الثقافة في فلسطين.. جوائز وفعاليات وحضور أدبي لافت.. وتحديات

المسرح الوطني ينتظر من ينقذه من وطأة الديون المتراكمة

زياد خداش  يتسلم  «جائزة فلسطين» من الرئيس الفلسطيني
زياد خداش يتسلم «جائزة فلسطين» من الرئيس الفلسطيني
TT

الثقافة في فلسطين.. جوائز وفعاليات وحضور أدبي لافت.. وتحديات

زياد خداش  يتسلم  «جائزة فلسطين» من الرئيس الفلسطيني
زياد خداش يتسلم «جائزة فلسطين» من الرئيس الفلسطيني

لعل من أبرز الأحداث الأدبية في عام 2015 بالنسبة للفلسطينيين، فوز الروائي أسامة العيسة عن روايته «مجانين بيت لحم» بـ«جائزة الشيخ زايد للكتاب» عن فرع الآداب، بعد منافسة حميمة ضمت إلى جانبه في القائمة القصيرة كلا من الشاعر الفلسطيني غسان زقطان عن مجموعته الشعرية «لا شامة تدل أمي علي»، والروائي المصري إبراهيم عبد المجيد عن روايته «هنا القاهرة».
واحتفى الوسط الأدبي خاصة والثقافي عامة، بوصول رواية عاطف أبو سيف «حياة معلقة» إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، وما رافقها من احتفاء نقدي وجماهيري جعلها من بين الأعمال المنافسة على الجائزة، علما بأنها المرة الأولى التي يصل فيها روائي فلسطيني من داخل الأراضي المحتلة عام 1967، وبالتحديد من غزة إلى القائمة القصيرة لهذه الجائزة.
على مستوى الشعر، كان الحضور الأبرز للشاعر غسان زقطان، فقد ظهر اسمه للعام الثاني على التوالي، ضمن المرشحين في القائمة القصيرة لـ«جائزة نيوستاد العالمية للأدب»، والتي تعرف بجائزة «نوبل أميركا»، وهو الفائز بجائزة «غريفين» العالمية قبل سنتين، وذلك عن عمله المترجم «كطير من القش وقصائد أخرى».
وفاز الشاعر الدكتور زياد مدوخ، رئيس قسم اللغة الفرنسية بجامعة الأقصى في غزة، ويكتب الشعر بالفرنسية، بجائزة التميز في مسابقة الشعر الدولية، التي تنظمها «مؤسسة الشعر الأوروبية»، ومقرها في العاصمة الفرنسية باريس.
وكان لفلسطين حضور متميز في الدورة الحادية والعشرين للمعرض الدولي للنشر والكتاب في الدار البيضاء، الذي حلت فيه فلسطين ضيف شرف، حيث شاركت في وفد ضم المبدعين الفلسطينيين من أدباء ومثقفين وفنانين من مختلف دول العالم، شاركوا في كثير من الندوات المتميزة، والأمسيات الأدبية والشعرية، والمعارض الفنية وعروض الأفلام، بينما كانوا يتابعون عن كثب نتائج جائزة «البوكر» التي أعلنت ضمن فعاليات المعرض، باعتبار فلسطين كانت من بين الدول المتنافسة من خلال رواية «حياة معلقة» لعاطف أبو سيف، الذي منعته حركة حماس، آنذاك، من المشاركة في الحفل والمعرض، رغم ورود اسمه في القائمة الرسمية الممثلة لفلسطين.
وشهد عام 2015، عودة جائزة الدولة التقديرية في الفنون والآداب والعلوم الإنسانية، بعد غياب استمر أربعة عشر عاما، حيث قررت لجنة الجائزة برئاسة الروائي والكاتب يحيى يخلف، بمنحها في الآداب لكل من الأديب محمد علي طه، والقاص زياد خداش، بينما ذهبت في الفنون إلى الثلاثي جبران، بينما كانت جائزة الدولة التقديرية عن مجمل الأعمال للدكتور حسام الخطيب.
