إعلان بلفورالحلقة3-3 : دخول أميركا الحرب العالمية الأولى دفع الصهاينة إلى التركيز على فلسطين

دعم الرئيس ويلسون وصديقه لويس براندايس لخطط بلفور عجل بحسم المواقف

لويس براندايس  ...الرئيس وودرو ويلسون  ...السير مارك سايكس  ...موسى كاظم الحسيني
لويس براندايس ...الرئيس وودرو ويلسون ...السير مارك سايكس ...موسى كاظم الحسيني
TT

إعلان بلفورالحلقة3-3 : دخول أميركا الحرب العالمية الأولى دفع الصهاينة إلى التركيز على فلسطين

لويس براندايس  ...الرئيس وودرو ويلسون  ...السير مارك سايكس  ...موسى كاظم الحسيني
لويس براندايس ...الرئيس وودرو ويلسون ...السير مارك سايكس ...موسى كاظم الحسيني

في الحلقة الثالثة والأخيرة من سلسلة «إعلان بلفور»، نعرض لتغير صورة المطالبة بوطن لليهود بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى في أغسطس (آب) 1914، ودخول تركيا طرفًا في الحرب مع الألمان ضد بريطانيا في نوفمبر (تشرين الثاني) من السنة نفسها. فبداية اقترحت أسماء بلاد متفرقة طرحتها الحكومة البريطانية، وتبنى تمويلها الأغنياء اليهود البريطانيون. ولم يكن يومها اسم فلسطين مطروحًا آنذاك بل العريش في سيناء، وأوغندا والأرجنتين، لأن فلسطين كانت جزءًا من الإمبراطورية العثمانية التي تربطها علاقات ومصالح مع بريطانيا. ولكن بعد تفجر الحرب بدأت الحركة الصهيونية تبذل جل نشاطها في جعل قضيتهم المركزية تتمحور حول فلسطين. ولذا احتدمت المعارك الدبلوماسية في المحافل المدنية والدهاليز الحكومية، فنشط خصوصًا حاييم وايزمن ومجموعته في لندن، وحاييم سوكولوف في باريس وروما، والقاضي لويس براندايس والصهاينة الأميركيون المقربون من الرئيس وودرو ويلسون في واشنطن لتكتمل الحلقة.
ما كانت الولايات المتحدة الأميركية قبل الحرب العالمية الأولى مهتمة بالحركة الصهيونية على الرغم من ازدياد أعداد المهاجرين اليهود إليها، ولكن تداعيات الحرب لم تعترف بالبعد الجغرافي عقبة، فألقت بظلالها لتدخل في المعمعة أسوة بالآخرين. لقد التزمت واشنطن الحياد طيلة سنوات تلك الحرب ضد ألمانيا لأسباب كثيرة، منها أن هناك أعدادا كبيرة من الأميركيين من أصول ألمانية وآيرلندية لا تحبذ المشاركة. وكذلك لأن كثرة من اليهود المهاجرين الذين ذاقوا آلام الحروب في أوروبا لفترات طويلة، فضلوا استقرار وهدوء حياتهم الجديدة في المهجر. ثم إن سياسة أميركا المتمثلة بالنأي عن سياسات الهيمنة والسيطرة والاستعمار التي عانت هي منها قبل استقلالها، انسجمت مع انصراف الرأي العام الأميركي عما يجري بعيدا عنه، ناهيك بأن أميركا كانت ضد التحالفات والمعاهدات السرية التي كانت شائعة في أوروبا، وتشكل جزءا من فصول مناخها السياسي. لكن الوضع بدأ يتغير عندما بادرت ألمانيا بحلول عام 1917 إلى التضييق على بريطانيا ومحاولة خنقها اقتصاديا، فباشرت بحرب الغواصات في المحيط الأطلسي لقطع طرق الإمدادات عنها.
ولفترة ما تغافل الأميركيون عن بعض ما أصابهم من خسائر بشرية ومادية. لكن برقيات من وزير خارجية ألمانيا آرثر زيمرمان التقطتها بريطانيا عن مشروع عقد حلف مع المكسيك، يتعهد بتزويدها بالسلاح والمساعدات لإقحام المكسيك - بعدما ساءت علاقتها مع أميركا - بحرب لاستعادة الولايات التي احتلها الأميركيون، وهي آريزونا وتكساس ونيومكسيكو، أثار الرأي العام الأميركي. عندها أعلنت أميركا الحرب على ألمانيا في 6 أبريل (نيسان) 1917، وتعهد الرئيس وودرو ويلسون أنه بهذا الإعلان سيوقف كل التحالفات والمعاهدات السرية في أوروبا بعد انتهاء الحرب.

التفاهم الأنجلو - أميركي

أثلج هذا صدر بريطانيا، ورأت فيه قرب نهاية ألمانيا وانتهاء الحرب، وعبر عنها وزير خارجيتها بلفور: «بأنها فرصة رومانتيكية لم أحظ بمثلها في حياتي كلها»، مغتنما المناسبة بترتيب زيارة تنسيق وتعاون حربيين لواشنطن بأسرع وقت ممكن. وجاءت موافقة ويلسون يوم 19 أبريل، مقترحا أن تكون المهمة دبلوماسية وليست عسكرية، ولكن بلفور كان قد غادر لندن بصحبة وفد من 25 عضوا من ضمنهم حاكم البنك المركزي، وجنرال وأميرال ومبعوث من وزارة التسليح. وأحيط سفر الوفد من ميناء غرينوك في اسكوتلندا على الباخرة «أولمبيك» بسرية بالغة، درءا من أخطار الغواصات الألمانية. وانتهت الرحلة البحرية في ميناء هاليفاكس بكندا يوم 20 أبريل، وانتقل الوفد بعدها صباحا، وغادر بواسطة قطار خاص إلى واشنطن، فوصلها بعد يومين، ولقي فيها استقبالا حافلا. وفي اليوم التالي قابل ويلسون، وعقدت المباحثات طوال إقامة دامت لمدة أربعة أسابيع، وكان سبق لبلفور أن أخبر وايزمن في 22 مارس (آذار) عن نيته زيارة أميركا خلال أبريل ومايو (أيار)، كما أطلعه على أن أميركا ستعلن الحرب على ألمانيا، وهو ما حدث في 6 أبريل.

لويس براندايس

كانت زيارة بلفور لمقابلة ويلسون شخصيا ذات أبعاد سياسية تتصل بالتعاون الأنجلو - أميركي المستمر إلى يومنا هذا، على الرغم من أن دخول أميركا بجانب حلفائها ضد ألمانيا تأخر بعض الشيء، إذ خمدت نيرانها بعد إعلان الهدنة يوم 11 نوفمبر 1918. لكن بلفور كان يريد أيضًا التأكد شخصيا من تأييد واشنطن منح الحركة الصهيونية ما تصبو إليه وتبتغيه، ويرغب أيضًا في التعرف عن قرب على القاضي لويس براندايس، أول يهودي يعين في المحكمة العليا الفيدرالية وأحد أشهر أقطاب الحركة الصهيونية الأميركية، والمستشار المقرب للرئيس الأميركي الذي لا يخفي تأييده بما يتعلق بمصالح اليهود في العالم.
بلفور سمع من براندايس عندما التقاه يوم 7 مايو كلمات «أن الآمال متعلقة بوطن قومي، وإسناد دعوة الحركة الصهيونية في تحقيق ذلك، وفقا لقيم الأخلاق والمبادئ الإنسانية لإيجاد وطن لليهود حسب الأماني التي تدعو إليها الطائفة اليهودية بأجمعها»، وهنا طمأنه بلفور بقوله «أنا صهيوني». ولاح بعد رده بأن براندايس كان مرتاحا لما سمعه عندما التقيا يومي 7 و10 مايو، وتعهد بلفور الصريح: «سأفعل كل ما بوسعي لتحقيق تلك الأماني». وكان سبق لويلسون أن أخبر براندايس يوم 6 مايو أنه «ينظر بعين الموافقة على أن تكون فلسطين تحت الحماية البريطانية»، وأنه طمأن الصهاينة الأميركيين لتأييده الأفكار الصهيونية. وهكذا تأكد بلفور بأن واشنطن مع إعلانه، علما بأن بريطانيا كانت تحتاج إلى إرضاء أميركا، لأنها كانت مثقلة بديون الخزانة الأميركية، لدفع نفقات الحرب الباهظة التي بلغت خلال سنواتها 850 مليون جنيه إسترليني.

رسالة روتشيلد

لدى وصول بلفور لندن تسلم رسالة من اللورد روتشيلد قبيل منتصف يونيو (حزيران) يطلب موعدا لمقابلته بصحبة وايزمن، الذي كان تلقى تطمينات براندايس حول لقائه بلفور. وعقد اللقاء بعد يومين في مكتبه بوزارة الخارجية. وكانت مبادرة روتشيلد بأن الوقت بات مناسبا للحكومة البريطانية، لإصدار إعلان يحقق أمل اليهود وأمانيهم، فجاء رد بلفور بالموافقة السريعة على المبدأ، وطلب إعداد مذكرة تحوي ما يحمله هاجسهم. ويذكر وايزمن في مذكراته «التجربة والخطأ» عن ذلك «قابلنا وزير الخارجية، ووضعنا أمامه حتمية الظروف، وأن الوقت مناسب لتقوم الحكومة البريطانية بإعلان مؤكد لتأييد مساعينا، وقد وعدنا السيد بلفور بأنه سيفعل ذلك، وطلب وضع مسودة لإعلان يناسبنا ليرفعه إلى (مجلس الحرب)». ويذكر أن لويد جورج قد ألف بعد تشكيل وزارته 7 ديسمبر (كانون الأول) 1916، لجنة صغيرة أطلق عليها «مجلس الحرب» مكونة من خمسة أعضاء برئاسته، وضمت وزير الحربية ألفرد ميلنر، ووزير الأسطول إدغار بونار لو، وكذلك رئيس الأركان، وممثلا عن حزب المعارضة، وأحيانا وزير الخارجية (بلفور) إذا دعت ضرورة ما يطرح لأخذ القرارات التي تحتاج إلى البث السريع ومنها مسودة الإعلان.
وعند تسلم الضوء الأخضر بدأ الصهاينة اتصالاتهم لتشكيل مجموعة لصياغة المسودة، وكانت مؤلفة من أركان «مدرسة مانشستر الصهيونية» برئاسة حاييم وايزمن وناحوم سوكولوف وإسرائيل سيف وسايمون ماركس وليون سايمون وآحاد حاعام، وأحيانا هاري ساخر، وأطلق على فريق العمل هذا اسم «اللجنة السياسية الصهيونية». وبدأت اجتماعات اللجنة في فندق «إمبريال هوتيل» بساحة راسل سكوير القريبة من محطة يوستون للسكك الحديدية بوسط لندن في بداية شهر يوليو (تموز) 1917. واكتملت المسودة في 17 من الشهر نفسه، ودفعت إلى اللورد روتشيلد يوم 18 يوليو الذي رفعها بدوره إلى بلفور وأرفقها برسالة يقول فيها:
(نص الرسالة - بتاريخ 18 يوليو 1917)
«عزيزي السيد بلفور.. وأخيرا تمكنت من أن أرسل إليك المسودة التي طلبت إعدادها، وأرجو أن تقوم حكومة صاحب الجلالة بإرسال رسالة لي على ضوء هذه المسودة إذا وافقت وأنت عليها، وسأسلمها إلى اللجنة الصهيونية، فيكون إعلانها باجتماع خاص لذلك، كما أنني آسف للقول بأن تحريضات مناوئينا هي لغرض إثارة المشكلات بين اليهود بريطانيا واليهود الأجانب، وقد ابتدأوا بذلك منذ يوم الأحد الماضي، حيث اجتمع مجلس المندوبين (اليهود) وتحدوا أعضاءها المنتخبين الجدد أن يثبتوا إذا كانوا مواطنين إنجليز بالولادة وأنا واحد منهم.. المخلص روتشيلد».
كانت المسودة التي صاغتها «اللجنة السياسية الصهيونية» عبارة عن مادتين؛ تحتوي الأولى على 19 كلمة، والثانية على 27 كلمة وترجمتها كما يلي:
1 - أن تقبل حكومة صاحب الجلالة مبدأ أن فلسطين يجب أن تشرع وطنا قوميا للشعب اليهودي.
2 - إن حكومة صاحب الجلالة ستسعى بكل ما في وسعها من أمانيه لبلوغ تلك المساعي، وتتباحث في الوسائل الضرورية من أجل تحقيق ذلك مع المنظمة الصهيونية.
وزعت نسخ من رسالة روتشيلد المؤرخة في 18 يوليو 1917 على أعضاء «مجلس الحرب» لمراجعتها في بداية أغسطس، وبعد ثلاثة أسابيع أبلغت وزارة الخارجية بأن المسودة موضع اهتمام. وفي بداية سبتمبر (أيلول) وضعت اقتراحات لعمل بعض التعديلات، بينما كان وايزمن، المعروف في أروقة السلطة بحكم عمله مسؤولا عن مختبرات تطوير المتفجرات ومستشارا في وزارة الأسطول، يستغل علاقاته الجيدة مع أغلبية أعضاء «مجلس الحرب» وسكرتاريته من ذوي الميول الصهيونية المعروفين بـ«الصهاينة الإنجليز». وكان العضو الوحيد المعارض هو اللورد كيرزون، وهو أكثرهم خبرة بشؤون الشرق الأوسط.
وايزمن كان يتابع التطورات، ويخشى أن يؤثر رأي كيرزون على البعض، خصوصًا أن أحد الوزراء، إدوين مونتيغيو، كان من أشد المعارضين لمنح الصهيونيين - على الرغم من يهوديته، وهو من أسرة يهودية غنية معروفة - أي تسهيلات لإعلان فلسطين دولة قومية لليهود، لأنه ضد أن يتجمع اليهود في وطن واحد، بل يحبذ أن يكون ولاء اليهود، خصوصًا البريطانيين منهم لوطنهم فقط، وأن يذوبوا في مجتمعه مع بقائهم على ديانتهم.
وبلغ النزاع أشده في اجتماعات مجلس الوزراء عندما شكل مونتيغيو عقبة شديدة أثناء نقاشات منح فلسطين وطنا قوميا لليهود، أدت إلى تأجيل البت في إعلانه بضعة أشهر، أجريت خلالها اتصالات بشخصيات يهودية بارزة سياسيا واقتصاديا، لأخذ وجهة نظرها بهذا الخصوص. وشارك مونتيغيو في هذا الرأي إلى حد ما ممثل حزب العمال المؤيد لسياسة الحزب الاشتراكي الروسي ضد الصهيونية ومشاريعها القومية والعنصرية. أما وايزمن فكان يجمع المعلومات ويرسلها إلى زملائه الصهاينة في أميركا، وعلى رأسهم براندايس.

مجندون يهود

أثناء تلك الفترة تشكلت كتيبة عسكرية من اليهود البريطانيين أطلق عليها كتيبة «درع داود». وكان عدد اليهود عام 1914 ما يقارب 300 ألف نسمة، وعدد الجنود اليهود المنخرطين في المجهود الحربي ما يفوق 10 في المائة من تعدادهم، وكان بعضهم يشغل مناصب قيادية وإدارية في الإدارة أثناء الانتداب على فلسطين، مما هيأ نواة قوة عسكرية استعانت بها في مخططاتها المستقبلية. وحين سئل لويد جورج عن وضع اليهود الروس في بريطانيا أخبره وايزمن أنه مستعد لتجهيز ألفين منهم، فهم مقاتلون جيدون كما أثبتتها «كتيبة البغال اليهودية» بقيادة زيئيف جابوتنسكي في «حملة الدردنيل»، ولديهم الآن الرغبة في الحرب بفلسطين. ارتاح لويد جورج لذلك، وقال إن «هذا نحتاجه في البلاد كما في أيام يوشع قبلهم». ومن خلال ذلك تظهر الطائفة بدورها هذا انتماءها للذود عن وطنها، ونيتها المخلصة خطوة للذوبان في المجتمع البريطاني، لتخفيف المعاناة من شعور الكره واللاسامية من جهة، بالمقابل جلبت الحرب الرفاهية لليهود المهاجرين الذي رفض بعضهم الخدمة في الجيش لأسباب دينية، ولكن معظمهم كانوا يعملون في صناعة ملابس الجيوش وصناعة الأحذية العسكرية، فالغالبية كانت تمتهن حرفا لسد تلك المتطلبات.
قدمت المسودة إلى «مجلس الحرب» مجددا في 3 سبتمبر 1917 أي بعد شهر ونصف الشهر من إعدادها (18 يوليو 1917)، وكان قد أجري عليها تعديلان خلال شهر أغسطس؛ التعديل الأول من قبل بلفور الذي جعل المادتين المنفصلة بنص واحد كرسالة تحتوي على 55 كلمة بإضافة بسيطة هي عبارة عن ست كلمات. وعند نهاية الشهر، أحالها للمراجعة إلى زميله ميلنر، عضو «المجلس»، الذي أجرى لها تعديلات خففت من لهجة المسودة الأولى، لكنه لم يكن متأكدا من حيثيات النصوص القانونية والبروتوكولية، فأحالها في 4 أكتوبر (تشرين الأول) إلى مساعد وزارة الحرب ليوبولد آيمري (جدته لأمه يهودية) السياسي والصحافي المراسل لجريدة «التايمز» لتغطية حرب جنوب أفريقيا عام 1899 - 1902 مع زميله وينستون تشرشل آنذاك. فأتم آيمري المهمة بتعديل أكثر شمولية وأدق محتوى من سابقيه بلغت كلماته 77 كلمة، وأنهى عمله هذا في 24 أكتوبر إلى المجلس الذي اعتمد 68 كلمة منه، وغيّر كلمة واحدة، وحذف تسع كلمات في نهاية النص تتعلق بالتابعية. كذلك غير عبارة «العنصر اليهودي» إلى «الشعب اليهودي»، و«وطن» إلى «وطن قومي»، وحذفت جملة «الاتصال بالمنظمة الصهيونية»، فاعتمدها المجلس بعد مداخلات الوزير اليهودي المعارض إدوين مونتيغيو (ولمن يريد الاستزادة مراجعة كتاب «الصهيونية.. مديات الافتراءات» لمؤلفه د. أحمد سوسة).
أرسلت نسخة من المسودة النهائية إلى ويلسون في 6 أكتوبر لاطلاعه وتوجيهاته، وكان وايزمن على اتصال مستمر ببراندايس للمتابعة والتنسيق حتى وصلت الموافقة في 16 أكتوبر لاعتمادها. وكانت بعض النسخ قد أرسلت إلى مجموعة من زعماء اليهود البريطانيين، ومن ضمنهم هربرت صمويل.

معارضة كيرزون

وفي الجلسة التي عقدت في 26 أكتوبر فوجئ أعضاء «المجلس» الذي كان ينوي التصويت النهائي بالاعتراض الذي قدمه اللورد كيرزون بمذكرة تحت عنوان «مستقبل فلسطين»، شارحا سلبيات الإعلان الذي رأى أنه يسيء إلى سمعة بريطانيا، والإجحاف الذي سيلحق بالعرب، ومغبة إنكار وجودهم المستقبلي بوصفهم أغلبية ساحقة لسكان فلسطين التي زارها شخصيا، وهو على معرفة بها، كونه مندوب الملك في الهند لعدة سنوات وله بالشرق الأوسط وأقطاره، خصوصا الخليج وبلاد فارس، أبحاث وكتب. وطرح توقعات صدقت لاحقا. ولعل ما يؤسف له أن المهتمين بالموضوع أهملوا هذا الجهد أو لم ينتبهوا إليه.
أصبح يوم 31 أكتوبر1917 الذي صادف الجمعة يوما تاريخيا، حيث جرى في الاجتماع الثالث والأخير لمناقشة مسودة الإعلان بتصويت شمل الغالبية من الأعضاء الخمسة، ماعدا كيرزون كما كان متوقعا. وحينما انفض الاجتماع هرع مارك سايكس (أحد كبار مستشاري مجلس الوزراء و«مهندس» الاتفاق السري الشهير لاقتسام البلاد العربية الواقعة تحت الهيمنة العثمانية الذي يحمل اسمه ورفيقه الدبلوماسي الفرنسي فرنسوا جورج - بيكو، وكان معروفا بميوله الصهيونية) مسرعا نحو وايزمن الذي كان يذرع أحد الممرات القريبة من قاعة الاجتماع كزوج ينتظر ولادة زوجته، ناقلا البشرى «إنه صبي»، فانطلق وايزمن لتهنئة زملائه من زعماء الحركة الصهيونية المجتمعين في بيته بشرق لندن. ويذكر شموئيل تلكوفسكي الذي كان بصحبته بأنه (وايزمن): «كان يتصرف مثل الطفل»، وقبلني لمدة طويلة، وألقى برأسه على كتفي ضاغطا على يدي مرددا عبارة «ما زل توف» (أي «مبروك» باليديش)، ورقص الجميع ابتهاجا، إذ حقق الصهاينة بذلك قيادتهم لليهود.
وفي 2 نوفمبر أرسل بلفور ردا لرسالة للورد ليونيل روتشيلد المؤرخة في 18 يوليو جاءت كما يلي:
«وزارة الخارجية: الثاني من نوفمبر 1917
عزيزي اللورد روتشيلد: أعلمكم بمنتهى السرور، نيابة عن حكومة صاحب الجلالة، بالإعلان التالي المعبر على التآزر مع الطموحات الصهيونية والذي عرض على المجلس، الذي وافق عليه: إن حكومة صاحب الجلالة تنظر وتؤيد تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهودها لتسهيل تحقيق تلك الغاية، على أن يفهم جليا بأنه لن يقوم عمل من شأنه أن ينقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق والوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى، وسأكون ممتنا إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علما بهذا الإعلان.
المخلص: آرثر بلفور».

لم يعلن نبأ فحوى الرسالة (الإعلان) أو ينشر بالصحف يومها. وكان رأي بعض كبار المسؤولين في الدولة انتظار نتائج سارة لمجرى المعارك الدائرة في غزة، إلى أن انتهت بسقوطها في 7 نوفمبر، وكذلك بأن تكون أسبقية النشر لجريدة «الجويش كرونيكل» الأسبوعية التي تصدر يوم الجمعة عادة. وصادف الإعلان الرسمي يوم 9 نوفمبر لتأخذ الجريدة الأسبقية. فالخبر بالدرجة الأولى يخص الطائفة اليهودية في بريطانيا، وليس الرأي العام البريطاني. كما أن الأسبوع كان مليئا بالأحداث الكبرى، مثل تقدم الجيش البريطاني نحو القدس الذي بات احتلالها وشيكا، وصادفت فترة الإعلان أيضًا اندلاع ثورة البلاشفة وسقوط الملكية القيصرية في روسيا.

مشاركة عربية

احتفل يهود بريطانيا بالمناسبة بعد شهر من تاريخ الإعلان، أي في 2 ديسمبر، إذ أقيم تجمع كبير لهم في دار الأوبرا بلندن، حضره جمع كبير من الصهيونيين والمؤيدين لهم من الساسة البريطانيين. وكان غريبا حضور نفر من العرب منهم المدعو إسماعيل عبد الله العكي الذي ألقى كلمة بالعربية وترجمها إسرائيل سيف، ووديع كسرواني الذي ألقاها بالفرنسية، ونشرت تفاصيلها في عدد كامل لجريدة «الجويش كرونيكل» الصادرة يوم الجمعة 7 ديسمبر 1917. أما في فلسطين فإن شدة المعارك فيها لم تترك مساحة أو فرصة لانتشار الإعلان، ومن ثم احتلال البلاد بالكامل بعد سقوط القدس 9 ديسمبر 1917، الذي أطلق عليه اسم «هدية عيد الميلاد». وحجبت سلطات الاحتلال البريطاني (التي حكمت البلاد عسكريا حتى يونيو 1920) أي ذكر له، معولة على الاعتقاد بأن الفلسطينيين سينسونه. ولقد تعاقب على حكم فلسطين حينذاك ثلاثة جنرالات أولهم إدموند أللنبي، إلى أن دخلت فترة الانتداب، وأسست فيها إدارة مدنية يدعمها وجود القوات العسكرية المحتلة، وتعيين الوزير اليهودي السابق هربرت صمويل مندوبا ساميا لفلسطين حتى عام 1925. لقد شبه أرثر كوستلر في كتابه «فلسطين 1917 - 1949: الوعد والتحقيق»، الصادر عام 1949، «إعلان بلفور» بقوله «هنا دولة تهب دولة أخرى تعود إلى دولة ثالثة، إنه تصرف غير ممكن، وإقحام غير طبيعي» كقول «الأبيض الأسود». لكن الحركة الصهيونية عرفت كيف تعطي تلك المناسبة بعدا وقداسة توراتية بقولها «منذ قورش الكبير لم يحدث في السجلات الماضية، حادث ولد منه حاسة عالية لسياسة واعية ونظرة بعيدة لدولة راسخة راعية للعدالة الإنسانية نحو اليهود بمنح هذا الإعلان الخالد»، كما ورد في رسالة وايزمن إلى بلفور بتاريخ 19 نوفمبر 1917.
من جهة أخرى، لئن احتفل اليهود بهذه المناسبة في كل أرجاء العالم، إلا أنهم في فلسطين سمعوا بذلك مصادفة. إذ يصف ناحوم غوتمان، الكاتب والفنان، في كتاب «مدينة صغيرة وسكان قليل» عن تل أبيب عام 1918 «أن ضابطا أستراليا من ضمن القوات البريطانية المحتلة سمع بينما كان في جولة تفتيش ليلية مع مجموعة من الجنود في تل أبيب، موسيقى تنبعث من بيت عازف كمان يعزف ألحانا مشهورة. وكان الضابط من عشاق الموسيقى الكلاسيكية، فأخذ ينصت بشغف إلى أن توقف العازف. عندها طرق الباب ليشكر العازف على حسن أدائه، ولما عرف أنه يهودي تطرق في كلام عابر لـ(إعلان بلفور)، فسرى الخبر سريان النار في الهشيم من بيت إلى بيت». ويكمل غوتمان: «هناك كثيرون لم يصدقوا قصة هذا الأسترالي، ولكن ناقلها العازف يصر على مصداقيتها بقوله (إن عشاق الموسيقى لا يكذبون). ولكن بين نسيج الكذب والخيال وبين الرواية والأسطورة، يمكن لمثل هذه القصة أن تجد حتما لها مكانا بينهما».

ردة الفعل العربية

وما إن بدأت موجات الهجرة اليهودية تنهال على البلاد تخللها انتشار الخبر، فكانت كالصاعق لبداية الاحتجاجات والاحتقان الجماهيري عام 1919. تلتها أعمال العنف في بداية 1920، حين انطلقت بمناسبة دينية صادفت عيدي «الفصح» و«علم النبي موسى» الذي يحتفل به المسلمون والمسيحيون، وهو تقليد ابتدأه صلاح الدين الأيوبي بعد هزيمة الصليبيين.
كان الصهاينة عازمين على تأسيس دولة إسرائيل منذ عام 1919، ولقد وصف هذه الحالة الجنرال البريطاني بورن الذي زار فلسطين حينها برسالة إلى بلفور بقوله «إن اليهود يفرضون أنفسهم في كل اتجاه ومنحى، ويطالبون أن تكون المناصب الرسمية لمؤيديهم ومناصريهم، ويتدخلون في كل صغيرة وكبيرة». وهو ما جعل السلطة البريطانية تقلل من دعمها لدعوة تأسيس دولة صهيونية، لأن ذلك يفرض على أرض الواقع ردة فعل العرب الذين تبلغ نسبتهم أضعاف السكان اليهود. ومن المحاولات اليائسة لصد التيار المندفع لفرض الصهاينة للأمر الواقع، كتب العرب رسائل شخصية إلى ملك بريطانيا معتقدين بإمكانية تدخله لصالحهم في القرار السياسي بالشكوى بأن المهاجرين من اليهود الروس ينشرون الشيوعية في البلاد، وأن السلطة المحتلة لم تأخذ أي تدابير للحيلولة دون وقوع ذلك. كذلك لم تثمر محاولة الوفد الفلسطيني الذي سافر إلى لندن في 25 يونيو 1921 برئاسة موسى كاظم الحسيني لتغيير الأمر وحلحلة الموقف. وبعد سنة صدر «الكتاب الأبيض» الرقم 1700 بتاريخ 22 يونيو 1922.
وبعد مؤتمر باريس قامت بعثة أميركية لتقصي الحقائق يرأسها هنري تشرشل كينغ وتشارلز كرين (من 10 يونيو إلى 18 أغسطس 1919). رفعت تقريرها بأن أهل فلسطين (العرب) عارضوا التوسع الصهيوني، وأضافت أن فكرة تأسيس وطن مستقل لليهود مشروع غير مجد، لكن لا أحد في الحكومة الأميركية أبدى أبسط اهتمام لما جاء في تقرير اللجنة، فركن ثلاث سنوات قبل إعلانه في ديسمبر 1922، ولم تعلن الأسباب وبقي ذلك اللغز العنيد الذي لم يحل بعد. ولكن قد يمكن تفسيره بما كتبه هرتزل في يومياته في يونيو 1901: «في يوم ما، وحين تتحقق إقامة دولة اليهود، كل ما يدور عنها سيظهر تافها لا قيمة له. وقد يكتب مؤرخ محايد أنه وجد شيئا قام به صحافي يهودي مفلس يعيش بين أعماق قهر الشعب اليهودي وقمة اللاسامية البغيضة، قد خلق علما من خرقة، وجعل من ذلك الرعاع التعيس أن يلم شعثه حول ذلك العلم».
* باحث كويتي



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».