من التاريخ: الآيديولوجية والحروب

من التاريخ: الآيديولوجية والحروب
TT

من التاريخ: الآيديولوجية والحروب

من التاريخ: الآيديولوجية والحروب

لقد اهتم علماء العلاقات الدولية بدراسة أسباب الحروب، وأفنى كثيرون منهم حياتهم سعيًا لمعرفة السبب الرئيس وراء اندلاع الحروب. فما الأمر الذي يدفع الساسة لإعلان الحروب، والدخول في أكثر التفاعلات الدولية كلفة بشريًا وماليًا؟
ثمة نظريات كثيرة في هذا المجال تسعى إلى شرح أسباب اللجوء للحروب أو الانزلاق إليها. وخصّ عدد منهم الآيديولوجية كعامل محرّك للحروب بين الدول، فكثرة من الحروب وصفت وتوصف بأنها حروب «دينية» أو «فكرية» أو «آيديولوجية»، إلا أن غالبيتها في الحقيقة لا يخلو من كونها عنصرًا واحدًا فقط ضمن تركيبة أسباب مختلفة تؤدي للحرب. وأغلب هذه الأحيان يكون الشكل هنا على حساب المضمون، فمعظم الحروب الآيديولوجية اندلعت لوجود أسباب أخرى مهمة وراء اندلاعها. ولقد تناولنا على مدار أسابيع طويلة في العام الماضي الحروب الصليبية (أو كما وصفها المؤرّخون المسلمون «حروب الفرنجة») - على سبيل المثال - وثبت أن أسبابها كانت سياسية وتوسعية وتجارية أكثر منها متصلة بالدين. والقصد أن الدين ما كان إلا غلالة تستر أهداف الملوك والأمراء من وراء تلك الحروب التي أعلنتها كنيسة روما على الإسلام. وبالتالي فإن ربط هذه الحروب بالدين حصرًا ربط غير دقيق، خصوصًا أن الدول كانت تلجأ لهذا الهدف كتبرير لكون الدين خير وسيلة للتعبئة الشعبية تاريخيًا في معظم الدول، وإن كان اليوم وسيلة قليلة الفعالية في بعض الدول، ولا سيما الدول الغربية حيث جرى فصل «المسيحية» عن «الدولة».
وارتباطًا بهذه الأطروحة وجدت في الدراسة العملية لعالم العلاقات الدولية كاليفي هولستي K. Holsti أفضل خريطة لفهم الحروب الدولية خلال الفترة الممتدة من عام 1648 وحتى عام 1989 (أي بُعيد سقوط الاتحاد السوفياتي). وتعكس هذه الدراسة بوضوح أن الدين أو الآيديولوجية لم يلعبا دورًا محوريًا كسبب أساسي لاندلاع الحروب على المستوى الدولي، وتستند الدراسة في ذلك إلى أهم التحليلات التالية:
أولاً: أن العامل المشترك لأغلبية الحروب على مدار هذه الفترة كان الاستحواذ على الأرض أو نشر النفوذ أو لأسباب استراتيجية مرتبطة بالأرض. ولقد مثل ذلك ما يقرب من 34% من الأسباب المؤدية لاندلاع الحروب خلال الفترة بين عامي 1648 و1814، سواء كسبب منفرد أو ضمن أسباب أخرى. ويلاحظ أن هذا العنصر بدأ يقل تدريجيًا بعد هذا التاريخ ليصبح قرابة 20% خلال الفترة من عام 1814 إلى عام 1945 (أي بنهاية الحرب العالمية الثانية). ثم تنحدر هذه النسبة لتصل لقرابة 8% خلال حقبة «الحرب الباردة». وهو ما يعني أن عامل التوسع الجغرافي بدأ يقل تدريجيًا مع انخفاض نسبة الحروب الدولية أخيرًا، ويرجع ذلك في التقدير إلى أن في العالم اليوم حدودًا دولية معروفة تحظى بالاعتراف والاحترام الدوليين، ومن ثم ما عاد عنصر الأرض يشكّل سببًا قويًا في الحروب الحديثة.
ثانيًا: مثّل عامل التجارة والاستحواذ على الطرق التجارية الدولية قرابة 15% من الأسباب المؤدية للحروب خلال الفترة من عام 1648 وحتى عام 1814، وهو أمر طبيعي بسبب الصراع الدولي على هذه الطرق خلال هذه الفترة وانتشار مفهوم «المركانتيلية» أو قصر التجارة بين الدولة الأم ومستعمراتها. ولكن بمرور الوقت أصبحت هذه النسبة منعدمة مع تطور الظروف الدولية، وإقرار مبدأ حرية التجارة الدولية وانتهاء السيطرة على الطرق الدولية للتجارة.
ثالثًا: مثلت وراثة العروش سببًا ملحوظًا في بعض الحروب – وبالذات في أوروبا – خلال الفترة من عام 1648 وحتى عام 1814، وصلت إلى قرابة 12%. ولكن مع تغير السياسة الدولية واستقرار مفهوم الدولة وسبل الحكم فيها اندثر هذا العنصر كسبب للحروب الدولية بشكله التقليدي.
رابعًا: مثل عنصر الحفاظ على الدولة وأنظمتها أكثر العناصر المستقرة على مر الفترات الزمنية بمعدل يصل إلى 7.5% تقريبًا. وهذا أمر مفهوم إذ إن بقاء الدول يعد عاملاً مستمرًا في السياسة الدولية ويؤدي إلى الحروب، فالتحالفات الدولية وأهداف كل دولة تمثل سببًا مباشرًا حتى اليوم في الحفاظ على الدولة أو تغيير نظامها السياسي. خامسًا: لم تمثل الآيديولوجية كعنصر مسبب للحروب إلا نسبة ضئيلة للغاية من أسباب الصراع الدولي لم تتخط في أحسن الحالات أكثر من 3% من أسباب اندلاع الصراعات. وهذا ما يعكس حقيقة أساسية هي أن الدين وحده ليس محركًا للحروب، بل لا بد من البحث عن المسبب الحقيقي بدل التركيز على الأسباب الشكلية.
سادسًا: تشير الدراسة إلى أنه خلال الفترة الباردة تلاحظ وجود تفتّت ملحوظ في الأسباب المؤدية للصراعات، إذ لم يعد هناك سبب واحد مهيمن على أسباب اندلاع الحروب، فغدا عنصر الإبقاء على الدولة أو النظام الحاكم يمثل قرابة 9%، بينما صارت العناصر الأخرى مثل الأراضي والحركات التحرّرية وبناء الدولة.. إلخ. أكثر ظهورًا من غيرها بنسب غير بعيدة عن الرقم سالف الذكر.
من كل ما سبق، يبدو واضحًا أن الآيديولوجيا والدين لم يلعبا دورًا سببًا محوريًا في اندلاع الحروب، ولكن تظل هناك آراء مختلفة تدفع بأن الدين يمثل سببًا مباشرًا على الرغم دحض الإحصائيات العلمية لدراسة الحرب على المستوى الدولي هذه التوجه. وهو ما يدفعنا للتأكيد على أن من الأسباب الأساسية وراء هذا الطرح تعدد نماذج الحروب الحديثة، لا سيما الحروب الأهلية منها، لتي تختلف بشكل شبه كامل عن أسباب اندلاع الحروب بين الدول. وهذا أمر مفهوم في ظل تغير أشكال النظام الدولي وانتشار عوامل العولمة على المستوى الدولي وأثرها المباشر على مفهوم «الدولة».
وتحضرني في هذه المرحلة نظرية «الحروب الجديدة» في العلاقات الدولية، التي تشير إلى أن من الأسباب الأساسية المؤدية لاندلاع هذه الحروب.. الضغوط التي تفرضها العولمة وتطور وسائل الاتصالات على هيكل الدولة وأنظمتها ومفاهيمها الداخلية بل وشرعية نظام الحكم فيها، خصوصًا الضغوط الثقافية والآيديولوجية. كل هذه الأسباب تؤثر مباشرة على تماسكها، وبالأخص، لأنها تمسّ تكوين الدولة وهويتها. وكثيرًا ما تُحدث هذه العوامل حالة من الانشطار الفكري لهوية دولة، وتشير هذه النظرية أيضًا إلى الدور الذي تلعبه منظمات المجتمع المدني سواءً إيجابا أو سلبًا في هذا الإطار من خلال استيعاب مفاهيم دولية قد لا تكون بالضرورة مناسبة للدولة وشعبها، والعكس صحيح. كل هذه العوامل تجعل الدول ومكوّنات تماسكها سببًا مباشرًا للتقويض الداخلي أو ظهور حالة تنافر ناتج عن التعددية الفكرية، مما يجعل الصراع ممكنًا ليس بين الدول بل على مستوى الدولة ذاتها Sub - state level، ويعضد من هذا التوجّه النظري لـ«الهيكليين» Constructivists في نظريات العلاقات الدولية، الذي يدفع بأن «الهوية الجماعية» هي العنصر الأساسي الذي يجب التركيز عليه لفهم الدولة وسياستها الخارجية بل وتركيبتها الداخلية أيضًا. وهنا يدخل الدين كمكون أساسي في الكثير من الدول التي أخذت تتأثر بشكل مباشر بالمفاهيم الجديدة التي تنشرها العولمة، فتجعل المجموعات داخل الدولة الواحدة تتأثر بشكل مباشر بما يحدث في العالم. وهو ما بات يهدد كثرة من الدول، وبخاصة تلك التي تفتقر إلى عناصر الوحدة الداخلية أو مفهوم «الشرعية» فيها، أو بدأت الأفكار الخارجية تؤثر سلبًا على التركيبة الفكرية لكثير من المجموعات المكونة للدولة فيها.
حقيقة الأمر أن الوقت قد حان لتسمية الأمور بأسمائها. فالدين لم يكن، ولا أتوقع أن يكون في المستقبل، عنصرًا حاسمًا للدفع بالعنف كسبب وراء اندلاع الحروب سواء القديمة منها أو الحديثة، ولكنه على أفضل الأحوال عنصرًا مساعدًا.



ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

شيل
شيل
TT

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

شيل
شيل

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ) و«الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، فإنه كان غالباً «الشريك» المطلوب لتشكيل الحكومات الائتلافية المتعاقبة.

النظام الانتخابي في ألمانيا يساعد على ذلك، فهو بفضل «التمثيل النسبي» يصعّب على أي من الحزبين الكبيرين الفوز بغالبية مطلقة تسمح له بالحكم منفرداً. والحال أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تحكم ألمانيا حكومات ائتلافية يقودها الحزب الفائز وبجانبه حزب أو أحزاب أخرى صغيرة. ومنذ تأسيس «الحزب الديمقراطي الحر»، عام 1948، شارك في 5 حكومات من بينها الحكومة الحالية، قادها أحد من الحزبين الأساسيين، وكان جزءاً من حكومات المستشارين كونراد أديناور وهيلموت كول وأنجيلا ميركل.

يتمتع الحزب بشيء من الليونة في سياسته التي تُعد «وسطية»، تسمح له بالدخول في ائتلافات يسارية أو يمينية، مع أنه قد يكون أقرب لليمين. وتتمحور سياسات

الحزب حول أفكار ليبرالية، بتركيز على الأسواق التي يؤمن بأنها يجب أن تكون حرة من دون تدخل الدولة باستثناء تحديد سياسات تنظيمية لخلق أطر العمل. وهدف الحزب الأساسي خلق وظائف ومناخ إيجابي للأعمال وتقليل البيروقراطية والقيود التنظيمية وتخفيض الضرائب والالتزام بعدم زيادة الدين العام.

غينشر

من جهة أخرى، يصف الحزب نفسه بأنه أوروبي التوجه، مؤيد للاتحاد الأوروبي ويدعو لسياسات أوروبية خارجية موحدة. وهو يُعد منفتحاً في سياسات الهجرة التي تفيد الأعمال، وقد أيد تحديث «قانون المواطنة» الذي أدخلته الحكومة وعدداً من القوانين الأخرى التي تسهل دخول اليد العاملة الماهرة التي يحتاج إليها الاقتصاد الألماني. لكنه عارض سياسات المستشارة السابقة أنجيلا ميركل المتعلقة بالهجرة وسماحها لمئات آلاف اللاجئين السوريين بالدخول، فهو مع أنه لا يعارض استقبال اللاجئين من حيث المبدأ، يدعو لتوزيعهم «بشكل عادل» على دول الاتحاد الأوروبي.

من أبرز قادة الحزب، فالتر شيل، الذي قاد الليبراليين من عام 1968 حتى عام 1974، وخدم في عدد من المناصب المهمة، وكان رئيساً لألمانيا الغربية بين عامي 1974 و1979. وقبل ذلك كان وزيراً للخارجية في حكومة فيلي براندت بين عامي 1969 و1974. وخلال فترة رئاسته للخارجية، كان مسؤولاً عن قيادة فترة التقارب مع ألمانيا الديمقراطية الشرقية.

هانس ديتريش غينشر زعيم آخر لليبراليين ترك تأثيراً كبيراً، وقاد الحزب بين عامي 1974 و1985، وكان وزيراً للخارجية ونائب المستشار بين عامي 1974 و1992، ما جعله وزير الخارجية الذي أمضى أطول فترة في المنصب في ألمانيا. ويعتبر غينشر دبلوماسياً بارعاً، استحق عن جدارة لقب «مهندس الوحدة الألمانية».