ومنحت «مؤسسة محمود دوريش»، جائزة محمود درويش للثقافة والإبداع في دورتها السادسة لعام 2015، للمخرج السينمائي الفلسطيني هاني أبو أسعد، الذي ركز في مشروعه الإبداعي على قيم الحرية والعدالة لفلسطين والفلسطينيين، كما حصل على جائزة محمود درويش للإبداع العربي الكاتب والأديب العربي السوري الرائد في مجال القصة زكريا تامر، الذي يجمع بين جمالية السرد ورفعة الذوق، وبين الشجاعة والعناد في الدفاع عن حرية الإنسان وكرامته، ومواجهة الظلم والاستبداد، في حفل نظمته المؤسسة بمتحف محمود درويش في رام الله.
وعلى مستوى الفعاليات، استضاف متحف محمود درويش في مدينة رام الله عام 2015، عددا كبيرا من الأدباء العرب والفلسطينيين، من أبرزهم الروائي الجزائري واسيني الأعرج، الذي أطلق طبعة خاصة بفلسطين لسيرته الروائية «سيرة المشتهى»، الصادرة عن دار الأهلية للنشر والتوزيع في العاصمة الأردنية عمان، وأهدى ريعها لصالح الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، وكذلك الروائي الفلسطيني المقيم في لندن ربعي المدهون، الذي أطلق من المتحف روايته الجديدة «المصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة»، والروائي الفلسطيني أنور حامد، الذي استعرض تجربته الروائية في المتحف، خصوصا رواية «جنين 2000»، إضافة إلى الروائي عاطف أبو سيف الذي استعرض تجربته في «البوكر»، وتحدث عن روايته «حياة معلقة»، وغيرهم، بينما أطلقت عشرات الروايات ودواوين الشعر الجديدة لروائيين وشعراء مكرسين، وآخرين يطلقون أعمالهم الأولى أو الثانية، إضافة إلى عشرات المعارض الفنية، والعروض المسرحية، والأفلام السينمائية في إطار مشروع «الأربعا سينما»، الذي دخل عامه الثالث.
وبعد سلسلة النجاحات التي حققها مركز الشعر الدولي في مدينة مرسيليا الفرنسية، عبر برنامج «استيراد وتصدير»، في كل من دمشق وبيروت والإسكندرية والجزائر وطنجة وأمستردام، وهو المشروع الرامي إلى تحقيق نوع تواصل في الشعر المعاصر، حط رحاله هذا العام في رام الله، انطلاقا من متحف محمود درويش، الذي احتضن أمسية للشعراء المشاركين، وهم: غسان زقطان، وزهير أبو شايب، وبشير شلش من فلسطين، وجون دايف، وجون شارل دوبول من فرنسا، الذين اجتمعوا على مائدة مستديرة للخروج بقصائد مترجمة تضمها فيما بعد كتاب. وبذلك، شارك الشعراء في ترجمة قصائدهم، وهو مشروع رائد، واختيار رام الله لتكون محطته الجديدة إضافة مهمة إلى المشهد الثقافي عموما، والمشهد الشعري الفلسطيني على وجه الخصوص.
وتحت شعار «فلسطين حرية وثقافة»، انتظمت هذا العام فعاليات الملتقى الثقافي الفلسطيني السابع، ونظمته اللجنة الوطنية للتربية والثقافة والعلوم، انطلاقًا من حفل مركزي تحتضنه قاعة مبنى الهلال الأحمر الفلسطيني في مدينة البيرة.
وعلى عكس الدورات السابقة التي انحازت إلى فنون الغناء والرقص الشعبي عبر مطربين وفرق فلسطينية وعربية حققت حلمها بالغناء على أرض الوطن، كان من أبرزها الفنان الراحل «أبو عرب»، وفرقة العاشقين، وغيرهم، انحازت الدورة السابعة إلى الأدب بشتى صنوفه، دون إغفال الفنون الأخرى، عبر مشاركة شعراء وروائيين وكتاب ومسرحيين وسينمائيين من إسبانيا، ضيف شرف المهرجان، وروسيا، وداغستان، وبريطانيا، والعراق، وفلسطين. ومن أبرز المشاركين من إسبانيا: المسرحي والشاعر ميغيل أنشو فران بيو، والشاعرة والناقدة أبيلار غونثالث، والشاعر والقاص والناقد لبناني الأصل سمير دلغادو، والشاعرة ماري آنخلس فرنانغوميث، والشاعرة بيبا نييتو، والشاعر باو باديل، والشاعرة ماريا فيكتوريا كارو بيرنال، والسينمائي مانو تريو، والناشرة سارة مورينو.
وشارك في الملتقى القاص الروسي فلاديمير كروبين، والشاعر غينادي إيفانوف، ورئيس اتحاد كتاب روسيا الأديب أوليغ ميترافانوفيش بافيكين، وشاعر الشعب الداغستاني محمد أحمدوف، والكاتب العراقي المقيم في إسبانيا عبد الهادي سعدون.
ومن فلسطينيي الشتات شارك في الملتقى كل من: الشاعر والمترجم نزار سرطاوي، والأديب والشاعر رسمي أبو علي، والشاعر والكاتب محمد ضمرة، والشاعر عبد الله عيسى، بينما يشارك في الداخل الفلسطيني كل من: الكاتب والأديب سلمان ناطور، والشاعرة إيمان مصاروة، والشاعر أحمد فوزي أبو بكر، والمتخصصة في أدب الأطفال أنوار أيوب سرحان، والقاصة حنان جلبيلي عابد، والأكاديمية ريما عابد زينة، والشاعرة زهيرة صباغ، والشاعر فرحات فرحات، والكاتبة عناق مواسي، والكاتب والمخرج المسرحي عفيف شليوط، والشاعر سامي مهنا رئيس الاتحاد العام للكتاب العرب الفلسطينيين في الداخل.
وفجع الوسط الفني والثقافي في فلسطين برحيل رسام الكاريكاتير الشهير بهاء البخاري، رفيق درب الرسام الشهيد ناجي العلي، مخلفا آلاف الرسومات، واللوحات، والمعارض، وكثيرين ممن أحبوه وأحبوا معه «أبو العبد»، و«أم العبد» (شخصياته الرئيسية)، واعتبروه خليفة ناجي العلي، فالبخاري بات في السنوات العشرين السابقة أو في ربع القرن الأخير، رسام الكاريكاتير الأول في فلسطين، ورسولها إلى العالم في هذا المجال، حيث كان الملهم لكثير من الفنانين الشباب في مجال الرسم الكاريكاتيري، وبات عنوانا فلسطينيا له حضوره العالمي الطاغي، وهو الذي أنهى مشواره الكاريكاتيري في جريدة «الأيام» الفلسطينية، وعمل فيها منذ عام 1996، أي بعد تأسيسها بأشهر، بمثابرة، وإتقان، وحيوية، وابتكار، جعل من رسوماته الكاريكاتيرية عنوانا يوميا ليس على الصفحة الأخيرة في الجريدة، بل في عيون قرائها ومتابعيها.
ومع نهاية العام، وبالتحديد في الشهر الأخير منه، ابتهج الشارع الثقافي والأدبي والفني في فلسطين عموما باختيار الشاعر الفلسطيني الشاب د. إيهاب بسيسو وزيرا للثقافة، حيث لم يعتد المثقفون الفلسطينيون على اختيار وزير شاب وواحدا منهم لهذا المنصب، ما دفع كثيرين إلى التفاؤل، والتعويل كثيرا عليه في تطوير الحالة الثقافية الفلسطينية، خصوصا مع العلم بأن موازنة الثقافة لا تزيد على (0.01 في المائة) من الموازنة العامة للسلطة الفلسطينية. ولكن، وبعد يوم أو اثنين فقط، صدر مرسوم رئاسي فلسطيني طال مثقفين وأطاح بهم من مجلس أمناء «مؤسسة محمود درويش»، ليحل بدلا عنهم رجال أعمال، ما أثار حفيظة كثير من المثقفين والأدباء والفنانين بل وأسرة الشاعر درويش نفسه.
ومن جانب آخر، لا يزال المسرح الوطني الفلسطيني (الحكواتي)، وهو أحد أهم المراكز الثقافية العاملة، على قلتها، في القدس، ينتظر من ينقذه من وطأة الديون المتراكمة، التي تهدد بإغلاقه واستيلاء سلطات الاحتلال عليه، بعد عقود كان فيها علامة فارقة للثقافة الفلسطينية في القدس، التي يسعى الاحتلال لتهوديها بكل الطرق الممكنة.



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي