حكايات «ألف ليلة وليلة» العربية تغزو السينما العالمية

البداية كانت للسينما الصامتة.. والناطقة أكملت المشوار

«ليالي عربية» البرتغالي استوحى الاسم من مواضيع آنية، من فيلم ‪جون رولينز سنة 1942‬، «مغامرات الأمير أحمد» في أول فيلم كرتوني
«ليالي عربية» البرتغالي استوحى الاسم من مواضيع آنية، من فيلم ‪جون رولينز سنة 1942‬، «مغامرات الأمير أحمد» في أول فيلم كرتوني
TT

حكايات «ألف ليلة وليلة» العربية تغزو السينما العالمية

«ليالي عربية» البرتغالي استوحى الاسم من مواضيع آنية، من فيلم ‪جون رولينز سنة 1942‬، «مغامرات الأمير أحمد» في أول فيلم كرتوني
«ليالي عربية» البرتغالي استوحى الاسم من مواضيع آنية، من فيلم ‪جون رولينز سنة 1942‬، «مغامرات الأمير أحمد» في أول فيلم كرتوني

بحلول الفيلم الجديد «ليالي عربية»، للمخرج البرتغالي ميغويل غوميز، على الشاشات العالمية هذه الأيام، تبرز من جديد تلك الحكايات الخيالية الفاتنة التي وضعت من قبل مؤلف مجهول (أو عدة مؤلفين مجهولين) في كتاب قاوم الاندثار قرنًا وراء قرن.
السينما العالمية، حبا منها في الخيال والفانتازيا، وجدت في حكايات «ألف ليلة وليلة»، كما سماها المؤسس، كل ما تبحث عنه، مثل إيحاءات الشرق الغريب والغامض، والصحراء بصوامعها وقصورها، والعلاقات العاطفية المبنية على تقاليد ومفاهيم غير متداولة في الغرب، كما وجدت فيها المغامرات التي تنتمي إلى الخيال ما قبل العلمي.
فيلم غوميز، المؤلف من 383 دقيقة (ست ساعات طويلة و38 دقيقة) يستوحي ولا يسرد، يستلهم ولا يتبع، ويصيغ لكنه لا يقص أيًا من الحكايات الواردة في كتاب «ألف ليلة وليلة». يتبنى وجود حاجة المرأة إلى سرد حكاية كل ليلة للبقاء على قيد الحياة، لكن ما تسرده لا علاقة وطيدة له بالشرق. لقد طور ثماني حكايات من تأليفه ووضعها في ثلاثة أفلام – أجزاء، تحت عناوين منفصلة لكل جزء: «غير المستقر» و«البائس» و«الفاتن». كما أن الحكايات التي في داخل هذه الأجزاء تحمل عناوين مختلفة أيضًا، من بينها «سباحة الرائعين»، و«مالكو ديكسي»، و«الرجال المثارون دائمًا» وتتعامل، غالبًا، مع قضايا اجتماعية واقتصادية غربية.
* ما بعد ميلييس
حكاياته هنا هي إما روائية وإما روائية - تسجيلية على غرار فيلمه السابق «شهر أوغوست المحبب لدينا». والجزء الأول من فيلمه الجديد مؤلف من ثلاث حكايات مع فقرة تمهيدية. الجامع بينها هي أنها تعلق على الوضع الاقتصادي في البرتغال خلال السنوات القريبة السابقة. مثل سواها من الدول الأوروبية الغربية الأصغر قدرة على النمو، عانت البرتغال من أزمة طاحنة قبل ثلاثة أعوام. يظهر المخرج بنفسه ويطرح سؤالاً حول قوانين لعبة السينما (إذا ما وجدت!)، ثم يصور نفسه وهو يهجر مكان التصوير وفي أعقابه العاملون. هذا الجزء هو مزيج من التسجيل، في غالبه، والروائي الموفر كما لو كان تسجيليًا. بعد ذلك يدلف إلى حكاية تسخر من الطبقة الاقتصادية الفاسدة في بلاده.
هذه السخرية الماثلة في هذا الجزء تنتقل إلى باقي الحكايات في الجزأين التاليين. لكن القول بأن هذه المعالجة متساوية في جودتها سردًا وحرفة أو ذات قدرة متحدة على إثارة الاهتمام هو قول غير سليم، لذلك فإن لكل هذا الجهد هناته وإخفاقاته رغم أن التجربة ذاتها تستأهل الطموح المنوط بها.
«ليالي عربية»، حسب غوميز، هو الآخر، وليس الأخير في صرح الاقتباسات الأجنبية التي عرفتها السينما عن هذا المولود الشرقي منذ أن حبت السينما على أربع. في عام 1899 قام البريطاني جورج ألبرت سميث بإطلاق أول «علاء الدين» على الشاشة، وجورج ميلييس قدّم أول نسخة معروفة من «علي بابا والأربعين حرامي»، وذلك ما بين 1901 و1902. وفي عام 1905، وقبل ثلاث سنوات على إنجازه أشهر أفلامه (رحلة إلى القمر)، حقق نسخته من «علاء الدين» في ثلاث دقائق. ديكورات هذا الفيلم الشرقية تحيط بالمكان على نحو شبه رمزي، لكنها تلعب دورًا رئيسيًا في إمتاع الخيال.
على أن جهد ميلييس، التقني كما التنفيذي العام، في هذا الفيلم تم لمواطنه بول كابلاني تجاوزه في السنة ذاتها عندما أخرج «علاء الدين والمصباح العجيب». هذا كان من أوائل الأفلام الملونة في التاريخ، إن لم يكن أولها، وأيامها كان التلوين يتم مباشرة على الفيلم باليد. في مطلع الفيلم نرى علاء الدين نائمًا وأمه توقظه. في السوق (وكان النقل في تلك الأيام يتم بترًا في بعض الأحيان، ولم يكن استخدام البطاقات المكتوبة دارجًا بعد) يلتقي الأميرة التي سيدافع عنها بعد قليل. فجأة هناك ساحر مقرب من القصر، يقود علاء الدين إلى البرية، حيث يطلب منه النزول في حفرة ليحضر له مصباحًا خاصًا. ينصاع علاء الدين ليجد نفسه فيما يشبه القصر تحت الأرض. هنا يستخدم الفيلم طاقاته القصوى في الخدع والمؤثرات، فهناك جرار وتماثيل مسحورة تتحرك وتتحول إلى بشر أو أرواح، لكن علاء الدين لا يضيع وقتًا طويلاً، بل يتقدم إلى المصباح السحري ويأخذه. يحاول الساحر إقناعه بتسليمه المصباح مقابل مساعدته على الخروج من الحفرة، لكن علاء الدين يرفض فيغلق الساحر المكان عليه ويمضي. يدور علاء الدين في مكانه محتارًا فيما يفعل حاملاً المصباح بين يديه ومن دون قصد يفركه فيخرج منه عفريت صغير (مزيد من الخدع السينمائية المبكرة)، وهذا يخرجه من الحفرة فيعود علاء الدين حاملاً المصباح إلى أمه، ويطلب العفريت ثانية فيخرج له هذه المرة مارد عملاق يمنحه الملابس والطعام والذهب، ويحوله من فقير إلى ثري، ويعود إلى والدته ويزوجه السلطان ابنته و.. يستيقظ علاء الدين من نومه فإذا به لا يزال في فقره ووضعه المدقعين.
* الألمانية المنصفة
علاء الدين في أكثر من عشرة أفلام صامتة وقصيرة أخرى من عام 1907 حتى 1927 عندما قامت السينما الهندية بالاقتباس تحت العنوان ذاته، ولو أن اسم مخرج هذا الفيلم الصامت ما زال مجهولاً.
قبل ذلك، وبعد عام من محاولة ميلييس سرد حكاية «علي بابا والأربعين حرامي»، قام سيغوندو دو شومو، وهو مخرج فرنسي آخر حقق ما يزيد على 280 فيلمًا ما بين إخراج وتصوير ومؤثرات خاصة حتى نهاية 1927، قبل عامين من موته، بإنجاز «علي بابا والأربعين حرامي» آخر. وهو يبدأ بعلي بابا وهو يدخل المغارة (الخدعة السينمائية الممارسة حينها كانت جيدة بمقاييس ذلك الزمن)، ثم قطع عليه وهو يعود إلى زوجته السعيدة. رجل يدخل عليهما اسمه قاسم متعجبًا وغاضبًا من ثروة على بابا المفاجئة فيدله على بابا على المغارة. يذهب قاسم إليها، فينتشي بما يجده من ثروات وينسى نفسه. تعود العصابة فجأة وتبدأ نساؤها بالرقص، لكن قائدهم يكتشف وجود قاسم ويأمر بقطع رأسه في الحال. من هنا ننتقل إلى البراميل خارج قصر ما، لكن لا أحد يخرج منها. لاحقا في القصر هناك رقص آخر، لكنه أكثر إثارة من سابقه. لا شيء يحدث في أعقاب ذلك، وينتهي الفيلم في عشر دقائق تقريبًا. ما يرويه هو قصة بسيطة إنما غير مترابطة. الخدع فيها مثيرة كذلك استخدام الألوان، لكن الحكاية أضعف من أن تؤخذ على محمل حرفي حتى بالنسبة لفيلم من تلك الآونة.
يمكن المضي في سرد التاريخ السينمائي لهاتين الشخصيتين إلى ما لا نهاية، لكن الأمر لم يتوقف عند حدود «علاء الدين» و«علي بابا»، بل شمل منذ نطق السينما استعارات عدة وعلى نحو شاسع سمح للمخرجين السباحة صوب شخصيات أكثر والاستيحاء من مطلق الأجواء التي تكتنزها الروايات المختلفة الكامنة بين دفتي الكتاب.
لكن قبل أفول المرحلة الصامتة كان لا بد لفيلم مميز وفريد من نوعه في تلك الفترة أن يتحقق تبعًا لما كانت هذه الروايات الشرقية تحتله من مكانة في مخيلة السينمائيين. وهذا الفيلم المميز قدر له أن يكون «مغامرات الأمير أحمد» الذي أنجزته الألمانية لوتي راينيغر سنة 1926، وكان أول فيلم رسوم متحركة طويل في العالم.
لوتي راينيغر ولدت في برلين سنة 1889، وتوفيت في لندن سنة 1981. درست المسرح في مدينة مولدها في عام 1916، لكن هواها كان صنع رسوم متحركة عمادها الصور الظلية (سيلوويت). ساهمت في سنة 1918 في أفلام روائية حية، لكنها منذ عام 1922 أخذت تصنع أفلامًا كرتونية صغيرة طورتها بتقنية خاصة إلى ما نسميه اليوم «Silhouette Animation»، وكان «مغامرات الأمير أحمد» أول إنتاجاتها ضمن هذه التقنية. بدأته في سنة 1922، وعرضته في عام 1926 (وشاهده هذا في عرض يتيم تم في عام 1985 بلندن).
فيه تقرر الأميرة دينارزاده الهرب من الساحر الشرير الذي يتقدم للزواج بها، فتلجأ مع أخيها الأمير أحمد إلى البلاط الصيني. هناك يقع الأمير أحمد في حب صينية جميلة، لكن الإمبراطور الصيني يود الزواج بها. يهرب أحمد وشقيقته والصينية عائدين في الوقت الذي يتصدى فيه علاء الدين، الواقع في حب الأميرة شقيقة أحمد، للساحر الشرير ويقضي عليه. حين يعود الأمير إلى بغداد يكتشف أن المغول استولوا على الحكم فيقود حملة لإنقاذ الخليفة وينتصر عليهم.
* وآخر جديد
ليس فقط أن المخرجة تبرهن على عشق ملحوظ لعالم «ألف ليلة وليلة»، بل تستبعد أي شخصية عربية شريرة من الفيلم. أشرار الفيلم هي تلك المخلوقات الشيطانية غير الآدمية التي تظهر قبيل نهاية النهاية كمال المغول الذين يريدون غزو البلاد. وباستثناء متعاون عربي مع المغول محدود الظهور فإن البطولة كلها للشخصيات العربية الناصعة. وتميز الفيلم بإصرار مخرجته على إتقان عمل لم يسبقها إليه أحد حتى ذلك الحين. هناك جمال خاص في عملية تحريك صور مقصوصة سوداء على خلفية بيضاء لخلق الصورة المتحركة. جمال المحاولة البدائية ونجاحها التقني في أن تصبح عماد الفيلم وسبيله السردي الوحيد. هذا لجانب الاهتمام بالصور الخلفية (ثابتة ومتحركة) التي هي بمثابة ديكور. لا عجب أن راينيغر عملت على الفيلم لثلاث أو أربع سنوات قبل أن يجهز.
لكن الفترة الصامتة لم تكن أقل ثراء بالنسبة لحكايات «ألف ليلة وليلة». سنة 1942، على سبيل المثال، شهدت ولادة «ليالي عربية» من توقيع المخرج جون رولينز وبطولة جون هول في دور هارون الرشيد (خلف شهريار)، والممثلة الدومينيكية التي شهدت نجومية سريعة ماريا مونتيز في دور شهرزاد. في ذلك الفيلم نجد هارون الرشيد ضحية مؤامرة أخيه لقلب نظام حكمه، مما يجعله لاجئا مع جماعة من الممثلين والمهرجين من قبل أن يعود إلى سدة الحكم بفضل أعوانه المخلصين.
وسعى المخرج الإيطالي الراحل لاستيحاء الأساطير وإلباسها موضوعاته الشخصية في «ليالي عربية» آخر حققه سنة 1974 لكن مزيدا من هذه الأعمال انتشر، في السينما وفي التلفزيون، طوال العقود المتوالية منذ فيلم جون رولينز ذاك.
وحاليا يقوم المخرج تشاك راسل (الذي أخرج «القناع» مع جيم كاري، و«الملك العقرب» مع دواين جونسون) بالتحضير لتصوير فيلم آخر بالعنوان نفسه «ليالي عربية»، ضاما فيه بعض أشهر شخصيات تلك الحكايات مثل «السندباد» و«علاء الدين» و«شهرزاد».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)