هوية مؤلف «إدارة التوحش» تتأرجح بين «الحكايمة» و«أبو مصعب السوري»

دستور المتطرفين الذي سعى إلى استدعاء الصدام مع الغرب عبر العنف الشديد

هوية مؤلف «إدارة التوحش» تتأرجح بين «الحكايمة» و«أبو مصعب السوري»
TT

هوية مؤلف «إدارة التوحش» تتأرجح بين «الحكايمة» و«أبو مصعب السوري»

هوية مؤلف «إدارة التوحش» تتأرجح بين «الحكايمة» و«أبو مصعب السوري»

يلف الغموض هوية المؤلف الحقيقي لكتاب «إدارة التوحش»، الذي يعتبره كثيرون دستور الحركات المتطرفة التي تمارس الإرهاب باسم الإسلام. وفي التحقيق التالي نشير إلى شخصيتين يختلف المطلعون على نشاطات هذه الحركات ومتابعو مسيرتها على نسبة مؤلف الكتاب إلى إحداهما. الشخصية الأولى «أبو مصعب السوري» أو «عمر عبد الحكيم» أو «مصطفى عبد القادر»، وهو مسجون في أحد سجون النظام السوري. والثانية «محمد خليل الحكايمة»، الذي قتل بغارة «درون» أميركية عام 2008 في إقليم وزيرستان الباكستاني على الحدود مع أفغانستان.

في عام 2008، عثرت الاستخبارات الأميركية على وثائق ورسائل موجهة من أسامة بن لادن وإليه تشمل فصولا من كتاب غريب، لم تكن أجهزة الاستخبارات هذه على علم بأن المتطرفين يتداولونه بينهم بكثير من الاحترام والقدسية. وهذا الكتاب يحمل عنوان «إدارة التوحش»، وهو مؤلف صغير الحجم (113 صفحة)، لمؤلف مجهول يحمل اسم «أبو بكر ناجي».
تختلف المعلومات هنا اختلافا كبيرا. ففي العاصمة البريطانية لندن ثمة من يعتقد الآن على نطاق واسع أنه «أبو مصعب السوري» الذي وضع العديد من المؤلفات التي تدعو إلى التطرف، وكان يوقع باسم عمر عبد الحكيم. وهو محتجز الآن في سجون النظام السوري، ويعرف هناك باسم مصطفى بن عبد القادر. وحسب هؤلاء فإن من أبرز كتبه في عدة أجزاء «دعوة المقاومة الإسلامية العالمية»، و«المنهج والعقيدة القتالية»، و«التربية والعقيدة القتالية»، و«الجبهات والجهاد الفردي»، و«الأسس الشرعية للإرهاب»، و«التدريب والإعلام والتمويل» وكتبه أبو مصعب السوري إبان وجوده في أوروبا بين إسبانيا وبريطانيا ودول أخرى. وكان «أبو مصعب» واحدا من 35 شخصا تضمنتهم لائحة اتهام من 695 صفحة أصدرها القاضي الإسباني بلتازار غارزون في سبتمبر (أيلول) 2003. ودعت لائحة الاتهام إلى القبض على 34 رجلا آخر، بينهم أسامة بن لادن، بتهم تتضمن عضوية جماعة إرهابية والتخطيط لأعمال إرهابية.
لكن على الجانب الآخر، يتجه عدد من منظرّي «القاعدة» للقول إن مؤلف «إدارة التوحش» - أي «أبو بكر ناجي» - هو محمد خليل الحكايمة، مسؤول الدعاية في «القاعدة»، الذي عاش في بريطانيا لفترة قصيرة، مثل أبو مصعب السوري، بعد طلبه اللجوء السياسي قبل أن يفرّ في أعقاب وضع اسمه على لائحة الإرهاب الأميركية بجانب بن لادن زعيم «القاعدة» الراحل، ثم يقتل في غارة «درون» (طائرة من دون طيار) أميركية في إقليم وزيرستان بباكستان عام 2008.
الكتاب حقا دليل مخيف على تكتيكات عنيفة جدا احتضنت اليوم من قبل تنظيم داعش وقائده أبو بكر البغدادي. ويقترح الكتاب أن يعمل المتشددون على جر الولايات المتحدة إلى حرب ستتحول في نهاية المطاف إلى «حرب استنزاف» قد تجبر الولايات المتحدة على الاستسلام. وتتطلب هذه الاستراتيجية استقطاب العالم الإسلامي وإقناع المسلمين المعتدلين الذين كانوا يأملون بالحماية من جانب الولايات المتحدة بأن هذا الأمر لا يجدي نفعا. وفي مطلق الأحوال كتب «ناجي» خطة الحرب في أعقاب الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001 وغزو العراق عام 2003. وكان الموضوع الرئيسي له الحاجة إلى جر الولايات المتحدة إلى أعمق نقطة في الصراع عبر أراضي المسلمين، مع التركيز على تقويض القوة الأميركية عبر العنف الشديد الذي كلما ازداد وحشية يصبح أفضل، كما يكتب المؤلف.
إنه ليس مجرد العنف المتطرف الذي يسعى لإضعاف الغرب، لكنه يسعى أيضا إلى إجبار المسلمين على الاختيار. في الاضطرابات بالأراضي العربية المستقرة سابقا، فإن من سموا بـ«الجهاديين» يستمدون أسماءهم من خلال «إدارة التوحش». ويحث المؤلف «أبو ناجي» في الكتاب القرّاء على مراجعة كتب إدارة الأعمال، ويرى أن فترة «إدارة التوحش» هي الأخطر على الأمة، وذلك بالتحول من مقاتلة «العدو القريب» المتمثل في الأنظمة السياسية والنخب العربية والإسلامية التي يصفها بـ«المرتدة»، إلى مقاتلة «العدو البعيد» المتمثل بالغرب عموما، والولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل خصوصا. وللعلم، الكتاب متاح بأكثر من 15 ألف رابط على شبكة الإنترنت، ولقد ترجمته وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) للغة الإنجليزية تحت عنوان «إدارة الوحشية»، وهو محظور في العديد من الدول العربية.
«التوحش»، كما يعرفه الكتاب، حالة من الفوضى تدب في أوصال دولة ما أو منطقة بعينها، ويصار إلى استغلالها إذا ما زالت عنها قبضة السلطات الحاكمة الحديدية أو ضعفت. وهذه الحالة من الفوضى ستكون «متوحشة» وسيعاني منها السكان المحليون، لذلك وجب على «القاعدة» - التي ستحل محل السلطات الحاكمة تمهيدا لإقامة الدولة الإسلامية - أن تحسن «إدارة التوحش» إلى أن تستقر الأمور.
ويركز المؤلف على التنظير لما بعد مرحلة سبتمبر 2001، وضرورة استدراج الولايات المتحدة إلى حروب خارج الأراضي الأميركية، لتشتيت قواتها وإضعافها، وهذا ما يفسر تركيزه على العمليات الإرهابية التي تمت في السعودية منذ عام 2003 وتفجيرات بالي بإندونيسيا، وغيرها، للاستفادة منها في عمليات جديدة.
خبراء الأمن لا يجزمون حيال شخصية «أبو بكر ناجي» مع اتفاقهم على أنه شخصية غير حقيقية لشخص محدد.. «وهو في نهاية الأمر اسم حركي مستعار، وليس اسما حقيقيا لشخص معروف، وقد يكون هذا الكتاب هو من صنع (مجموعة عمل) وليس بالضرورة أن يكون شخصا واحدا محددا». لكن اللافت أن أبو مصعب السوري في بيانه ذي الـ1600 صفحة تحت اسم «دعوة المقاومة الإسلامية العالمية»، يرى أن ما يسمى «النموذج المركزي لإدارة الجهاد» لا يمكن أن يتغلب على الجيش الأميركي بإعداداته التقنية المتقدمة، وأن التحالفات الأمنية الإقليمية مثل التحالف بين واشنطن وإسلام آباد، يعرض النموذج المركزي للخطر، ولذا يجادل بأن اللامركزية تجعل ما يسمى «السرايا الجهادية» في مأمن من الاكتشاف. وعليه فإن تشخيص أبو مصعب السوري يعني أنه على المقاتلين أن ينخرطوا بالتدريب في معسكرات إقليمية متحركة. وكتاب «إدارة التوحش» يجادل بأنه يتعين على من يسميهم «المجاهدين» إن هم سيطروا على منطقة ما أن يقيموا فيها إمارة لتطبق الشرع ورعاية مصالح الناس فيها من طعام وعلاج، في حين تتولى القيادة العليا (المركزية) التنسيق بين تلك المناطق وترتيب الأولويات.
ونظرية «أبو بكر ناجي» هي ما عليه «القاعدة» اليوم لأسباب كثيرة، ربما كانت فيها العوامل الخارجية الأكثر تأثيرا، فكلما اكتسبت «القاعدة» مكامن آمنة في سوريا والعراق وما خلفهما، تغدو نظرية المؤلف هي الأنسب.
وحقا «القاعدة» نفسها مرّت بمخاض فكري داخلي حول المستقبل، إذ قدّم «أبو مصعب السوري» - أحد أبرز منظّري «الجهاد» - نموذجا مركزيا لإدارة القتال، في حين يقدم أبو بكر ناجي نموذجا لا مركزيا. ومع أنه من الصعب التنبؤ بما ستكون عليه استراتيجيات وتكتيكات المواجهة المقبلة، فالمؤكد أن العالم الجديد بما فيه الشرق الأوسط الجديد الذي هو قيد التشكل يمر بمخاض عسير ومكلف. ولا يبدو فيه العرب إطلاقا في أحسن الأحوال، خاصة أن حالات التشظي بالانتظار.
من ناحية أخرى، أكدت جماعات مطلعة في لندن لـ«الشرق الأوسط» أن الحكايمة إنما هو الذي كتب «إدارة التوحش» خلال فترة وجوده في إيران. وكانت مصادر مطلعة في العاصمة البريطانية قد كشفت أيضا عن معلومات موثقة بأن أجهزة الأمن الإيرانية أبرمت اتفاقا مع الحكايمة قبل انتقاله إلى بريطانيا طلبا للجوء السياسي، تتعهد فيه بحمايته وإيوائه مقابل إدارته إذاعة موجهة من طهران لتكون بوقا لعناصر من «القاعدة» وعدد من المطلوبين من عناصر الجماعة الإسلامية لدى الدول العربية.
وأردف هؤلاء أن «إدارة التوحش» كتبه تنظيم القاعدة ووضع فيه معالم فكره المتسم «بصناعة الفوضى والقتل والتدمير والإفساد في الأرض والهيمنة على البلاد التي يريدون السيطرة عليها».
في مطلق الأحوال تحول كتاب «إدارة التوحش» إلى ما يشبه الدستور للمقاتلين المتشددين. ولذلك، وبمجرد جمع كل أجزائه، تولى «مركز مكافحة الإرهاب» في الأكاديمية العسكرية الأميركية في ويست بوينت ترجمته إلى الإنجليزية، ومنحه عنوانا آخر هو «إدارة الوحشية»، وجرى توزيعه على المسؤولين في الدوائر السياسية للحكومة الأميركية والمسؤولين في وزارة الدفاع. ولكن بعد أقل من سنتين من إعلان ما سمي بـ«دولة الخلافة»، استطاع تنظيم داعش أن يخلق حالة من الخوف والدهشة والارتياب لدى جميع المتابعين عبر العالم. إذ ظهرت حالة مؤسسة من الرهبة وفق تنظيم أبو بكر البغدادي في إشاعتها وتسويقها، وثمة ترتيب محكم ومدروس لصناعة الرعب هذه. وفي الوقت الذي كان فيه «داعش» يتمادى في بربريته وتسجيل تقدمه في مناطق واسعة، كان خصومه والمحللون السياسيون والجواسيس والصحافيون يبحثون عن سر هذا التوسع المخيف الذي نجح في تحقيقه أصحاب الرايات السوداء.
لقد تحدث عبد السلام فرج، المنظّر الأول للحركات المتطرفة عن «الجهاد»، فعدّه «الفريضة الغائبة» قبل صدور «إدارة التوحش» بسنوات، مع أن فرض «الجهاد» لم يكن غائبا عن الأمة في أي مرحلة من مراحل حياتها، وبخاصة حين كانت تستدعي هذه المرحلة «الجهاد»، فإذا رأينا أن «الجهاد» هو «الجانب القتالي من الدين الذي يستخدم فيه المسلم بدنه وسلاحه، ويكون جنديا ضمن تشكيلات قتالية، فإننا نقر بأنه لم يكن غائبا عن الأمة في العصر الحديث». من جهته، يؤكد الدكتور هاني السباعي، مدير مركز «المقريزي» للدراسات في لندن، أن مؤلف كتاب «إدارة التوحش» هو محمد خليل الحكايمة، الذي عرف بكنية (أبو جهاد)، وهو قيادي الجماعة الإسلامية بأسوان، ثم انشق عن الجماعة احتجاجًا على مبادرتها الشهيرة - أي المراجعات الفكرية والفقهية التي على أساسها تم الإفراج عن أفرادها.
حسب السباعي، فإن الحكايمة هو المؤلف الحقيقي لـ«إدارة التوحش»، وأنه كتبه إبان وجوده في إيران. وقد سبقه كتاب آخر شهير له اسمه «وهم القوة». وأضاف السباعي: «انضم الحكايمة وهو من مواليد 1961 إلى (قاعدة الجهاد) بمبايعته لأيمن الظواهري في التسعينات. وعمل في بيشاور (بشمال غربي باكستان) في مجال الإعلام، ثم في إذاعة فلسطين من إيران في ذلك الوقت، قبل أن ينتقل إلى بريطانيا طلبا للجوء السياسي. ومن هناك رحل مرة أخرى إلى إيران مع أسامة حسن، صهر الظواهري، ومنها إلى إقليم وزيرستان الباكستاني الحدودي». ويفصّل السباعي - وهو باحث إسلامي مصري - أنه في عام 1999 بعيد وصوله إلى بريطانيا أصدر جاك سترو، وزير داخلية بريطانيا يومذاك، أمرا باعتقاله لقوة علاقته برفاعي طه (أبو ياسر) المسؤول العسكري لما يسمى بـ«الجماعة الإسلامية» ومهندس محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في أديس أبابا (1995)، ففر إلى إيران، ثم الشريط الحدودي في أفغانستان.
وتابع السباعي، في اتصال هاتفي أجرته معه «الشرق الأوسط»، أنه تلقى من الحكايمة قبل مقتله عام 2008 بيان «الثابتون على العهد» عبر البريد الإلكتروني، بهدف توزيعه على وسائل الإعلام العربية والغربية. وقال إن الحكايمة يدافع عن نفسه، وهو يريد أن يقول إن وضع اسمه على قائمة المطلوبين إلى جانب بن لادن لا يخيفه، لأنه تعرض للموت عدة مرات في مصر وباكستان وأفغانستان. وكانت الولايات المتحدة قد أعلنت أنها خصصت مكافأة بقيمة ثلاثة ملايين دولار، مقابل اعتقال ثلاثة قياديين من «القاعدة»، هم محمد خليل الحكايمة (أبو جهاد) والليبي عطية عبد الرحمن، الفقيه الشرعي وخبير المتفجرات، وعبد الهادي العراقي الذي كان رجل بن لادن في أرض الرافدين. وظهر الحكايمة أو «أبو جهاد المصري» عام 2006 في شريط فيديو إلى جانب أيمن الظواهري الرجل الثاني في «القاعدة» حينها، وأكد أن مجموعته المتطرفة (الجماعة الإسلامية) انضمت إلى «القاعدة».
الحكايمة كان يعتبر أن مهمات «إدارة التوحش» هي «نشر الأمن الداخلي، وتوفير الطعام والعلاج، وتأمين منطقة التوحش من الأعداء، وإقامة القضاء الشرعي بين الناس الذين يعيشون في مناطق التوحش، ورفع المستوى الإيماني أثناء تدريب شباب منطقة التوحش على القتال، وبث العيون، واستكمال بناء جهاز الاستخبارات المصغر».
ويقول السباعي، الذي كشف أنه عرف الحكايمة عن قرب واستقبله في منزله بلندن عدة مرات قبل أن يرحل عن بريطانيا، إن أفكار الحكايمة تتلخص في أن بيئة التوحش هي أفضل بيئة للجماعات المتشددة، حيث يمكنهم إثارة الفوضى، وتدريب أنفسهم، وجذب مزيد من الأنصار. ويحث الحكايمة على استهداف المصالح النفطية للدول والمنتجعات السياحية وكل ما من شأنه استنزاف هذه الدول، منبها إلى ضرورة اعتماد أقصى درجات الشدة عند تنفيذ المهمات في مرحلة شوكة النكاية، ولا مانع من تصفية الرهائن بصورة مروعة تقذف الرعب في قلوب العدو وأعوانه، وهو ما يفعله «داعش» اليوم.
اليوم يعتبر كثير من الخبراء «إدارة التوحش» من الكتب التأسيسية التي أثرت في تشكيل تنظيم داعش، مع أن مؤلفه كتبه قبل تأسيس «داعش» بعدة سنوات، وهو مهم أيضا لفهم خطاب الحركات المتطرفة في سوريا خاصة «داعش» و«جبهة النصرة»، وهو الكتاب الثاني الذي صحت نسبته إلى «القاعدة» بعد كتاب «الفريضة الغائبة» لعبد السلام فرج.
ولكن مثلما كان الخطأ الأبرز في كتاب «الفريضة الغائبة» تضخيم «حكم الجهاد»، وقع كتاب «إدارة التوحش» في الخطأ نفسه، مضخما «حكم الجهاد». وجرى تشكيل «الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين» بين حركتي «القاعدة» و«الجهاد» اللتين كان يرأسهما أسامة بن لادن وأيمن الظواهري في قندهار في 23 فبراير (شباط) 1988، ثم جاءت بعد ذلك العملية المزدوجة في تفجير السفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا خلال أغسطس (آب) 1988، والتي كانت ثمرة لتشكيل ما سمي «قاعدة الجهاد» وخطوة في تحقيق أهداف التنظيم الجديد.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».