بوق «القاعدة».. سجل أسود في التفجير والتجنيد والاغتيال

عبد العزيز الطويلعي «أخو من طاع الله»: من ناشط إعلامي إلى أمير الاغتيالات

بوق «القاعدة».. سجل أسود في التفجير والتجنيد والاغتيال
TT

بوق «القاعدة».. سجل أسود في التفجير والتجنيد والاغتيال

بوق «القاعدة».. سجل أسود في التفجير والتجنيد والاغتيال

على الرغم من اللقب الذي ظلّ يلاحقه، منذ القبض عليه في التاسع من مايو (أيار) 2005، بأنه «وزير إعلام تنظيم القاعدة»، إلا أن صحيفة اتهام عبد العزيز بن رشيد الطويلعي العنزي الذي أعلن، أول من أمس السبت، عن تنفيذ حكم الإعدام فيه، تكشف عن سجل إرهابي أسود، شمل القيام بالتفجير والتخطيط لهجمات على كبار المسؤولين، وتشكيل خلايا اغتيالات، واستهداف منشآت الدولة الأمنية والاقتصادية، بينها محاولة تفجير مصافي النفط، وتجنيد مقاتلين، والارتباط بجماعات إرهابية في العراق بالإضافة إلى جمع الأموال وحيازة الأسلحة والمتفجرات لأغراض إرهابية، ومحاولة تجنيد غواصين لاستهداف السفن الأجنبية في البحر الأحمر.
عُرف عبد العزيز بن رشيد الطويلعي العنزي، الذي ظلّ متخفيًا سنوات عن أعين السلطات، حتى ألقي القبض عليه بعد مواجهة نارية في أحد أحياء الرياض، بأنه العقل الإعلامي لتنظيم القاعدة، وقد بدأ مسيرته مع هذا التنظيم منذ عام 2002، حين كان ناشطًا إعلاميًا ينافح عبر مواقع الإنترنت عن أفكار التنظيم ومبادئه، ودخل في حوارات طويلة مع نشطاء تابعين لحملة «السكينة»، وهي لجان مناصحة للفكر التكفيري كانت تابعة للحكومة السعودية، وكان وقتها يتخفى بأسماء مستعارة، بينها اسم ظل معروفًا في منتدى «سلفيون» المتعاطف مع «القاعدة»، هو عبد العزيز البكري.
لكن لقبه الأبرز كان «أخو من طاع الله»، وحمله حين اشتدّ عوده في إنتاج الأعمال الفكرية لتنظيم القاعدة، وكانت مسؤولاً عن إصدار مجلة «صوت الجهاد» لسان حال التنظيم، مثلما كان ناشطًا في الكتابة بمجلة «البتار»، وهي الأخرى ضمن إصدارات «القاعدة»، وفي مجال كتابة المقالات والأخبار، كان الطويلعي غزير الإنتاج، حيث دأب خلال الفترة من 2002 إلى 2005 على الكتابة لمجلة «صوت الجهاد»، وكان له فيها زاويتان ثابتتان بأسماء مستعارة؛ الأولى بعنوان «العقيدة أولاً» بالاسم المستعار «ناصر النجدي» ثم «فرحان الرويلي» وتتعلق بتكفير الحكومة السعودية، والثانية بعنوان: «فقه الجهاد» وكتبها باسم «عبد الله ناصر الرشيد»، كما كان يكتب زوايا غير ثابتة في جميع الإصدارات، مستخدمًا أسماء مستعارة بينها اسم «أخو من طاع الله» واسم «عبد الرحمن بن سالم الشمري»، كما دأب على نشر قصائد باسم «عبد العزيز بن مشرف البكري».
نشاطه الإعلامي كان يتجاوز الكتابة، إلى النشر واستخدام أساليب مبتكرة في نشر أعداد مجلة «صوت الجهاد» على شبكة الإنترنت، لكن القضاء السعودي أدانه كذلك بجرم التخابر والتنسيق مع المعارض المقيم في لندن سعد الفقيه، خصوصًا فيما يتعلق بنشر المجلة، أو تنسيق العمليات الإرهابية فيما بعد بحيث لا تتواكب مع دعوات الفقيه للتظاهر.
كان الطويلعي مسؤولاً عن رئاسة اللجنة الشرعية والإفتاء في فرع التنظيم في «جزيرة العرب»، مع عضويته في مجلس شورى التنظيم، وكان مرتبطًا بقائد التنظيم - آنذاك - عبد العزيز المقرن، وأصبح الطويلعي متحدثًا باسم تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وشارك في إنتاج عدد من الإصدارات الصوتية والمرئية عن هذا التنظيم، تتضمن الدعاية له وترويج أفكاره وتجنيد مقاتلين في صفوفه، وتحامل بشدة على منهج الدولة السعودية، وعلى قيادتها، منتهجًا أسلوب التكفير والتحريض عليها، ولم يكن يتحرز في إصدار الفتاوى التي تجيز قتل الجنود أو استباحة الأموال، أو اغتيال المسؤولين الحكوميين، خصوصًا القادة الأمنيين، ومهاجمة الأجانب المقيمين في السعودية، لكن أيضًا كانت له فتاوى تجيز قتل الكتاب السعوديين الذين كانوا يخالفون منهجه، أو يتصادمون مع أفكار تنظيم القاعدة، وصدرت له فتاوى تبيح لأتباعه قتل أنفسهم «الانتحار» خوفًا من تعرضهم للاعتقال ومن ثم تعريض المعلومات التي يمتلكونها للخطر.
وتكشف صحيفة الدعوى التي تحمل التهم التي أدين بها الطويلعي، جانبًا من علاقة التنظيم الإرهابي ببعض القنوات الفضائية، حيث تشير تلك التهم إلى قيام الطويلعي بالتواصل مع أحد الصحافيين في قناة مشهورة عبر الإنترنت «لغرض خدمة تنظيم القاعدة إعلاميًا»، وعمل على ربط صحافي تلك القناة بزعيم التنظيم عبد العزيز المقرن.
السجل الأسود
نشاطه الإعلامي، كان رأس جبل الجليد في سيرته الممزوجة بالعنف والإرهاب، حيث لعب دورًا بارزًا في التخطيط والقيام بالكثير من العمليات الإرهابية منذ تفجّر الإرهاب في 2003.
يُذكر أنه في 12 مايو من عام 2003 وقع انفجار استهدف ثلاثة مجمعات سكنية في الرياض، وأدت إلى مقتل 29 شخصًا، وإصابة نحو مائتين، وأعلنت «القاعدة» مسؤوليتها عن هذه الهجمات، كما يعتبر تفجير مجمع المحيا السكني غرب مدينة الرياض في الثامن من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2003 من أشد الأعمال الإرهابية التي نفذها تنظيم القاعدة، وأسفر الهجوم عن مقتل العشرات من السكان القاطنين في المجمع، واستخدمت في تفجير المجمع سيارة مفخخة بحمولة تزن 300 كيلوغرام في عملية انتحارية نتج عنها وفاة 17 شخصًا، وإصابة 122 من جنسيات مختلفة.
وفي 29 مايو 2004 اقتحمت مجموعة مسلحة، مجمع الواحة السكني في مدينة الخبر (شرق السعودية)، واحتجزت 45 رهينة، وتم قتل عدد من السكان، قبل أن تتمكن قوات الأمن السعودي من اقتحام المبنى بعد 48 ساعة، وتحرير الرهائن.
وفي 6 يونيو (حزيران) 2004، أدت عملية إرهابية في حي السويدي بالعاصمة السعودية الرياض إلى مقتل المصور التلفزيوني الآيرلندي سيمون كامبرز وإصابة زميله البريطاني فرانك غارنر مراسل هيئة الإذاعة البريطانية لشؤون الأمن، تلاها في 6 ديسمبر (كانون الأول) 2004 محاولة اقتحام فاشلة لمبنى القنصلية الأميركية في جدة، انتهت بمقتل 3 مسلحين، وإلقاء القبض على 2 آخرين، وسقوط عدد من القتلى من غير الأميركيين.
وفي 29 ديسمبر 2004 قام إرهابيون بعملية متزامنة، استهدفت الأولى مقر وزارة الداخلية في الرياض، عبر انتحاري فجّر سيارة، وأصيب رجل أمن عند حراسات البوابة الشرقية، والثانية استهداف مقر مركز تدريب قوات الطوارئ الخاصة في الرياض، عبر انتحاريين حاولا تفجير سيارة بالقرب من المركز، قبل أن تفجرهما السلطات الأمنية قبل دخول السيارة إلى مقر المركز.
خلال هذه الفترة، كان الطويلعي لاعبًا بارزًا في التخطيط وتنفيذ الأعمال الإرهابية، فضلاً عن نشاطه الإعلامي الذي عرف به.
واستغل الطويلعي الأحداث التي عقبت تفجير مجمع المحيا في تشكيل خلايا إرهابية تتولى التخطيط لأعمال ضخمة تستهدف النفط، واغتيال شخصيات، وكان هو شخصيًا مسؤولاً عن «إمارة خلية الاغتيالات»، وتحديد الأهداف المستهدفة، وهم «الأجانب، ورجال الأمن والضباط، المحققون، وبعض العلماء، وكبار مسؤولي الدولة، وقيادة قوات الطوارئ الخاصة، وبعض الكتّاب»، وكذلك التخطيط لاختطاف شخصيات من هذه الفئات والتنكيل بها وتسجيل اعترافات مصورة لها.
وشارك الطويلعي، فعليًا، في اغتيال نائب رئيس الحرس الوطني المساعد - آنذاك - من خلال التخطيط لاستهداف سيارته بقذائف مطورة من أكواع متفجرة، كما اشترك في التخطيط للقيام بعمليات اغتيال لولي العهد والنائب الثاني ووزير الداخلية ومساعده (آنذاك).
خطط الطويلعي لاستهداف المنشآت النفطية بالمنطقة الشرقية، وشرع في استهداف ميناء رأس تنورة أكبر موانئ تصدير النفط السعودي على الخليج العربي، كما خطط للقيام بعملية إرهابية تستهدف أنابيب النفط باستعمال الطلقات النارية الخارقة والأكواع المتفجرة، وكان يُعد العدة لإرسال انتحاري بسيارة مفخخة تستهدف إحدى المصالح النفطية.
وأدين كذلك بالشروع في تنفيذ عمليات تفجير إرهابية بمدينة الرياض، بينها تفجير مجمع سكني في شرق الرياض بسيارات مفخخة، وتم تحديد دوره في فرقة الاقتحام بمواجهة مدخل البوابة الرئيسة بإطلاق النار الكثيف حتى تتمكن السيارة المفخخة من تجاوز البوابة.
كذلك كان ضمن الخلية التي قامت بالتفجير في حي السفارات، وكان دوره مع أحد الإرهابيين الوقوف أمام موقع قوات الأمن الخاصة، وحمل كمية كبيرة من الأكواع المتفجرة، ورماها عليهم لإعاقتهم من الوصول للموقع المستهدف.
كما خطط لاستهداف مركز المباحث العامة بالرياض بعمليات إرهابية واستهداف مبنى مباحث الزلفي بعملية إرهابية، واشتباكه ضمن مجموعته مع قوات الأمن أثناء عملية مداهمة قوات الأمن لمنزل في حي الفيحاء، وهي المواجهة التي تمكن من الفرار بعد حمله سلاحه الرشاش «الكلاشنيكوف» ولبس الجعبة التي تحتوي على قنبلتين يدويتين وثلاثة مخازن مليئة بالذخيرة الحية للرشاش، وتمكنه من رمي قنبلة يدوية خارج سور المنزل باتجاه رجال الأمن في الخارج.
الطويلعي كان متهمًا بإطلاق النار على دورية أمنية ومدرعة كانتا مشاركتين ضمن مواجهة لرجال الأمن أثناء مداهمة منزل بحي الملك فهد، وكان وقتها متسلحًا بجعبته محتوية على ثلاثة مخازن رشاش مليئة بالذخيرة الحية وقنبلة يدوية وكوع متفجر ومسدس عيار 9 ملم ورشاش.
ومن بين العمليات الهجومية التي اشترك فيها الطويلعي اشتباكه مع قوات الأمن أثناء مداهمة في مكة المكرمة، حيث تمكن من الهروب مع رفقائه والاستيلاء على سيارتين من أصحابهما تحت تهديد السلاح، كما اشترك مع أعضاء التنظيم في مواجهة رجال الأمن أثناء مداهمة تمت قرب استاد الملك فهد، وقيامه بإطلاق النار بشكل مباشر على دوريتي الأمن وإشعاله الفتيل باثنين من الأكواع المتفجرة التي كانت بحوزته وإلقائها على الدوريات الأمنية.
كذلك محاولته تجنيد غواصين يجري تدريبهم على الغوص لاستهداف السفن الأجنبية أثناء مرورها بالمياه الدولية بالبحر الأحمر.
هو كذلك متهم بالمشاركة في تطوير سلاح تقليدي والمتمثل في استخدام الأكواع كقذائف، والتخطيط لتطوير ذلك السلاح ليكون أقوى تأثيرًا، كما تشير صحيفة اتهامه، إلى مشاركته بصنع قذيفتين بمنزل خلية الاغتيالات بمدينة الرياض، وسعيه لصنع كمية كبيرة من تلك القذائف لاستخدامها في عمليات تنظيم القاعدة داخل السعودية.
تكشف صحيفة الدعوى أن الطويلعي كان على علم بالعلاقة التي ربطت بين زعيم تنظيم القاعدة في جزيرة العرب عبد العزيز المقرن، وزعيم التنظيم في العراق أبو مصعب الزرقاوي، وقيام المقرن بإرسال مقاتلين سعوديين إلى العراق لتهريب الأسلحة إلى السعودية، وكذلك التستر على مخطط الزرقاوي بزرع مقاتلين منظمين ومدربين داخل المناطق السعودية بانتظار ساعة الصفر التي يحددها، حيث طلب الزرقاوي من المقاتلين الكمون حتى يتصل بهم ليقوموا بالعمل المسلح داخل السعودية.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.