خلخلة البناء التقليدي في الرواية المضادة

«سهدوثا» تفكك العالم الآشوري وتسقط رهان المنفى

خلخلة البناء التقليدي في الرواية المضادة
TT

خلخلة البناء التقليدي في الرواية المضادة

خلخلة البناء التقليدي في الرواية المضادة

إبراهيم، الذي بدأ يكتب شعرا في حب الوطن هو خير أنموذج للشخصية المهاجرة التي وجدت نفسها على هامش الحياة الأميركية. فهو يشعر بغربة شديدة، وأطفاله لا يتحدثون سوى الإنجليزية، كما أن الجيران يضايقونه لأسباب واهية.
قليلة هي الروايات الإشكالية التي تدور في فلك المغايرة والاختلاف، و«سهدوثا»، الرواية الأولى للكاتبة ليلى قصراني، هي من هذا النمط الإشكالي الذي يستفز المتلقي، ويثيره، ويلفت عنايته إلى أشياء كثيرة كانت متاحة أمامه لكنه لم ينتبه إليها من قبل. وعلى الرغم من أن هذه الرواية لا تنتظم في سياق سردي تقليدي لأنها موزعة على شكل حكايات متناثرة، وشخصيات كثيرة، وأحداث متعددة وشائكة يقع معظمها في العراق، ويتشظى بعضها الآخر في المكسيك وكاليفورنيا وتكساس، ثم تتكثف خلاصتها على قمة جبل «سهدوثا» المقدس قبل أن تحط على أرض الوطن التي تنعقد عليها الآمال.
ارتأت ليلى قصراني أن تقسم نصها الروائي إلى ثلاث وحدات سردية كي تغطي كل وحدة جيلا بكاملة. فالوحدة الأولى تتناول جيل الجد والجدة، فيما تقتصر الوحدة الثانية على جيل الأب والأم والأعمام والأخوال، أما الوحدة الثالثة والأخيرة فتركز على الجيل الثالث من الأحفاد وأبنائهم.
وبما أن الروائية قد خلخلت البناء التقليدي لنصها الروائي فلا غرابة أن تبدأ «سهدوثا» بجملة استهلالية صادمة مفادها «أنها لم تر أحدا قط يشرب البترول سوى أبيها كي يتخلص من الديدان الشريطية العالقة بأمعائه»، أي أنها بدأت المسار السردي بالجيل الثاني الذي يمثله الأب، فيما أرجأت أحاديث الجد قليلا كي توحي لنا بأن الأنساق التتابعية ليست ضرورية في الرواية الحديثة التي اصطلح عليها باللارواية، أي الجنس الأدبي الذي ينسف الأنساق التقليدية الروائية المتعارف عليها كما هو الحال في روايات الكاتب الفرنسي ألن روب - غرييه وغيره من الروائيين الفرنسيين الذين كتبوا نماذج روائية مضادة للأشكال التقليدية.
وعلى الرغم من كبر الجد وقدم الحقبة الزمنية التي ينتمي إليها نسبيا إلا أنه يمتلك ذهنية متفتحة يحسد عليها حقا فهو «لا يحب القساوسة كما دخل الكنيسة مرتين، يوم عمدوه ويوم تزوج، وسوف يدخلها مرة ثالثة حينما يموت!» وهذا يعني من بين ما يعنيه أنه لا يضع قدراته الذهنية في القضايا الغيبية في الأقل، كما يكشف عن تعلقه بالأمور الدنيوية أكثر من انشداده إلى الأمور الميتافيزيقية. وأكثر من ذلك فهو يشكك بنيات الإنجليز، وينبه إلى مخاطرهم الجمة بوصفهم محتلين للبلاد. أما الجدة فتبدو متلصصة على حفيداتها، ومتعلقة بسرد الحكايات، ومنقطعة إلى ممارسة الشعائر الدينية كما تحض أولادها وأحفادها على الاهتمام باللغة الآشورية.
يلعب الأب داود دورا مهما في استذكارات الراوية، وهي الشخصية التي تقنعت بها ليلى قصراني واتخذت منها وسيلة للتعبير عن آرائها وقناعاتها الثقافية والفكرية والدينية في الحياة. فالأب، في حقيقة الأمر، مساعد مضمد لكن الناس ينادونه بالدكتور داود، وما يلفت النظر في شخصيته الخارجة عن المألوف بعض الشيء أنه لم يطالب أخاه موشي بحصته من الميراث الذي خلفه الأب الراحل. كما أن زوجته تبدو طيبة مثله ولا تشجع أبناءها على إثارة المشكلات مع عمهم الجشع موشي، الذي استولى على الأرض الزراعية وحرم أشقاءه منها بحجة أنهم لا يعرفون أهميتها، ولا يجيدون زراعتها.
يشكل الأحفاد رصيدا مهما في شخصيات الرواية بدءا من الأخ إبراهيم، الذي هاجر إلى أميركا واستقر بكاليفورنيا، مرورا بيعقوب الذي سيراهن على فعل الهجرة ليموت مختنقا في نهاية المطاف، وانتهاء بسامي، الذي يقرر الصعود إلى قمة جبل سهدوثا لكنه لم يجد بدا من الهبوط إلى الأرض بعد فشل رهانه على العالم السماوي الذي انطوى على مفاجآت كثيرة من دون أن نهمل فاروقا الذي سيصاب بالصرع أو تمارا التي تقترن بفؤاد الذي يعاملها بقسوة شديدة فيما تنجب هي ابنها البكر «سلام» لكنها تكتشف لاحقا أنه أعمى فتنقلب حياتها رأسا على عقب.
تراهن الرواية برمتها على أن الخلاص الفردي ليس حلا، وأن الوطن هو المكان الطبيعي للشخصيات المهاجرة التي ينبغي أن تعود بعد أن أمضت سنوات كثيرة في الغربة. وقد يكون إبراهيم الذي بدأ يكتب شعرا في حب الوطن هو خير أنموذج للشخصية المهاجرة التي وجدت نفسها على هامش الحياة الأميركية. فهو يشعر بمنتهى الغربة، وأطفاله لا يتحدثون سوى الإنجليزية، وأن الجيران يضايقونه بفظاظة، حينما تتسلق نباتاته على جدار حديقتهم. فلا غرابة إذن حينما يفكر بالعودة على الرغم من أن زوجته سمر تفضل البقاء في أميركا. قد يقف الأخ الأصغر يعقوب على النقيض تماما من شخصية إبراهيم، فهو متذمر منذ البداية من وجوده في العراق الذي كان يخوض حربا شعواء مع إيران، وسوف يعاني لاحقا من حصار ظالم يفتك بالناس البسطاء. ولو توغلنا في حياة يعقوب الشخصية لوجدناها الأكثر إثارة بين إخوانه فهو مشاكس كبير ويمتلك نوعا من القسوة التي لا نجدها عن أشقائه جميعا، ولا يجد ضيرا في انتهاك بعض المقدسات. وفيما يتعلق بالجانب الجنسي فهو الأكثر هوسا بين أشقائه وقد حفلت الرواية بمغامراته العاطفية التي حركت المسار السردي كثيرا.
لا تخلو شخصيات الرواية من إشكاليات وأمراض نفسية وبدنية، ففاروق مصاب بالصرع، وعدنان أعرج، والراوية تكره شكلها لأن «وجهها صغير، وأذناها كبيرتان، وجسدها نحيل، وقامتها قصيرة»! ثمة شخصيات أخرى معطوبة، وهناك شخصيات منكسرة ومدحورة اجتماعيا، فسعاد كانت تمتهن البغاء، وعمة الراوية فريدة هربت مع رجل متزوج وتوارت عن الأنظار. وسامي الموزع بين عالمين أرضي وسماوي يقرر الصعود إلى جبل سهدوثا «الشهادة» ليعري لنا عالم القساوسة ويكشف عن تناقضاتهم فيقرر النزول إلى الأرض والغوص في الحياة اليومية بعيدا عن تجليات الروح وأقانيمها التي تقع معظمها في إطار حلمي قد لا ينتمي إلى واقعنا الأسيان كثيرا.
لا تخرج غالبية الوقائع والأحداث والحكايات في هذا النص الروائي عن أطرها الرمزية والمجازية ويكفي أن نشير هنا إلى حكاية عشتار التي سمعتها الراوية من جدتها. فالقواد مردوخ، الذي يعمل بوابا في القصر الملكي سمع أن الحكماء السبعة للملك الفارسي أحشيورش يبحثون عن ملكة جديدة تحل محل الملكة «وشتي» التي رفضت أن تتعرى أمام حاشية الملك في حفل خاص كي يتباهى بجمالها لكنها لم تطعه لأن هذا الجسد جسدها وهي الوحيدة التي تمتلك سلطانا عليه، فجلب مردوخ قريبته اليتيمة «هدسة» وقدمها باسم عشتار التي رقصت أمام الملك وفازت بالمسابقة فتوجها ملكة على العرش وأصبحت شريكة حياته المفضلة فيما أصبح مردوخ الرجل الثاني في المملكة وكان السبب في إعدام رئيس الوزراء هامان الذي تآمر على ملك عيلام.
حكايات هذا النص الروائي كثيرة ولا يمكن حصرها في مقال واحد. وبغية الوصول إلى نهاية مرضية لا بد من الإشارة إلى رحلة سامي إلى جبل سهدوثا التي اكتشف من خلالها أن عالم السماء لا يخلو من شرور وملابسات معقدة، لذلك قرر العودة إلى العالم الأرضي والعيش فيه بمحاسنه ومساوئه. كما أن عودة إبراهيم من المنفى والموت المفجع ليعقوب يفندان فكرة التعويل على الهجرة. وأكثر من ذلك فإن الراوية ظلت تطرق على باب عمتها على أمل أن تفتح هذا الباب الذي أوصدته منذ سنوات طويلة.
هذا النص السردي بتقنيته الحديثة المضادة لتيار الرواية يكشف عن موهبة صاحبته ليلى قصراني وقدرتها على الإتيان بأعمال روائية جديدة قد تفاجئنا بها كما فاجأتنا برواية «سهدوثا» التي أعدها علامة فارقة في المشهد الروائي العراقي في الأقل.



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي