المسلمون أمام تحدي الاندماج في مجتمعات أوروبا وأميركا

في ظل استفادة التطرف من التطرف المضاد.. والغربة الثقافية من العنصرية

أعضاء من عائلة كلاريسا جان فيليب الشرطية التي راحت ضحية العمليات الإرهابية في باريس.. ينشدون لروحها قرب باقة زهور وضعها الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند (إ.ب.أ) - المرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأميركية دونالد ترامب (أ.ب)
أعضاء من عائلة كلاريسا جان فيليب الشرطية التي راحت ضحية العمليات الإرهابية في باريس.. ينشدون لروحها قرب باقة زهور وضعها الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند (إ.ب.أ) - المرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأميركية دونالد ترامب (أ.ب)
TT

المسلمون أمام تحدي الاندماج في مجتمعات أوروبا وأميركا

أعضاء من عائلة كلاريسا جان فيليب الشرطية التي راحت ضحية العمليات الإرهابية في باريس.. ينشدون لروحها قرب باقة زهور وضعها الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند (إ.ب.أ) - المرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأميركية دونالد ترامب (أ.ب)
أعضاء من عائلة كلاريسا جان فيليب الشرطية التي راحت ضحية العمليات الإرهابية في باريس.. ينشدون لروحها قرب باقة زهور وضعها الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند (إ.ب.أ) - المرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأميركية دونالد ترامب (أ.ب)

طرحت المجزرة الإرهابية التي هزت العاصمة الفرنسية باريس، ومن بعدها الحادثة الأليمة التي وقعت في مدينة سان برناردينو بولاية كاليفورنيا الأميركية، علامات استفهام لا بد من التوقف أمامها، لا من باب جلد الذات بل من منطلق نقد الذات. إذ يقول الفيلسوف إيمانويل كانط إن «النقد هو أفضل هدية من الخالق للعقل البشري». ومن ثم يتوجب التساؤل عن مسألة اندماج الأجيال المسلمة الجديدة في أوروبا وأميركا. وربما كان السؤال الأكثر مدعاة للقلق: هل بات على مسلمي تلك القارات العيش في «غيتوهات» - أو معازل - في المدى القريب وبخاصة مع تزايد مدّ «الإسلاموفوبيا» وتداعياتها وتفاعلاتها في الآتي من الأيام؟

واضح أن عالمنا يعيش إشكالية، غدا معها التهميش والفقر ذريعة للتطرف وإعادة اكتشاف الدين كوسيلة لمواجهة كل الأمراض الاجتماعية. ولهذا فإن مقولة جورج برناردشو «عند العاصفة يلجأ المرء إلى أقرب مرفأ» تكاد تتحقق. إذ ليس ثمة أقرب من «الدين» بالنسبة للإنسان المسلم، ولذا قد يكون «الغيتو» ذلك المرفأ القريب، رمزيًا وفكريًا ودينيًا، وليس حصريًا كما كان في «غيتوهات» روما من العصور الوسطى، حين كان يعيش يهود أوروبا في «معازل شبه اختيارية» بعيدًا عن بقية شعوب أوروبا وإن ظلوا وسطهم.
في منتصف شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي كانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تلفت من طرف خفي إلى حقيقة المشهد، وإن لم تتناوله بالتصريح، عندما أشارت إلى موت فكرة «التعددية الثقافية» في أوروبا، وهو صنو لفشل الاندماج. وما عزّز الفهم على هذا النحو أن تصريحاتها جاءت على خلفية كلمة لرئيس الجمهورية الألماني (اليساري) يواكيم غاوك، قال فيها إن «الإسلام جزء من ألمانيا»، ورغم ذلك أشارت ميركل (المحافظة) لاحقًا وفي ما يدفع عنها أي شبهة آيديولوجية إلى أنه «لا يجوز التقصير في تشجيع المهاجرين على الاندماج».
يبدو من العسير أن نجمل عملية الاندماج أو الانصهار، لأفراد من خارج بيئة ما في دائرة إنسانية أخرى مغايرة في معنى وتوجه واحد. فثمة اندماج لا يصل إلى الانصهار، بل التعايش والشراكة في ظل أبجديات مؤسسية وقانونية يرتضي بها القادم من بعيد. وهناك مراحل أولية لهذا الاندماج لا بد من الإشارة إليها في مقدمتها الاندماج اللساني، فلا عيش مشتركًا ولا تواصل مع الآخر من دون لسان واحد، وهنا تتجلى إشكالية بالنسبة للمهاجرين الوافدين حديثا، لكن ذلك لا يمكن بحال من الأحوال أن ينسحب على الأجيال التي نشأت في الغرب، وبعضها ولد هناك فعلا. ومن الذين ارتكبوا مجزرة باريس مَن ولد أو نشأ طيلة عمره على الأراضي الأوروبية، وعليه فالمسألة تجاوزت قضية الاندماج اللغوي.
ثم، لا يظنّن المرء أن أبواب التعليم في أوروبا أو أميركا تغلق في وجه أي أحد، ولهذا فإن الاندماج في مجالات التعليم والتدريب، والوظائف والترقي فيها، يكاد لا يسبب شرخًا في النسيج الاجتماعي بين المسلمين والأوروبيين بنوع خاص.
بناءً عليه، يبدو أن الإشكالية الكارثية في واقع الحال تقع في دائرة وإطار «الاندماج الاجتماعي»، الخطوة الأولى لعملية الانصهار، والوصول إلى فكرة «بوتقة الانصهار». وكان يُظن أن الولايات المتحدة الأميركية قد برعت فيها على نحو خاص، وفاقت أوروبا، إلا أن ما جرى في كاليفورنيا قد أعادنا إلى منطقة الشكوك من جديد.
المقطوع به أن الاندماج الاجتماعي طريق ذو اتجاهين. ولهذا لا يمكن إلقاء تبعات الفشل على المسلمين في أوروبا سواء من الجيل الأول أو الثاني بمنأى عن أي مسؤولية مجتمعية من الدول الأوروبية ذاتها. ذلك أن هذه الدول هي الحاضنات الأم التي تمتلك كل المقوّمات الحياتية، وصاحبة الأرض، والقادرة على طرح المبادرات التي تجمّع ولا تفرّق، وتستطيع كذلك أن تشرح أصول وأولويات الحياة في تلك البلدان من دون تجرح للخلفيات الثقافية للمسلمين. ثم إنها الوقت نفسه صاحبة المؤسسات الدينية المؤهلة لتقديم رؤية عن معنى التسامح الخلاّق في المسيحية السائدة أوروبيا، حتى وإن كانت أوروبا علمانية الهوية. وفي كل الأحوال هي صاحبة الكلمة الأمنية الفصل في مواجهة تطرّف اليمين الأوروبي وغلوائه العنصرية، واللذين يزدادان قوة.
في المقابل، في ما يخص نقد الذات بالنسبة للمسلمين في أوروبا، بنوع خاص، يبدو أن هناك مشكلة ما في بلورة مفهوم العيش في الغرب بالنسبة لبعض المسلمين في الغرب. فهذا البعض يتعاطى مع دول المهجر الأوروبي بعقلية المسافر أو عابر السبيل - أي صاحب المهمة المؤقتة في تلك البقعة من الأرض - وعليه أن يحاذر من أدرانها الثقافية والاجتماعية، ويباعد بينه وبين مفاهيمها ومعتقداتها الدينية. وبالنتيجة، فإنه يعيش متشرنقًا في حالة أقرب ما تكون إلى عقلية الضحية والشعور الجمعي بالمظلومية التاريخية.
هذه الرؤية تدفع أجيالا إسلامية بعيدا جدا عن عقلية المقيم والمنصهر في وطن جديد، من دون إحساس بالدونية أو النقص، وبخاصة في ظل مجتمعات تشكو من سيطرة العلمانية. هنا نحن لسنا في «أوروبا الاضطهاد الديني» خلال القرون الوسطى. والدفع يبدأ «عقليًا» وينتهي «مكانيًا»، فعقليًا تتكوّن فكرة «الغيتوهات» الدينية والاجتماعية، بدءًا من التشبث بالخصوصيات والهوية، والذي يقود لاحقًا إلى اعتناق فكر الهويات القاتلة. ثم تتبلور الفكرة مكانيًا كما رأينا في منتصف العقد الماضي، عندما اشتعلت بأعمال الشغب أطراف باريس، حيث تقيم أعداد غفيرة من أجيال العرب والمسلمين الثانية، وهؤلاء ليسوا من أجيال المهاجرين الأوائل.
هل وقع البعض إذن في فخ المفاضلة بين مفهوم المواطنة والوطن الجديد والجذور.. بين الأصولية والهوية.. وبين الحداثة والواقع؟
يبدو أن هناك ملامح عديدة لإشكالية الاندماج، لا سيما بالنسبة للأجيال الأولى من المهاجرين. فأولئك فرضوا على أنفسهم عزلة ذاتية عن المحيط الاجتماعي، ولعبت الأمّية ومحدودية الثقافة الدور الأكبر في تقوية هذا الشعور. والكارثة هنا أن هذه المشاعر والأحاسيس المنقوصة تسرّبت، وتم توريث جزء غالب منها للأجيال المسلمة الثانية في أوروبا، الأمر الذي ولّد ما يمكن أن نطلق عليه تعبير «مصادفة مكروهة» أو «حالة مفروضة» بين أن يكون المرء مسلمًا وألمانيًا، أو أن يكون مسلمًا وفرنسيًا في الوقت ذاته، وكأن الأمرين ضدان لا يلتقيان في الحال أو الاستقبال.
على أن الأزمة الخاصة بالاندماج تتعاظم في الوقت الحاضر جرّاء موجات الهجرة التي حلّت بأوروبا. إذ من الثابت أن المهاجرين هؤلاء تعرّضوا لظروف نفسية وذهنية غاية في الألم والصعوبة، تجعل من غالبيتهم ضحايا لمصفوفات من الاضطرابات الاجتماعية والسلوكية، إن لم نقل من الأمراض النفسية من باب تهوين الأمر الجلل.
هنا يمكن القطع بأن مسألة الاندماج دفعة واحدة تكاد تكون شبه مستحيلة، فالوقت والأحداث التي ألمّت بهم يجعلان من الرفاهية صهرهم في المجتمعات الأوروبية، وبخاصة في ضوء غياب سياسات منهجية للتعاطي معهم. وهنا فإن الردود الأوروبية تكاد تصبح منطقية من حيث إن هؤلاء هم الذين فرضوا أنفسهم، أو أن الظروف الخارجية هي التي دفعتهم إلى الداخل الأوروبي من دون دعوة رسمية. لكن مع ذلك، فإن «أوروبا التنوير» والإرث الإنساني والفلسفي ربما يتوجّب عليها مداواة جروح «بؤساء الأرض الجدد» والتخفيف عنهم، خصوصا في ما يتصل بالعلمانية الجافة في مدارس الصغار. فتحت شعار «العلمانية» لا مكان للاعتبارات الاجتماعية أو الدينية، وحتى الثقافية للمهاجرين الجدد وأولادهم. وهذا أمر سيولّد لديهم، ولا شك، إحساسًا بالإقصاء والعزل والإبعاد فكريًا ونفسيًا. وهذا قد ينم في تصور كثيرين عن اقتراب المسلمين في أوروبا تحديدًا من مجتمع «الغيتوهات» وضيقها.
والواقع أن ثمة تقريرًا أعدته الاستخبارات الفرنسية حديثًا، زعم أن ظاهرة «الطائفية» آخذة في التنامي في الأحياء التي يقطنها المسلمون، ولقد وصفها بأنها «غيتوهات تنشط فيها جماعات إسلامية تقدم الهوية الإسلامية على أنها المخرج» بعد فشل سياسة الاندماج تجاه المسلمين. تقدير الاستخبارات الفرنسية هذا جدّ مخيف لأنه يشير إلى أن 300 من بين 630 حيًا ساخنًا في أنحاء فرنسا برزت فيها علامات للانعزال الطائفي.
لكن لا يقتصر حديث فشل الاندماج على فرنسا أو ألمانيا. إذ علت الأصوات في الأسابيع التي تلت مجزرة باريس في الداخل البلجيكي، وبخاصة في ضوء ما توافر من معلومات عن مكان نشأة بعض الجناة في الحادث على الأراضي البلجيكية. ولقد طرح كثيرون مدى فشل اندماج الشباب المسلم من الأجيال الصاعدة داخل الإطار الاجتماعي والثقافي للعاصمة بروكسل وضواحيها. ولعل لمسألة الاندماج في بلجيكا جذورًا ثقافية متصلة بالعالم الإسلامي، وكذلك علاقات اقتصادية. فبلجيكا، على سبيل، أكبر مستورد للغاز الجزائري، ثم إنها تستضيف جاليات مهاجرة كبيرة، مغربية بالخصوص، تقدر بأكثر من نصف مليون نسمة، وهو ما يعني أن مسألة الاندماج هناك قضية أمن قومي، والنجاح فيها يضمن أمن البلاد واستقرارها، والإخفاق يقود ولا شك إلى مزيد من القلاقل والاضطرابات.
قبل الدخول في العمق الأميركي ينبغي أن نعيد التذكير بأن الوضع في الولايات المتحدة يختلف عما هو عليه في أوروبا. فالمشهد يبدو من «متناقضات القدر» إن جاز التعبير، ذلك أن أوروبا ذات جذور دينية مسيحية، غير أن العلمانية الجافة المسطحة - على حد تعبير اليساري الفرنسي الكبير ريجيس دبريه - هي السائدة. أما الولايات المتحدة فدولة علمانية بحكم الدستور، لكن التعبير المعروف هو أنها «علمانية الهوية» لكنها فعليًا مغرقة في «الهوى الديني»، ومردّ ذلك نشأتها التي اعتبرها «الآباء المؤسسون» نشأة تشابه «كنعان الجديد» بالنسبة للشعب اليهودي.
ولعقود تم النظر إلى «بلاد العم سام» على أنها «بوتقة الانصهار» لكل الجنسيات والأعراق، والأديان والمذاهب، وعليه فإنها تستوعب كل مهاجر إليها، يهوديًا كان أو مسلمًا أو مسيحيًا أو بوذيًا أو هندوسيًا.. إلخ؟
ربما كان المشهد كذلك من قبل. غير أنه خلال السنوات التي أعقبت اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وصولا إلى حادثة كاليفورنيا، سُجِّل تصاعدٌ، يكاد يكون شعبويًا لا حكوميًا، رافضًا لهذا الحضور التعددي بدرجة أو بأخرى. وحتى لو لم يعلن رسميًا فإن قراءته بين السطور توضح وجوده، ولعل أفضل الأوقات التي تبيح فيها الصدور بمكنوناتها هو زمن الانتخابات التشريعية والرئاسية، حيث يكثر العزف على كل الأوتار وفي مقدمتها وتر «الإسلاموفوبيا» البغيضة.
خلال الأيام الماضية، حذّر بوبي جيندال، حاكم ولاية لويزيانا الجمهوري - وهو من أصل هندي - الأميركيين من إقدام المسلمين على إنشاء مناطق خاصة بهم، تكون السكنى فيها محظورة على غير المسلمين. وأرجع ذلك إلى «إخفاق المسلمين في الاندماج بالثقافة السائدة في المجتمع الأميركي» والخصوصيات الإثنية والعرقية التي يتمتع بها الأميركيون عبر التاريخ وحتى الساعة. ولكي يحرك جيندال، الذي انسحب أخيرا من سباق الرئاسة، مشاعر الأميركيين، خاصة الذين ينحون إلى جهة يمين الوسط أو اليمين المتطرف، ويحرضهم على المسلمين، فإنه عرّج على أوروبا محذرًا من تكرار أزمة ما يعرف في فرنسا مثلا بالـ«No Go Zone»، أي الأماكن التي يسكنها المسلمون وما عادت الشرطة الفرنسية تستطيع دخولها!
جيندال هذا كان في واقع الحال يحاول كسب دعم التيارات الدينية المسيحية المحافظة لترشحه للرئاسة، عبر دغدغة مشاعر البسطاء من الأميركيين بالقول إن «اختيار قائد لإصلاح البلاد لن يكفي.. بل إن أميركا تحتاج أيضا إلى صحوة روحية». حكمًا من الظلم الفادح أن ينسحب حادث كاليفورنيا على عموم مسلمي الولاية الكبيرة، إن لم تكن الولايات المتحدة ككل، لكن يبدو أن قوانين الاقتصاد وفكرة «العملة الرديئة التي تطرد العملة الجيدة» هي التي تحكم المشهد. ولعل المؤكد أن المرشحين الجمهوريين في سباق الرئاسة الأميركية 2016 يقع عليهم اللوم الأكبر في إفشال الاندماج عمدًا، وذلك من خلال تصريحات تصيب النسيج الاجتماعي في مقتل، وتنهي مرة وقولاً واحدًا صلاحية فكرة «بوتقة الانصهار».
فعندما يتحدث المرشح الجمهوري المحافظ بن كارسون، وهو جراح دماغ، عن أنه «لا يمكن لمسلم تولّي رئاسة الولايات المتحدة الأميركية»، فإنه على هذا النحو، وكما تقول جريدة «نيويورك تايمز» في تعليق لها «يمس القيم الأساسية ومبادئ دستورية الولايات المتحدة، والتاريخ الأميركي، ويعكس العادة الخبيثة لدى الجمهوريين باللعب بالنار لإرضاء قاعدة الحزب من البيض الغاضبين، التي صورة الأقليات وتستهدف حاليًا المسلمين».
ولا تتوقف «حواجز الاندماج» عند حدود كارسون، بل تمتد حتمًا إلى دونالد ترامب، الذي أعاد ترويج أكذوبة «احتفال المسلمين في الولايات المتحدة باعتداءات 11 سبتمبر». وهذا كلام يقطع الطريق جملة وتفصيلا على أي أميركي يريد أن يفتح عقله وقلبه لجاره المسلم، ولولا وجود أميركيين عقلانيين وموضوعيين يرفضون هذا الغثاء، لشهدنا معسكرات اعتقال للمسلمين الأميركيين، شبيهة بتلك التي حشر فيها اليابانيون في أعقاب الهجوم على بيرل هاربر. ربما يحتاج منا المشهد الأميركي إلى قراءة مطوّلة خاصة. غير أنه في كل الأحوال باتت مسألة الاندماج، حكمًا، قضية مصيرية في أوروبا وأميركا، لما لها من تأثيرات فعالة على الأمن القومي في الداخل، وعلى تعايش أصحاب الحضارات في الخارج. إن العقلانية والتسامح، بل التصالح والاندماج، يقضيان على آفة التطرف ويسهمان في وأدها في مهدها، في حين أن الرفض والإقصاء والإبعاد يولد مزيدا من مشاعر العنف والكراهية. وهذا ما تسعى إليه تنظيمات متطرفة إرهابية مثل «داعش» و«القاعدة». بل تفرح وتهلل له لأنه خير ضامن لمزيد من الوقود البشري لأفكارها، أفكار «الفئة الضالة».
للاندماج طريقان لا ثالث لهما: الأول يدفع الجميع دفعا لجهة الانصهار القسري - إن جاز التعبير - في مجتمعات غريبة عن المهاجرين، لا سيما الجدد منهم. ويتطلّب هذا الشكل من أشكال الاندماج تخليا غالي الثمن عن الخصوصيات الدينية والثقافية للجماعات البشرية المندمجة. والثاني يدعو إلى الموازنة العقلانية لمتطلبات دول المهجر والحفاظ أيضا على جوهر - وربما ليس مظهر - الخصوصيات الثقافية أو الدينية.
النوع الأول اندماج سلبي، بينما الثاني اندماج إيجابي. وفي المطلق تبقى القضية مسألة تفاعلية بين جانبين، جانب المسلمين المهاجرين من جهة، ودول المهجر من جهة ثانية. وللطرفين مصلحة واحدة في تحقيق درجة عالية من درجات الاندماج الإيجابي الخلاق، بعيدًا عن الإحساس بصغر الذات والهرب إلى «الغيتوهات» من جهة، أو التعالي والإقصاء السلبي من ناحية أخرى.
* كاتب مصري



«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
TT

«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)

ارت طموحات تنظيم «داعش» الإرهابي للتمدد مجدداً تساؤلات كثيرة تتعلق بطبيعة «مساعيه» في الدول خلال العام الجاري. واعتبر مراقبون أن «(أزمة كورونا) جددت طموحات التنظيم للقيام بعمليات إرهابية، واستقطاب (إرهابيين) عقب هزائم السنوات الماضية ومقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي». ووفق خبراء ومتخصصين في الشأن الأصولي بمصر، فإن «التنظيم يبحث عن أي فرصة لإثبات الوجود»، مشيرين إلى «مساعي التنظيم في أفريقيا عبر (الذئاب المنفردة)، ومحاولاته لعودة نشاطه السابق في العراق وسوريا عبر تبني عمليات القتل»، موضحين أن «المخاوف من العناصر (الانفرادية) التي تنتشر في أوروبا وأميركا تتزايد، خاصة وأنها تتحرك بانسيابية شديدة داخل محيطهم الجغرافي».
وقال أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، إن «(داعش) مثل تنظيمات الإرهاب تبحث عن فرصة مُناسبة للوجود، ومن الفُرص المُناسبة، وجود أي شكل من أشكال الفوضى أو الارتباك، وعندما تكون جهود الدول موجهة لمحاربة (كورونا المستجد)، فيبقى من الطبيعي أن يسعى التنظيم للحركة من جديد، وانتظار فرصة مناسبة لتنفيذ أهدافه، خاصة أن (داعش) في تعامله مع الفيروس روج لفكرة (أن كورونا عقاب إلهي لأعدائه، على حد زعم التنظيم)، خصوصاً أن (كورونا) كبد أوروبا خسائر كبيرة، وأوروبا في الدعايا الداعشية (هذا الغرب الذي يحارب الإسلام، على حد تصور الداعشيين)، لذا فـ(داعش) يستغل هذا، في مواجهة بعض الارتكازات الأمنية، أو الأكمنة، أو الاستهدافات بالشوارع، لإثارة فازعات، ومن الوارد تنفيذ بعض العمليات الإرهابية».
وأكد عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) استغل (أزمة الفيروس) بالادعاء في بيان له مارس (آذار) الماضي، بأن الفيروس (عذاب مؤلم من الله للغرب، خاصة للدول المشاركة في العمليات العسكرية ضده، على حد زعمه)، ويحاول التنظيم نشر الخوف من الوباء، والبحث عن إيجاد مصارف لتمويل العمليات الإرهابية».
ووفق تقرير سابق لمجموعة «الأزمات الدولية» في نهاية مارس الماضي، أشار إلى أن «التنظيم أبدى مع ظهور الفيروس (نبرة شماتة)، وأخبر عناصره عبر افتتاحية جريدة (النبأ) التابعة له في نهاية مارس الماضي، بضرورة استمرار حربهم عبر أرجاء العالم حتى مع تفشي الوباء... وادعى أن الأنظمة الأمنية والدولية التي تسهم في كبح جماح التنظيم على وشك الغرق، على حد قول التنظيم».
ويشير عبد المنعم في هذا الصدد، إلى أنه «بالعودة لزاوية (حصاد الأجناد) في عدد (النبأ) الأخير، زعم التنظيم أنه شن 86 هجمة إرهابية في شهر واحد، هو مارس الماضي، وهو أعلى رقم منذ نهاية نوفمبر (تشرين ثاني) الماضي، الذي سجل 109 هجمات، فيما عُرف بـ(غزوة الثأر) للبغدادي وأبو الحسن المهاجر اللذين قُتلا في أكتوبر (تشرين أول) الماضي في غارة جوية».
ووفق تقارير إخبارية محلية ودولية فإن «(داعش) يسعى لاستعادة سيطرته على عدد من المناطق في سوريا والعراق من جديد، وأنه يحتفظ بنحو من 20 إلى 30 ألف عضو نشط، ولا ينقصه سوى توفر المال والسلاح». وأشارت التقارير ذاتها إلى أن «التنظيم يحاول استغلال انشغال سوريا والعراق بمكافحة الفيروس، لاستعادة سيطرته على مناطق من الصحراء السورية في الغرب، إلى وادي نهر الفرات شرقاً، مروراً بمحافظة دير الزور والمناطق ذات الأغلبية السنية في العراق، والتي لا يزال يوجد فيها بعض عناصره».
ويشار أنه في أبريل (نيسان) الماضي، هاجم التنظيم بلدة السخنة في صحراء حمص، وأسفر عن مقتل 18. وفي دير الزور أعلن التنظيم مقتل اثنين... وفي العراق، قتل ضابط شرطة عند نقطة تفتيش في الحويجة غرب كركوك على يد التنظيم، كما قتل اثنان من مقاتلي البيشمركة الكردية في هجوم للتنظيم أبريل الماضي، كما أسفر هجوم للتنظيم على مطار الصادق العسكري عن مقتل اثنين.
وفي هذا الصدد، قال عمرو عبد المنعم، إن «أكثر هجمات (داعش) كانت في العراق أخيراً، وشهد التنظيم نشاطاً مكثفاً هناك»، مضيفاً: «في نفس السياق دعت فتوى نشرها التنظيم على (تلغرام) للهروب من السجون السورية، وهذا ما حدث، فقد هرب 4 نهاية مارس الماضي، من سجن تديره قوات سوريا الديمقراطية، وفقاً لتقارير إخبارية».
وسبق أن طالب أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» في سبتمبر (أيلول) الماضي، «بتحرير أنصار التنظيم من السجون ...»، وسبقه البغدادي «وقد حرض بشكل مُباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق».
وبحسب المراقبين «حاول (داعش) أخيراً زيادة حضوره الإعلامي على منصات التواصل الاجتماعي مجدداً، بعد انهيار إعلامه العام الماضي». ورصدت دراسة أخيرة لمرصد الأزهر لمكافحة التطرف في القاهرة «تداول التنظيم تعليمات لعناصره عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بالادعاء بأن الفيروس يمثل (عقاباً من الله، ويحتم اتخاذ خطوات لتكفير الذنوب)، وجعل التنظيم الإرهابي - على حد زعمه - السبيل الوحيد للخلاص من الفيروس، والقضاء عليه، هو (تنفيذ العمليات الإرهابية)، ولو بأبسط الوسائل المتاحة». اتسق الكلام السابق مع تقارير محلية ودولية أكدت «تنامي أعداد حسابات أعضاء التنظيم وأنصاره على مواقع التواصل خصوصاً (فيسبوك)، حيث تمكن التنظيم مجدداً من تصوير وإخراج مقاطع فيديو صغيرة الحجم حتى يسهل تحميلها، كما كثف من نشر أخباره الخاصة باستهداف المناطق التي طرد منها في العراق وسوريا، وتضمين رسائل بأبعاد عالمية، بما يتوافق مع أهداف وأفكار التنظيم».
ووفق عبد المنعم فإن «(داعش) يستغل التطبيقات الإلكترونية التي تم تطويرها في الفترة الأخيرة في المجتمع الأوروبي، والتي قدمتها شركات التكنولوجيا والذكاء الصناعي في أوروبا مثل تطبيق Corona-tracker لجمع البيانات عن المصابين، وتوجيه بعض الأسئلة لتحديد نسبة الخطورة، وفرض التنظيم على الأطباء والممرضين في الرقة الحضور اليومي الإجباري، ومن خالف تعرض لعقوبات شديدة».
وعن الواجهة التي يسعى «داعش» التمدد فيها خلال الفترة المقبلة. أكد الخبير أحمد بان، أن «أفريقيا هي الواجهة المفضلة لتنظيمي (داعش) و(القاعدة)، والفترة الأخيرة شهدت تصاعدا لعمليات في الغرب الأفريقي وداخل الساحل، وعمليات داخل موزمبيق، فـ(داعش) في حالة سباق لتصدر المشهد هناك، مع توفر آليات تساعده على ذلك من بينها، تهريب السلاح، وحركة العصابات». فيما أبدى عمرو عبد المنعم، تصوراً يتعلق بـ«زيادة العمليات الإرهابية في نيجيريا، وأنه طبقاً لبيانات صدرت أخيراً عما يُعرف باسم (ولاية غرب أفريقيا) أفادت بوجود أكثر من مائة مقاتل هاجروا لنيجيريا من سوريا والعراق».
وتجدد الحديث في فبراير (شباط) الماضي، عن مساعي «داعش» للوجود في شرق أفريقيا أيضاً، بعدما أظهرت صوراً نشرها التنظيم عبر إحدى منصاته تتعلق بتدريبات على أسلحة تلقاها عناصره في مرتفعات «غل غلا» الوعرة بولاية بونتلاند الواقعة شمال شرقي الصومال.
تعليقاً، على ذلك أكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) يهدف إلى السعي لمناطق بالقارة السمراء، بعيداً عن سوريا والعراق، لـ(تفريغ قدرات عناصره القتالية)، فضلاً عن تأكيد عبارة (أنه ما زال باقياً)».
تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية أشارت أيضاً إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال المراقبون إن «عودة هؤلاء أو ما تبقى منهم إلى أفريقيا، ما زالت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيراً منهم شباب صغير السن، وأغلبهم تم استقطابه عبر مواقع التواصل الاجتماعي».
فيما قال خالد الزعفراني، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، إن «مساعي التنظيم للتمدد داخل أفريقيا سوف تتواصل عبر (الذئاب المنفردة)»، مضيفاً أن «ما يقوم به التنظيم في أفريقيا، والعراق وسوريا أخيراً، لإثبات أن لديه قدرة على تحقيق إنجازات، وأنه (عابر للحدود)، وأنه غير مُتأثر بهزائم سوريا والعراق».
وكان أبو محمد العدناني، الناطق الأسبق باسم «داعش» قد دعا في تسجيل صوتي عام 2014 المتعاطفين مع التنظيم، إلى القتل باستخدام أي سلاح متاح، حتى سكين المطبخ من دون العودة إلى قيادة «داعش»... ومن بعده دعا البغدادي إلى «استهداف المواطنين». وتوعد التنظيم عبر مؤسسة الإعلامية «دابق» بحرب تحت عنوان «الذئاب المنفردة».
في ذات السياق، لفت أحمد بان، إلى أن «التنظيم يسعى لاكتشاف أي ثغرة لإثبات الوجود أو تجنيد عناصر جُدد، خاصة وأن هناك عناصر (متشوقة للإرهاب)، وعندما يُنفذ (داعش) أي عمليات إرهابية، تبحث هذه العناصر عن التنظيم، نتيجة الانبهار».
من جانبه، قال الخبير الأمني اللواء فاروق المقرحي، مساعد وزير الداخلية المصري الأسبق، إن «تنظيمات الإرهاب خاصة (داعش) و(القاعدة) لن تتوانى عن سياسة التجنيد، ومن هنا تنبع فكرة الاعتماد على (الذئاب المنفردة) أو (العائدين) بشكل كبير».
وبينما رجح زغلول «حدوث بعض التغيرات داخل (داعش) عام 2020». قال اللواء المقرحي: «لا أظن عودة (داعش) بفائق قوته في 2020 والتي كان عليها خلال عامي 2014 و2015 نتيجة للحصار المتناهي؛ لكن الخوف من (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، لاستنزاف القوى الكبرى»، لافتاً إلى أن «كثيرا من العناصر (الانفرادية) تتحرك في أوروبا وأميركا بانسيابية داخل الدول، وهذا هو الخطر».