع الإنساني في مضايا، وافقت السلطات السورية قبل أسبوع على السماح بدخول قافلة أولى من 44 شاحنة الاثنين نقلت مساعدات إنسانية إلى البلدة التي يقطن فيها حاليا 42 ألف نسمة، بحسب الأمم المتحدة.
وكانت الأمم المتحدة، قالت الثلاثاء الماضي، إن المعاناة في مضايا «لا تقارن» بكل ما شهدته طواقم العمل الإنساني في باقي سوريا. وقال ممثل رئيس المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة سجاد مالك في مؤتمر عبر دائرة الفيديو من دمشق «ما رأيناه مروع، لم تكن هناك حياة. كل شيء كان هادئا للغاية. تقول تقارير جديرة بالمصداقية إن عددا من الأشخاص قضوا جوعا»، مضيفا: «ما رأيناه في مضايا لا يقارن (..) بمناطق أخرى من سوريا». وأبدى «هوله» لما رآه موضحًا أن «الأطفال كانوا يقتاتون من أعشاب يقتلعونها من أجل البقاء على قيد الحياة وأنه لم يعد لديهم ما يأكلونه سوى الماء الممزوج بالتوابل».
وتمكنت الأمم المتحدة والمنظمات الشريكة الاثنين من إدخال 44 شاحنة محملة بالمساعدات الغذائية والطبية إلى بلدة مضايا التي تحاصرها قوات النظام بشكل محكم منذ ستة أشهر. وقال مالك إنه من المقرر دخول قوافل أخرى في الأيام المقبلة. وحذرت الأمم المتحدة بأن 300 إلى 400 شخص بحاجة إلى مساعدة طبية عاجلة.

* الأهمية السياحية لمنطقة وادي بردى
تتضمن منطقة وادي بردى أبرز المواقع السياحية في ريف دمشق، تتوزع على الربوة والزبداني وبلودان. وتعتبر الربوة، منطقة طبيعية تقع في وادي بردى في الجهة الغربية لمدينة دمشق، حيث تؤلف واحة طبيعية تملؤها المطاعم والمتنزهات الصيفية والشتوية.
أما الزبداني، فهي منطقة جبلية في ريف دمشق من أهم المصايف تحولت هذه البلدة إلى مدينة سياحية نموذجية. وتبعد نحو 45 كيلومترا إلى الشمال الغربي من دمشق وترتفع عن سطح البحر 1175 مترا وتشرف المدينة على سهل ومتسع جميل بزرع بالأشجار المثمرة الجبلية وحولها أهلها إلى منتجع حقيقي بسبب بنائهم للبيوت بشكل قصور وفيلات سياحية ويزورها عدد كبير من السائحين العرب سنويا.
وأما بلودان، فهي أعلى مناطق وادي بردى، وتقع على مرتفع شاهق وبارد، وتبعد 55 كيلومترا عن دمشق إلى الغرب أيضًا، وترتفع 1500 متر عن سطح البحر. وتحقق خدماتها السياحية رغبة زائرها، فتوجد فيها مطاعم وفنادق من الدرجة الممتازة شهد بعضها مؤتمرات عربية ودولية تاريخية.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.